أثناء جلوسه بالمقهى ذات صباح ، وبعدما استقر مقام «المبروك»، تجرأ «مصلح» وقرأ خبرا من جريدته عن القبض على نصاب مشعوذ. استحال الخبر مشاحنة كبيرة، وبما أن «الأستاذ مصلح» «صاحب ملك» في الحارة، فقد انتهى الأمر بقرار جماعي من أهل الحارة بطرد بائع الجرائد الذي اعتبروه مشاركا في إشعال «الفتنة» بالحارة، وحظر بيع الصحف نهائيا.
تبدلت حال الحارة؛ بدءا من اسمها الذي حمل من «البركة» نصيبا. ولم يكن «المبروك» يرد سائلا، ولكن إجاباته كانت دائما همهمات وأشباه كلمات، يفسرها كل حسب فقهه الخاص، فصارت الحارة مبكى للتائهين الباحثين عن خلاص من مأساتهم، ورشد لتيههم.
لم يعد للحارة شاغل سوى «المبروك» وكراماته التي لا نعلم يقينا صدقها من كذبها، وصارت حكاياته حاضرة في السهرات، مثل فك نحس ابنة «أم محمود»، ذات الخمسة والعشرين ربيعا، التي توسلت إلى «المبروك» أن يمر بعتبة بيتها، لعل «ابن الحلال» يأتي ويطرق بابها، وهو ما حصل بعد أيام. تلك البركة جرأت صبي المقهى المشاغب على اقتراح أن يرش من ماء استحمام المبروك على عتبات أبواب الحارة للتبرك، وهو ما نفذه الجميع.
تحولت الحارة إلى بياض تام، بلون الجلابيب التي اتسع نطاق مرتديها، حتى حجب الرؤية. بياض لم يعد يحتمله «الأستاذ مصلح» وأسرته، وهو الذي اعتاد اختلاف الألوان والأشكال، فحزم أمتعته، بينما تظاهر رجال الحارة ونساؤها بأنهم لم يلحظوه، فرحل دون سلام أو وداع، ومع آخر شعاع لمصابيح سيارة الأجرة التي ركبها، تنهد الجميع ورددوا: «استراح وأراح.»
صارت الحارة وكأنها تدور في حلقة دروشة لا تنتهي إلا بدوار وشعور بالغثيان. كم استمر الأمر؟ وكم بقي «المبروك» بينهم؟ لا نعلم. الحكايات تؤكد وجوده سنوات طوالا، حتى جاءه يوما بعض المتوسمين حلولا لخيباتهم، وحينما هموا بالدخول وجدوه جالسا متقوسا، حاملا رأسه بين ركبتيه، فبقوا على بسطته ساعات طوالا. وحينما قلقوا لاستمراره على وضعه، اقترحوا اقتحام خلوته.
وبعد مداولات على من يتولى إيقاظه، تطوع صبي المقهى بهزه، فسقط على الفور بين قدميه. خرج الصبي لاهثا ينعيه لقومه، فركبهم الغم والحزن. وحينما أفاقوا على حقيقة الخبر انشغلوا ثانية بدفنه، وتساءلوا: هل يغسلونه أم يدفنونه على حاله؟ وكيف يخلعون ثيابه ويكشفون عورته؟ وهل هم أهل لذلك؟ ثم دثروه بعباءته، وأهالوا عليه التراب حينما بدأت رائحة الموت تخيم على المكان.
عاشوا حدادا طويلا، لم يفارقوا فيه عتبته، ظلوا يرددون حكاياته وكراماته؛ ربما خشية النسيان، أو فقدان ما كان يميزهم. وبعد تفكير، وحينما فشلوا في استيعاب فراقه، أقاموا عند قبره مقاما ظل الناس يحجون إليه، وتطوع صبي المقهى بحراسته.
وبعد أسابيع، استيقظت الحارة على صوت جهوري يشبه صوت «المبروك»، وحديث يشبه كلماته المتقاطعة. ظنوا، وهم يتخبطون في الظلام في طريقهم إلى مقامه، أن معجزة أخرى انشق عنها قبر «المبروك». دخلوا، فلاحظوه في عباءته يدور في حلقات متتالية، ووجهه للسماء يطلق همهماته، وحينما بدأت عيونهم تستبين الوجه، رأوا صبي المقهى الذي أخبرهم أن «مسا» من المبروك قد جاءه ومنحه عباءته وبركته. ورغم المفاجأة، انفرجت أسارير الرجال لعودة «المبروك» إلى حارتهم.
قطعة سكر
بدأت كمداعبة منك، حتى أدمنت أنا تلك العادة، أحمل إليك مشروباتي، تزحف إلى شفتيك لتختلس منها قطعة سكر. تضحكين، وتسألين بدلال عمن سرق قطعة السكر، وخبأها بين حباتك اللؤلئية. أغار حينها من الكوب لحظه الوافر في أن ينهل من حلاوتك بلا رقيب.
صفحة غير معروفة