وأكثر ما يقع من الفساد من صحبة الظلمة والقرب منهم والركون إليهم وأكثر ما يعين على المعاصي والفساد ناس من الظلمة من أهل الشرطة وغيرهم، وأهل المعاصي يتخذون عندهم أيادي ليحموهم ويذبوا عنهم من يتعرض لهم؛ وذلك أن الظلمة جعلوا سحتا مرتبا لهم على أهل المعاصي والفساد من النساء الفاجرات، ومن عنده خمر أو مسكر على اختلاف أنواعه مرصد عنده للبيع، فإذا أخذوا منهم هذا السحت المرتب لهم يحمونهم ممن يشوش عليهم، فيقرونهم على معاصيهم، ويبيحون لهم ذلك قال الله تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت) . نزلت في اليهود كانوا يسمعون ممن يكذب عندهم، ويأخذون الرشوة ممن يحكمون له، والرشوة ممن يشفعون له، فنزلت هذه الآية الكريمة وذمهم الله تعالى على فعلهم. فإنا لله وإنا إليه راجعون. ثم اعلم أن الله وصف الظالمين ستة عشر وصفًا: الأول: وصفهم بأنهم لا يحبهم الله فقال: (والله لا يحب الظالمين) الثاني: وصفهم بأنهم لا ينصرهم الله فقال: (وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير) . نظيره (والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير) .
الثالث: نهى عن القرب منهم فقال: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) . نظيره: (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) الرابع: ذكر أنه لا يهديهم فقال: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) الخامس: ذكرهم بأنهم لا يفلحون فقال: (أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون) نظيره: (من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون) السادس: ذكر بأنه أوعدهم وهددهم فقال: (وسيعلم الذين ظلموا لي منقلب ينقلبون) ونظيره: (والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا) السابع: ذكر خراب بيوتهم فقال: (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) نظيره: (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة) الثامن: ذكر أن الويل لهم فقال (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) نظيره: (قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين) التاسع: ذكره أنه قد أعد لهم النار فقال: (إنا أعتدنا للظالمين نارًا) نظيره (عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها) العاشر: ذكر أنه يبعثهم عند الموت فقال: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت) نظيره: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) الحادي عشر: ذكر أنه أعد عذابًا أليمًا فقال: (إن الظالمين لهم عذاب أليم) ونظيره: (الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق) الثاني عشر: أخبر عن ندامتهم يوم القيامة فقال: (وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مردّ من سبيل) نظيره (يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين) الثالث عشر: لعنهم الله: (أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) نظيره: (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين) الرابع عشر: ذكر هلاكهم فقال: (ذلك أَن لَّمْ يكن ربك مهلك القرى الظلم وأهلها غافلون) نظيره قوله: (إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين) الخامس عشر: ذكر حسرتهم على الظالم فقال جل وعلا: (ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعًا ومثله معه) نظيره: (وترى الظالمين مشفقين مما كسبوا) السادس عشر: ذكر سوء عواقبهم فقال تعالى: (كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) . نظيره: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماَ وعلوًا وقال الصقلي: اقشعرت الأرض وأقلعت السماء من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات لفسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال، وشكى الكرام الكاتبون والمعقبون الحافظون لرب العالمين، فبادروا - رحمكم الله - بالتوبة والإقلاع عسى أن يندفع بها أمور - في الشدائد - عُظَام قد بدت روايحها فنسأل الله النجاة منها والسلامة منآفاتها. وقال: ستكون فتن لا يستقر ذو دين في بادية لأجل ظلم سلطانهم، ولا يقر أحد في حاضرة لأجل خبث علمائهم، ولا يبقى أحد في ثغر لأجل فسق قرائهم، فلا راحة حينئذ في البدو إلا يبذل المال وصيانة الدين، ولا راحة في الثغر إلا في الانقباض والوحشة والهرب والعزلة والرضى بالذلة والقلة وتوديع الناس جميعًا في الدين والدنيا.
فصل
في مجانبة الظلمة
1 / 42