وبالرغم من أن العديد من كبار رجال الاقتصاد قد أيدوا وجود نعيم الإذاعة في بادئ الأمر باعتدال باعتباره مسكنا للعمال الساخطين، فقد انقلبوا الآن ضده. كانت شهوتهم هي السلطة، ولكي يحظوا بالسلطة كانوا يحتاجون إلى عبيد يسيطرون على كدحهم من أجل مغامراتهم الصناعية العظيمة؛ ولهذا فقد اخترعوا آلة تكون مسكنا ومحفزا في الوقت ذاته. فقد سعوا من خلال وسائل الدعاية جميعها إلى أن يثيروا الولع بالقومية والكراهية العرقية. لقد ابتكروا «الفاشية الأخرى» في واقع الأمر، بكامل أكاذيبها، وهوسها العجيب بالسلالة والدولة، واحتقارها للعقل وتمجيدها للسيادة الوحشية، وجاذبيتها لدوافع الصغار المضللين: الخسيسة منها والطيبة في الوقت ذاته.
كان ثمة جماعة صغيرة ومرتبكة في كل بلد، والتي تعارض كل معارضي نعيم الإذاعة هؤلاء وتعارض على نحو متساو نعيم الإذاعة نفسه، تؤكد أن الهدف الحقيقي من النشاط الإنساني هو خلق مجتمع عالمي من الأشخاص اليقظين الذين يتسمون بالذكاء الإبداعي وتجمع بينهم روابط البصيرة والاحترام، والمهمة المشتركة في تحقيق إمكانيات الروح البشرية على الأرض. كان القدر الأكبر من تعاليمهم هو إعادة تأكيد لتعاليم عرافين دينيين من ماض راق بعيد، لكنها قد تأثرت أيضا بالعلوم المعاصرة على نحو عميق. بالرغم من ذلك، فقد أساء العلماء فهم هذه الجماعة، ولعنها رجال الدين، وسخر منها ذوو النزعة العسكرية، وتجاهلها مؤيدو نعيم الإذاعة.
الآن في هذا الوقت، كان التخبط الاقتصادي يدفع الإمبراطوريات التجارية العظيمة في الأرض الأخرى إلى منافسة أكثر استماتة على الأسواق. وقد اجتمعت هذه المنافسات الاقتصادية مع العواطف القبلية القديمة المتمثلة في الخوف والكراهية والفخر لتتسبب في سلسلة لا تنتهي من أشباح الحرب كان كل منها يهدد بموقعة هرمجدون عالمية.
وفي هذا الظرف أوضح المتحمسون لمشروع الإذاعة أن الحرب لن تحدث أبدا إذا قبلت سياستهم، أما إذا اندلعت الحرب العالمية، فسوف تؤجل سياستهم إلى أجل غير مسمى. لقد اختلقوا حركة عالمية داعية للسلام، وكان التأييد لنعيم الإذاعة قويا للغاية حتى إن المطالبة بالسلام قد اكتسحت جميع البلدان. وأخيرا تأسست «هيئة عالمية للبث» للترويج لإنجيل الإذاعة، وإيجاد الاختلافات بين الإمبراطوريات، والاستيلاء على سيادة العالم في نهاية المطاف.
وفي هذه الأثناء، كان «المتدينون» المتحمسون وكذلك ذوو النزعة العسكرية المخلصون يشعرون بالقلق عن وجه حق من وضاعة الدوافع الكامنة خلف النزعة العالمية الجديدة، غير أنهم كانوا مخطئين بالدرجة نفسها في سلوكهم؛ إذ عزموا على إنقاذ «البشر الآخرين» رغما عنهم من خلال تحريض الشعوب على الحرب؛ فجميع قوى الدعاية والفساد المالي قد سخرت على نحو ملحمي من أجل إثارة عواطف القومية. بالرغم من ذلك، فقد أصبح الطمع لنعيم الإذاعة شاملا وقويا للغاية بحلول ذلك الوقت، حتى إن حزب الحرب لم يكن لينجح لولا ثروة كبار مصنعي الأسلحة وخبرتهم في تأجيج الصراع.
اندلعت المشاكل بنجاح بين إحدى الإمبراطوريات التجارية القديمة وبين دولة أخرى كانت قد بدأت حديثا في تبني أسس الحضارة الآلية، غير أنها قد أصبحت قوة عظمى بالفعل، وقد كانت قوة في أمس الحاجة إلى الأسواق. الإذاعة، التي كانت من قبل هي القوة الأساسية الدافعة إلى التوجه الكوني، قد أصبحت فجأة هي المحفز الأساسي للقومية في جميع البلاد. صباحا وظهرا ومساء، كان كل شعب من الشعوب المتحضرة يتلقى التأكيدات بأن الأعداء، والذين هم بالطبع ذوو نكهات كريهة ودونية، يخططون لتدميرهم. مخاوف التسلح وقصص الجواسيس وروايات السلوكيات الوحشية والسادية لدى الشعوب المجاورة، قد خلقت في جميع البلدان الكراهية والشك غير الناقد مما يعني أن الحرب قد أصبحت حتمية. نشأ خلاف حول السيطرة على أحد الأقاليم الحدودية. وفي تلك الأيام الحاسمة، تصادف وجودي أنا وبفالتو في مدينة حدودية كبيرة. لن أنسى أبدا كيف أن الجماهير قد انغمست في كراهية تكاد تكون جنونية. جميع الأفكار المتعلقة بالأخوة الإنسانية وحتى تلك المتعلقة بالأمان الشخصي، قد اكتسحها التعطش الشديد الوحشي للدماء. الحكومات التي أصابها الهلع قد بدأت في قذف قنابل صاروخية طويلة المدى على جيرانها الخطرين. وفي غضون بضعة أسابيع كان العديد من عواصم الأرض الأخرى قد دمرت من الهواء. الشعوب جميعها قد بدأت الآن في بذل كل ما في وسعها لكي تحدث من الضرر أكثر مما تتلقاه.
أما عن أهوال هذه الحرب، ودمار مدينة تلو المدينة، والمضيفين الذين أصابهم الهلع وراحوا يتضورون جوعا واندفعوا حشودا إلى الريف المفتوح ينهبون ويقتلون، والمجاعة والمرض، وتدهور الخدمات الاجتماعية، وظهور الديكتاتوريات العسكرية العديمة الرحمة، والتدهور المستمر بل الكارثي للثقافة وجميع مظاهر التهذيب والعطف في العلاقات الشخصية؛ فما من حاجة للحديث بالتفصيل عن كل ذلك.
وعوضا عن ذلك، سوف أحاول أن أفسر حتمية المصيبة التي حلت بالبشر الآخرين. إن نوعي البشري لم يكن ليسمح لنفسه بالطبع إذا تعرض لظروف مشابهة بأن يكتسح بالكامل هكذا. لا شك أننا نواجه احتمالية وقوع حرب تكاد لا تقل دمارا عن تلك الحرب، لكن مهما كانت الفاجعة التي تنتظرنا، لا بد أننا سنتعافى منها بالتأكيد. ربما نكون حمقى، لكننا دائما ما نتمكن من تفادي السقوط في هاوية الجنون الشامل. ففي اللحظة الأخيرة، يفرض التعقل ذاته من جديد مترددا، غير أن الأمر ليس كذلك في حالة البشر الآخرين. (3) مستقبل السلالة
كلما طالت المدة التي قضيتها على الأرض الأخرى، زاد شكي في أنه لا بد من وجود اختلاف كامن هام بين السلالة البشرية هذه وبين السلالة البشرية التي أنتمي إليها. ومن الواضح أن هذا الاختلاف كان يتمثل بطريقة ما في التوازن. لقد كانت سلالتنا تتسم بوجه عام بدرجة أفضل من التكامل، وقدر أكبر من هبة المنطق السليم، مع نزعة أقل للانغماس في المغالاة من خلال الانفصام الذهني.
وربما يكون المثال الأبرز على المغالاة لدى البشر الآخرين هو ذلك الدور الذي كان يشغله الدين في مجتمعاتهم الأكثر تقدما. لقد كان للدين سلطة أكبر بكثير من تلك التي كانت له على كوكبي، وقد كانت تعاليم الأنبياء القدماء قادرة على أن تشعل الحماسة حتى في قلبي الغريب فاتر الهمة. غير أن الدين، الذي كنت ألاحظه حولي في المجتمع المعاصر، كان بعيدا كل البعد عن التنوير.
صفحة غير معروفة