قاطعته السيدة في شيء من الإشفاق والتعاطف وربتت على كتفه سائلة بابتسامة دافئة وبلهجة مطمئنة: أنا أعرف كل القصة، فريدة لا تخفي عني شيئا؛ إنها تحبك وقد عرفت ذلك منذ البداية. إنها ابنتنا الوحيدة كما تعرف وقد قضيت أنا وأبوها عمرينا من أجلها، نحن لا نريد من الدنيا غير أن نطمئن على مستقبلها. هل ستعتني بابنتي؟ هل تعتقد حقا أنه بإمكانك إسعادها؟
أجاب في حماس وهو يسترد أنفاسه مرة أخرى: نعم، نعم أؤكد ذلك لحضرتك.
ردت وعلى وجهها نفس الابتسامة: إذن استعد لمقابلة والد فريدة بعدما تحصل على شهادتك الجامعية بإذن الله، أظن أنه لم يتبق على ذلك إلا شهور قليلة. أتمنى لك التوفيق، وليقدم الله ما فيه الخير.
تمت الخطبة بعد شهرين من تخرجه، في حفل عائلي بسيط اجتمعت فيه الأسرتان في بيت فريدة، لم يكن ثمة داع لإنفاق المال على إحدى تلك القاعات التي انتشرت في المدينة وصارت موضة بين الناس، رغم أن العادة جرت منذ القدم على أن تقام الخطبة في بيت العروس. يتكلف أقل حفل في تلك القاعات الجديدة ما يكفي لشراء غرفتين كاملتين من الأثاث. وكان اتفاقه مع والد فريدة أن لا يتحدثا في توقيت الزفاف قبل تخرجها، وكان يتبقى على تخرجها آنذاك عامان.
يونيو 1993م
على كورنيش سابا باشا حيث كانا يلتقيان في نادي المهندسين خلال إجازاته القصيرة التي يحصل عليها من وحدته العسكرية كل شهر أو نحو ذلك، والتي يضيع نصفها في طريق السفر والعودة ما بين الإسكندرية وبين موقع كتيبته النائي قرب السلوم؛ اشتاق إليها كثيرا، ولكنه كالعادة لم يفلح قط في الإفصاح عما بداخله. تعودت فريدة على طبعه الجاف، لطالما لم يكن يجيد إظهار مشاعره رغم رقته التي تدركها. عملي هو، شخص براجماتي يحركه عقله المنظم كحاسب آلي، لا قلبه ولا مشاعره. كان يفترض فيها أن تفهمه دون كلام، ولكنها كانت تريده أن يتكلم، كانت تحب أن يغازلها وأن تسمع منه كلمات العشق، كانت تغضب منه؛ تظن أنه منشغل عنها وأنها مجرد شخص ثانوي في حياته المتخمة بالعمل وباهتماماته الأخرى، بينما كان هو يستغرب غيرتها من انشغاله بالمشروع العسكري الذي انخرط فيه خلال فترة تجنيده قرب الحدود الغربية خاصة أنه عمل بدون أجر ولأجل الوطن فقط.
ترقبت هي إجازاته بشغف طوال أشهر التجنيد الطويلة، لم يكن ياسين يشتكي كثيرا من الحياة العسكرية كأقرانه، لم يكن مدللا بطبعه، وكان بإمكانه التكيف مع الحياة الخشنة؛ كانت طبيعة شخصيته تمكنه من أن يتكيف مع أي وضع بشكل عام، كما أنه كان يحب ما يعمل ويشعر بأهميته وبأهمية ما يشارك فيه لوطنه ولجيش بلاده. لم يكن حتى يفصح كثيرا عن طبيعة المهمة التي يؤديها في ذلك المشروع حتى أمامها هي؛ حفاظا على قواعد السرية كما نصت تعليمات قائده في الكتيبة. كان ملتزما بالتعليمات بشكل صارم وبلا تذمر؛ تعليمات المأكل والملبس والمظهر والمواعيد. اشتاق إليها كثيرا في الليالي الباردة الموحشة التي قضاها في الكتيبة الصحراوية النائية، اشتاق إلى صوتها وإلى لمسة يدها، وإلى حبات الترمس التي تلقيها في فمه وهي تتمشى بجواره على رصيف الكورنيش ما بين نادي المهندسين وذلك الكازينو ذي الأشرعة الخرسانية البيضاء عند لسان جليم، وإلى شطائر الجبن الأبيض بشرائح الطماطم التي تصنعها له في المنزل وتلفها في أوراق بيضاء رقيقة. لكنه كالعادة لم يكن يجيد الإفصاح عن أي من ذلك؛ فكانت لقاءاتهما تنتهي في الغالب بعتاب منها، وبابتسامة تجمع بين السخرية والمرارة مع تمتمة خافتة كرد على تبريره لحديثه الطويل عن الكتيبة والجيش والمشروع العسكري بدلا من الحديث عن حبه وأشواقه لها: حسنا، لا يهم. وهل سأكون أنا أكثر أهمية من الوطن؟
يناير 1994م
خلف مكتب معدني رمادي اللون من النوع الذي كان منتشرا في كل الشركات في تلك السنوات، والذي كان يعرف باسم «مكتب إيديال»؛ جلس ياسين على كرسي معدني مغطى بجلد صناعي أسود رخيص، ومبطن بطبقة رقيقة من الإسفنج يبرز طرفها من أحد جوانب الكرسي المهترئة، وأمامه على سطح المكتب جهاز كمبيوتر من الطراز الأفقي الذي تستقر فوقه شاشة ثقيلة من مقاس الأربع عشرة بوصة. كان قد حصل على هذه الوظيفة في شركة للمحاسبة القانونية بعد انتهاء شهور خدمته العسكرية بوساطة أحد معارف والده، ولأنه كان أحد القلائل الذين يجيدون استخدام برامج الكمبيوتر المحاسبية التي كانت قد بدأت تجد طريقها للانتشار في السوق كبديل أسرع وأكثر كفاءة لأنظمة المحاسبة اليدوية التقليدية. لم يكن الراتب كبيرا، لكنه كان - في البداية على الأقل - مرضيا له كشاب أعزب؛ لأنه كان يؤمن له الاستقلال المادي عن والده للمرة الأولى في عمره، كما كان يمكنه من دعوة فريدة للخروج من وقت لآخر، أو من شراء هدية بسيطة لها في المناسبات، أو ربما شراء بعض قطع الثياب الجديدة له هو أيضا، لكنه بالتأكيد لم يكن يمثل مصدرا للدخل يصلح ليؤسس به بيتا أو ينفق منه على أسرة.
لم تكن لديه مشكلة كبيرة في الالتزام بمواعيد العمل كما حدث لغالبية أصدقائه الذين لم يكونوا يتصورون أن ينتقلوا من حياة الحرية والانطلاق الجامعية الخالية من الالتزامات، إلى حياة الوظيفة ذات الجدول الأسبوعي الصارم الذي يتضمن ستة أيام عمل، من الثامنة صباحا إلى الخامسة عصرا، مع إجازات شحيحة وصعبة الإدراك. لكن لأنه كان كذلك يعمل ما يحب فلم تكن ساعات العمل تمثل عبئا كبيرا عليه، كان في الحقيقة يستمتع بالعمل كما يستمتع بحياته بعد ساعات العمل وفي يوم الإجازة الأسبوعية، كان يتقدم في عمله مع الوقت ويتعلم ممن هم أقدم منه وتزداد خبرته، وكان على الجانب الآخر يجد الوقت للخروج مع فريدة في الأوقات التي لا تكون فيها منشغلة بمشاريعها في الكلية، وكذلك للقراءة وللعب كرة القدم وللاستماع إلى الموسيقى وللذهاب إلى السينما ولحضور ليالي المديح الصوفية. اعتاد على أن ينتظر أصحابه أيام الخميس بعد انتهاء العمل مساء على رصيف محطة ترام سيدي جابر، حيث يكون بعضهم قد استقل الترام المتجه إلى محطة الرمل من محطات سابقة، ووقف عند النافذة الأولى ناحية اليمين في العربة الأخيرة للترام كما كان اتفاقهم الدائم، فيلوح بيده لياسين عندما يدخل الترام إلى محطة سيدي جابر ليصعد إلى الترام. ثم يستمرون في التقاط أصحابهم من المحطات التالية بنفس الطريقة؛ فيركب من يركب من سبورتنج ومن الإبراهيمية ومن كامب شيزار ومن الشاطبي. ومن لم يكن موجودا على رصيف محطته المعتادة فإنه ربما غير رأيه أو حدث له طارئ ما، يمكنهم معرفته عبر الهاتف بعد نهاية السهرة. ينزلون جميعا في محطة الرمل حيث يتسكعون بلا هدف أمام المحلات ويتجادلون حول نتائج مباريات الكرة أو حول أحدث الأفلام أو الإصدارات الموسيقية، ربما يدخلون إلى السينما إذا سمحت ميزانياتهم بذلك، ثم يبتاعون إما شطائر الفول والفلافل من المحل الشهير الكائن في أول شارع على جهة اليسار، من بداية شارع سعد زغلول، أو الكبدة على الطريقة السكندرية من ذلك المحل الضئيل المختبئ في شارع خلفي بجوار سينما مترو، ثم ربما يشربون عصير القصب بعد ذلك في طريقهم عائدين لمحطة الترام حيث محل الفشار الأشهر. كان ياسين يعود من تلك السهرات البريئة رائق البال مبتهجا، لكنه كان يعلم جيدا عندما يضع رأسه على الوسادة أنه إنما كان يهرب يختبئ وسط أصحابه هربا من الإجابة على الأسئلة الصعبة التي لا يملك لها إجابة ولا يريد التفكير فيها، أسئلة مثل؛ من أين ستأتي بالمال لتأثيث الشقة التي تكفل والدك بدفع مقدم ثمنها، وستقوم أنت فقط بسداد الأقساط؟ وكيف ستتحمل مصروفات ومسئولية بيت مفتوح؟ ماذا ستفعل في المستقبل؟ هل ستقضي بقية عمرك في تلك الشركة؟ ما هي حدود طموحك؟ أين أحلامك؟ وكيف ستحقق أيا منها؟ •••
صفحة غير معروفة