قد اشتهر أن هذا القطر زراعي، وأن الصنائع لا تقوم لها قائمة لخلوه من الفحم والحديد وكثير من المواد. نعم إنه قطر زراعي، ولكن أليس من أنواع المزروعات ما هو من مواد الصناعة؟ وهل مصر خالية من كل المواد الأخرى الصالحة لها؟ ثم هل خلو بلد من البلدان من بعض مواد الصناعة حائل دون الاشتغال بها؟ وإذا كان الأمر كذلك، فبماذا نفسر اشتغال جمهور الصناع بإنجلترا بصناعة المنسوجات القطنية مع أن الجزر البريطانية لا تنبت فيها شجرة القطن؟ فالحق في ذلك أن الهمم تذلل الصعاب، وأن الصنائع في مصر ميسورة بوجود كثير من خاماتها، وسهولة جلب الكثير من المواد الأخرى إليها؛ لتوسط موقعها، ورخص ما تتكلفه الصنائع فيها برخص مرافق الحياة، خصوصا لطبقة الصناع والعمال.
وقد كان هذا القطر في تاريخه القديم صناعيا، بل كانت شهرته الصناعية تسامي شهرته الزراعية، وليس في كل بلدان أوروبة الفحم والحديد، ولم يحل ذلك دون اشتغال أهلها بالصنائع المختلفة. وقد استغنى كثير من بلادها عن الفحم - والحاجة أم الاختراع - فحولوا تيارات الأنهر إلى قوة دونها بمراحل قوة نار الفحم، مع رخص الأولى وغلاء الثانية.
والصنائع يتولد بعضها من بعض، وتنمو وتتناسل كالكائنات الحية، فقليلها يكون كثيرا على توالي الأيام متى صدقت العزائم وتوجهت الهمم.
لذلك نعرض على القراء صفحة من تاريخ مصر في أيام محييها جدنا الأعظم محمد علي؛ ليروا ما أنتجته قوة العزيمة من الصنائع، التي تولاها الذبول بموته إلى أن أصبحت اليوم أثرا بعد عين، ولو عني بها خلفاؤه عنايته بها لكان لمصر منها ثروة عظيمة، ولربما تغير تاريخها فعاشت مستقلة عزيزة الجانب إلى الآن.
الفائدة التي نريد أن نستخلصها من هذه العبرة اليوم هي صلاحية بلادنا لكثير من مختلف الصنائع، وصلاحية أهلها للنبوغ فيها، وأن الاستقلال الحقيقي الذي غرس بذوره محمد علي في مصر، والذي نروم أن نظفر به الآن لا يتم لنا والبلاد مفتقرة افتقارا معيبا في شئونها الاقتصادية إلى غيرها، وليس ذلك فقط، بل هي مهددة في المادة الوحيدة التي عليها المعول في حياتها بما ستنتجه المستعمرات البريطانية عاجلا أو آجلا من القطن، فيجب أن يجعل المصريون ذلك نصب أعينهم، ويعدوا له عدته حتى لا تفاجئهم الكوارث بغتة وهم غافلون. وإننا ننقل هذه الصفحة التاريخية من كتاب مانجان وكلوت وهامون مع الاختصار والتلخيص: (1) مصانع الغزل والنسيج بالقاهرة (1-1) مصنع الخرنفش
في مصنع الخرنفش مائة دولاب؛ عشرة لغزل الخيط الثخين، وتسعون للخيط الدقيق، وفي الأولى مائة مغزل وثمانية، وفي الأخرى مائتان وستة عشر مغزلا. وهذا هو المتبع في هذه الصناعة، فكل دولاب للخيوط الثخينة يكون بإزائه تسعة للخيوط الدقيقة.
وفي المصنع نحو السبعين آلة لتجهيز القطن قبل غزله مع نحو هذا العدد من عدد دواليب الغزل.
وفي قسم النسيج ثلاثمائة نول لصنع البفتة والبصمة والشاش الموصلي والباتستة وغيرها، وبعدما تبيض هذه المصنوعات بالمبيضة التي أنشئت لهذه الغاية بين بولاق وشبرا تعاد إلى مخازن الخرنفش لتباع فيها. ويباع ثوب البفتة الجيدة الذي عرضه ذراعان وطوله اثنتان وثلاثون ذراعا بستين قرشا، والتي أقل جودة بخمسين قرشا، وثوب الباتستة الذي عرضه ذراعان إلا ربعا وطوله سبع عشرة ذراعا ونصف ذراع بخمسة وثلاثين قرشا، وثوب الشاش الموصلي الذي عرضه ذراعان إلا ربعا وطوله اثنتان وثلاثون ذراعا بخمسين قرشا.
وكان البيع أولا بالنقد والنسيئة، ثم أبطلت النسيئة على أثر الخسائر الفادحة الذي كانت سببا فيها.
وفي مصنع الخرنفش ورش للحدادة والسباكة والبرادة والخراطة والنجارة ألحقت به لتصليح ما يعطب من آلاته. (1-2) فابريقة مالطة
صفحة غير معروفة