بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في «صلاة الجماعة» بيّنت فيها: مفهوم صلاة الجماعة، وحكمها، وفوائدها، وفضلها، وفضل المشي إليها، وآداب المشي إليها، وانعقادها باثنين، وإدراكها بركعة، وأن صلاة الجماعة الثانية مشروعة لمن فاتته صلاة الجماعة الأولى مع الإمام، وأن من صلى ثم أدرك جماعة أعادها معهم نافلة، وأن المسبوق يدخل مع الإمام على أي حال وجده، ولكن لا يعتد بركعة لا يدرك ركوعها، ويصلي ما بقي من صلاته إذا سلم إمامه.
1 / 3
وقرنتُ كلَّ مسألة بدليلها.
وقد استفدت كثيرًا من تقريرات وترجيحات شيخنا سماحة الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز ﵀ ورفع درجاته في جنات النعيم.
والله تعالى أسأل أن يجعل هذا العمل مقبولًا، مباركًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه سبحانه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
حرر في ضحى يوم الأربعاء الموافق ٢٧/ ٢/١٤٢١هـ
1 / 4
المبحث الأول: مفهوم صلاة الجماعة لغة واصطلاحًا:
١ - الصلاة لغة: الدعاء، قاله الله تعالى: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ (١) أي ادعُ لهم، وقال النبي ﷺ: «إذا دُعي أحدكم فليُجِبْ، فإن كان صائمًا فليصلِّ، وإن كان مفطرًا فليطعم» (٢).
أي فليدعُ بالبركة والخير والمغفرة (٣)، والصلاة من الله حسن الثناء، ومن الملائكة الدعاء، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (٤). قال أبو العالية: «صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء» (٥)، وقال ابن عباس ﵄: «يصلون: يبرِّكون» (٦)، وقيل: إن صلاة
_________
(١) سورة التوبة، الآية: ١٠٣.
(٢) مسلم، برقم ١٤٣١، وتقدم تخريجه في أول الصلاة.
(٣) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، باب الصاد مع اللام، ٣/ ٥٠، ولسان العرب لابن منظور، باب اللام، فصل الصاد، ١٤/ ٤٦٤، والتعريفات للجرجاني، ص١٧٤.
(٤) سورة الأحزاب، الآية: ٥٦.
(٥) البخاري معلقًا مجزومًا به، كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب، باب قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ قبل الحديث رقم ٤٧٩٧.
(٦) البخاري معلقًا مجزومًا به، كتاب التفسير، تفسير سورة الأحزاب، باب قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾، قبل الحديث رقم ٤٧٩٧.
1 / 5
الله الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار، والصواب القول الأول (١). فالصلاة من الله: الثناء، ومن المخلوقين: الملائكة، والإنس، والجن: القيام، والركوع، والسجود، والدعاء، والاستغفار، والتسبيح. والصلاة من الطير والهوام: التسبيح (٢).
٢ - الصلاة في الاصطلاح الشرعي: عبادة لله ذات أقوال، وأفعال معلومة مخصوصة، مفتَتَحة بالتكبير، مختَتَمة بالتسليم، وسُمِّيت صلاة؛ لاشتمالها على الدعاء (٣)؛ فإنها كانت اسمًا لكل دعاء، فصارت اسمًا لدعاء مخصوص، أو كانت اسمًا لدعاء فنقلت إلى الصلاة الشرعية؛ لما بينها وبين الدعاء من المناسبة، والأمر في ذلك متقارب، فإذا أطلق اسم الصلاة في الشرع لم يفهم منه إلا الصلاة المشروعة (٤)،وقد اشتملت على الدعاء بنوعيه:
_________
(١) انظر: تفسير ابن كثير، ص٧٦، والشرح الممتع لابن عثيمين، ٣/ ٢٢٨.
(٢) انظر: لسان العرب لابن منظور، باب الياء، فصل الصاد، ١٤/ ٤٦٥.
(٣) انظر: المغني لابن قدامة، ٣/ ٥، والشرح الكبير، ٣/ ٥، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف مع الشرح الكبير، ٣/ ٥، والتعريفات للجرجاني، ص١٧٤.
(٤) انظر: شرح العمدة، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ٢/ ٣٠.
1 / 6
دعاء المسألة: وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع، أو دفع ضر، أو كشفه، وسؤال الحاجات من الله بلسان الحال.
ودعاء العبادة: وهو طلب الثواب بالأعمال الصالحة: من القيام، والركوع، والسجود، فمن فعل هذه العبادات فقد دعا ربه وطلبه بلسان الحال أن يغفر له، فاتضح بذلك أن الصلاة كلها: دعاء مسألة، ودعاء عبادة؛ لاشتمالها على ذلك كله (١).
٣ - الجماعة لغة: عدد كل شيء وكثرته، والجمعُ: تأليف المتفرِّق؛ والمسجدُ الجامعُ: الذي يجمع أهله، نعتٌ له؛ لأنه علامة للاجتماع، ويجوز: مسجد الجامع بالإضافة، كقولك: الحقُ اليقينُ، وحقُّ اليقين، بمعنى: مسجد اليوم الجامع، وحق الشي اليقين؛ لأن إضافة
_________
(١) انظر: فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد، للعلامة محمد بن حسين آل الشيخ،
ص١٨٠، والقول المفيد على كتاب التوحيد، للعلامة محمد بن صالح بن عثيمين،
١/ ١١٧، وانظر: شروط الدعاء وموانع الإجابة، للمؤلف، ص١٠.
1 / 7
الشيء إلى نفسه لا تجوز إلا على هذا التقدير، والجماعة: عدد من الناس يجمعهم غرض واحد (١).
٤ - الجماعة في الاصطلاح الشرعي: تطلق على عدد من الناس، مأخوذة من معنى الاجتماع، وأقل ما يتحقق به الاجتماع اثنان: إمام ومأموم (٢)، وسميت صلاة الجماعة: لاجتماع المصلين في الفعل: مكانًا وزمانًا، فإذا أخلوا بهما أو بأحدهما لغير عذر كان ذلك منهيًّا عنه باتفاق الأئمة (٣).
المبحث الثاني: حكم صلاة الجماعة:
صلاة الجماعة فرض عين على الرجال المكلفين القادرين، حضرًا وسفرًا، للصلوات الخمس (٤)؛ لأدلة
_________
(١) انظر: لسان العرب لابن منظور، فصل الجيم، باب العين، ٨/ ٥٥، والقاموس المحيط، للفيروز آبادي، باب العين، فصل الجيم، ص٩١٧، والموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف بالكويت، ١٥/ ٢٨٠، وصلاة الجماعة، للأستاذ الدكتور صالح السدلان، ص١٣.
(٢) انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ١/ ١٥٦، وصلاة الجماعة، للأستاذ الدكتور صالح السدلان، ص١٤.
(٣) حاشية عبد الرحمن بن القاسم على الروض المربع، ٢/ ٢٥٥.
(٤) اتفق علماء الإسلام على أن إقامة الصلوات الخمس في المساجد هي من أعظم العبادات، وأجل القربات، ولكن تنازع العلماء بعد ذلك في كونها، واجبة على الأعيان، أو على الكفاية، أو سنة مؤكدة على النحو الآتي:
١ - فرض عين، وهذا المنصوص عن الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف وفقهاء الحديث.
٢ - فرض كفاية، وهذا المرجح في مذهب الشافعي، وقول بعض أصحاب مالك، وقول في مذهب أحمد.
٣ - سنة مؤكدة، وهذا هو المعروف عن أصحاب أبي حنيفة، وأكثر أصحاب مالك، وكثير من أصحاب الشافعي، ويذكر رواية عن أحمد.
٤ - فرض عين وشرط في صحة الصلاة، وهو قول طائفة من قدماء أصحاب أحمد وطائفة من السلف، واختاره ابن حزم وغيره، ويذكر عن شيخ الإسلام ابن تيمية في أحد قوليه كما في الاختيارات الفقهية له، ص١٠٣، وعن تلميذه ابن القيم كما في كتاب الصلاة له، ص٨٢ - ٨٧ والقول الصواب هو الأول والله أعلم.
انظر: كتاب المجموع شرح المهذب للشيرازي، للإمام النووي، ٤/ ٨٧، والمغني لابن قدامة، ٣/ ٥، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ٢٣/ ٢٢٥ - ٢٥٤، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للمرداوي، مع المقنع والشرح الكبير، ٤/ ٢٦٥، ونيل الأوطار للشوكاني، ٢/ ٣٤٠، والأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص١٠٣، وكتاب الصلاة لابن القيم، ص ٦٩ - ٨٦، وصلاة الجماعة، للأستاذ الدكتور صالح بن غانم السدلان، ص٦١ - ٧٢، وأهمية صلاة الجماعة، للأستاذ الدكتور فضل إلهي، ص٤١ - ١١٠، وفتاوى الإمام ابن باز،
١٢/ ٧، والشرح الممتع، للعلامة ابن عثيمين، ٤/ ٢٠٤، والإحكام شرح أصول الأحكام، لابن قاسم، ١/ ٢٣٩.
1 / 8
صريحة كثيرة من الكتاب والسنة الصحيحة، والآثار، ومنها ما يأتي:
1 / 9
١ - أمر الله تعالى حال الخوف بالصلاة جماعة فقال:
﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ (١)، فالله ﷿ أمر بالصلاة في الجماعة في شدة الخوف، ثم أعاد هذا الأمر سبحانه مرة ثانية في حق الطائفة الثانية، فلو كانت الجماعة سُنَّة لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف، ولو كانت فرض كفاية لأسقطها سبحانه عن الطائفة الثانية بفعل الأولى، فدّل ذلك على أن الجماعة فرض على الأعيان.
٢ - أمر الله ﷿ بالصلاة مع المصلين فقال: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ (٢)،فقد أمر الله ﷿ بالصلاة مع جماعة المصلين، والأمر يقتضي الوجوب.
٣ - عاقب الله من لم يُجب المؤذن فيصلي مع الجماعة بأن
_________
(١) سورة النساء، الآية: ١٠٢.
(٢) سورة البقرة، الآية: ٤٣
1 / 10
حال بينهم وبين السجود يوم القيامة، قال ﷿: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ (١). فقد عاقب سبحانه من لم يجب الداعي إلى الصلاة مع الجماعة بأن حال بينه وبين السجود يوم القيامة، وعن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا». وفي لفظ: «.. فيُكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه ..» (٢).
_________
(١) سورة القلم، الآيتان: ٤٢ - ٤٣.
(٢) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة ﴿ن وَالْقَلَمِ﴾، باب «يوم يكشف عن ساق» برقم ٤٩١٩، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾، برقم ٧٤٣٩، ومسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين ربهم في الآخرة، برقم ١٨٢.
1 / 11
وهذا فيه عقوبة للمنافقين وأن ظهورهم يوم القيامة تكون طبقًا واحدًا: أي فقار الظهر كله يكون كالفقارة الواحدة، فلا يقدرون على السجود (١).
٤ - أمر النبي ﷺ بالصلاة مع الجماعة، فعن مالك بن الحويرث ﵁ قال: أتيت النبي ﷺ في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة – وكان رحيمًا رفيقًا- فلما رأى شوقنا إلى أهالينا قال: «ارجعوا فكونوا فيهم، وعلِّموهم، وصلُّوا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم» (٢).
فالنبي ﷺ أمر بصلاة الجماعة، والأمر يقتضي الوجوب.
٥ - همّ النبي ﷺ بتحريق البيوت على المتخلفين عن صلاة الجماعة؛ فعن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ فقد
_________
(١) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، ٣/ ١١٤.
(٢) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب من قال يؤذن في السفر مؤذن واحد، برقم ٦٢٨، ومسلم، كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة، برقم ٦٧٤.
1 / 12
ناسًا في بعض الصلوات فقال: «لقد هممتُ أن آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم أُخالِفَ (١) إلى رجالٍ يتخلَّفون عنها فآمر بهم فيحرقوا عليهم بحزم الحطب بيوتهم، ولو عَلِمَ أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا لشهدها». وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: «والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمر بحطب ليحطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذّن لها، ثم آمر رجلًا فيؤمُّ الناس، ثم أخالف إلى رجالٍ فأحرِّق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقًا سمينًا (٢)، أو مرماتين حسنتين (٣) لشهد العشاء». وفي لفظ لمسلم: «إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا (٤)، ولقد
_________
(١) أخالف إلى رجال: أي أذهب إليهم، شرح النووي على صحيح مسلم، ٥/ ١٦٠.
(٢) عَرقا: العرق: العظم بما عليه من بقايا اللحم بعدما أخذ عنه معظم اللحم. جامع الأصول لابن الأثير، ٥/ ٥٦٨.
(٣) المرماة: قيل: هو ما بين ظلفي الشاة، وقيل: سهمان يرمي بهما الرجل. انظر جامع الأصول لابن الأثير، ٥/ ٥٦٨.
(٤) حبوًا: الحبو حبو الصبي الصغير على يديه ورجليه، شرح النووي على صحيح مسلم، ٥/ ١٦٠.
1 / 13
هممتُ أن آمر بالصلاة فتُقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» (١). وفي هذا الحديث دلالة على أن صلاة الجماعة فرض عين (٢).
٦ - لم يرخص النبي ﷺ للأعمى بعيد الدار في التخلف عن الجماعة؛ فعن أبي هريرة ﵁ قال: أتى النبي ﷺ رجل أعمى فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله ﷺ أن يرخص له؛ فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولَّى دعاه فقال: «هل تسمع النداء بالصلاة؟» فقال: نعم، قال: «فأجب» (٣).
وعن ابن أم مكتوم ﵁ أنه سأل النبي ﷺ فقال: يا رسول
_________
(١) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، برقم ٦٤٤، ومسلم، كتاب الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، برقم ٦٥١.
(٢) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، ٥/ ١٦١.
(٣) مسلم، كتاب المساجد، باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء، برقم ٦٥٣.
1 / 14
الله، إني رجل ضرير البصر، شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: «هل تسمع النداء؟» قال: نعم، قال: «لا أجد لك رخصة» (١). وفي لفظ أنه قال: يا رسول الله، إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، فقال النبي ﷺ: «أتسمع حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح؟ فحي هلا (٢» (٣).
وهذا يصرح فيه النبي ﷺ بأنه لا رخصة للمسلم في التخلف عن صلاة الجماعة إذا سمع النداء، ولو كان مخيرًا بين أن يصلي وحده أو جماعة، لكان أولى الناس بهذا التخيير هذا الأعمى الذي قد اجتمع له ستة أعذار: كونه أعمى البصر، وبعيد الدار، والمدينة كثيرة الهوام والسباع، وليس له قائد يلائمه، وكبير السن، وكثرة النخل
_________
(١) أبو داود، كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة، برقم ٥٥٢، وقال العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود: «حسن صحيح»، ١/ ١١٠.
(٢) «حيَّ» أي هلمَّ، وكلمة «هلا» بمعنى عَجَّل وأسرع. جامع الأصول لابن الأثير، ٥/ ٥٦٦].
(٣) أبو داود، كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة، برقم ٥٥٣، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ١/ ١١٠.
1 / 15
والشجر بينه وبين المسجد (١).
٧ - بيَّن النبي ﷺ أن من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهماعن النبي ﷺ أنه قال: «من سمع النداء فلم يأته فلا صلاةَ له إلا من عُذرٍ» (٢). وهذا يدل على أن صلاة الجماعة فرض عين، وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز ﵀ يقول: «معنى لا صلاة له: أي لا صلاة كاملة بل ناقصة، والجمهور على الإجزاء ...» (٣).
_________
(١) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم ص٧٦، وصحيح الترغيب والترهيب، للألباني ص١٧٣.
(٢) ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، برقم ٧٩٣، والدارقطني في سننه، ١/ ٤٢٠، برقم ٤، وابن حبان «الإحسان»، ٥/ ٤١٥ برقم ٢٠٦٤، والحاكم وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، ١/ ٢٤٥، وأخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة، برقم ٥٥١، وصححه ابن القيم في كتاب الصلاة، ص٧٦، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه، ١/ ١٣٢، وصحيح سنن أبي داود، ١/ ١١٠، وفي إرواء الغليل، ٢/ ٣٢٧، وسمعت الإمام ابن باز أثناء تقريره على الحديث رقم ٤٢٧ من بلوغ المرام يقول: «لا بأس به على شرط مسلم»، وهذا كما قال الحافظ ابن حجر في البلوغ: «وإسناده على شرط مسلم».
(٣) سمعته من سماحته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم ٤٢٧.
1 / 16
٨ - تركُ صلاة الجماعة من علامات المنافقين ومن أسباب الضلال؛ لقول عبد الله بن مسعود ﵁: «لقد رأيتُنا وما يتخلَّف عن الصلاة إلا منافق قد عُلِم نفاقه، أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين الرجلين حتى يأتي الصلاة، وقال: إن النبي ﷺ علمنا سنن الهُدى، وإن من سنن الهُدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه». وفي رواية: أن عبد الله قال: «من سرَّه أن يلقى الله تعالى غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات، حيثُ يُنادَى بهِنَّ؛ فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى (١)، وإنهنَّ من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم (٢)، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجدٍ من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة
_________
(١) سنن الهدى، روي بضم السين وفتحها، وهما بمعنى متقارب، أي طرائق الهدى والصواب. شرح النووي على صحيح مسلم، ٥/ ١٦٢.
(٢) وفي رواية أبي داود برقم ٥٥٠ «ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم». قال الألباني في صحيح سنن أبي داود: «لضللتم»، وهو المحفوظ، ١/ ١١٠.
1 / 17
يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين (١) حتى يقام في الصف» (٢).
وهذا يدل على أن التخلف عن الجماعة من علامات المنافقين المعلوم نفاقهم، وعلامات النفاق لا تكون بترك مستحب، ولا بفعل مكروه، ومعلوم أن من استقرأ علامات النفاق في السنة وجدها إما بترك فريضة، أو فعل محرم (٣)، وفي هذا كله تأكيد أمر الجماعة، وتحمل المشقة في حضورها، وأنه إذا أمكن المريض ونحوه التوصل إليها استحب له حضورها (٤).
وعن أبي هريرة ﵁ عن النبي ﷺ قال: «إن للمنافقين
_________
(١) يهادَى: أي يمسكه رجلان من جانبيه بعضديه يعتمد عليهما، شرح النووي على صحيح مسلم، ٥/ ١٦٢.
(٢) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى، برقم ٦٥٤.
(٣) انظر: كتاب الصلاة، لابن القيم، ص٧٧.
(٤) شرح النووي على صحيح مسلم، ٥/ ١٦٢.
1 / 18
علامات يُعرَفون بها: تحيتهم لعنةٌ، وطعامهم نُهبة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجد إلا هَجْرًا (١)، ولا يأتون الصلاة إلا دَبْرًا (٢) مستكبرين، لا يألفون ولا يُؤلفون، خُشُبٌ (٣) بالليل، صُخُبٌ بالنهار» (٤). وفي لفظ: «سُخُبٌ بالنهار» (٥).
وعن عبد الله بن عمر ﵄ قال: «كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة العشاء وصلاة الفجر أسأنا به الظن» (٦).
_________
(١) لا يقربون المساجد إلا هجرًا: يعني لا يقربون المساجد بل يهجرونها، انظر: شرح المسند، لأحمد شاكر، ١٥/ ٥١.
(٢) دَبْرًا: أي آخرًا، حين كاد الإمام أن يفرغ. شرح المسند، لأحمد شاكر، ١٥/ ٦١.
(٣) خشب بالليل: أي ينامون الليل لا يصلون، شبههم في تمددهم نيامًا بالخشب المطرحة، شرح المسند لأحمد شاكر، ١٥/ ٥١.
(٤) صخب: سخب وصخب: الضجة واضطراب الأصوات للخصام على الدنيا شحًّا وحرصًا. انظر: شرح المسند، لأحمد شاكر، ١٥/ ٥١.
(٥) أحمد في المسند، ٢/ ٢٩٣، وحسن إسناده العلامة أحمد محمد شاكر، في شرحه للمسند، ١٥/ ٥٠ - ٥١، برقم ٧٩١٣.
(٦) ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب الصلوات، في التخلف في العشاء والفجر، وفضل حضورهما، ١/ ٣٣٢، ورواه الطبراني في المعجم الكبير، ١٢/ ٢٧١، برقم ١٣٠٨٥، والبزار [مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد لابن حجر،
١/ ٢٢٨، برقم ٣٠١]، قال الهيثمي في مجمع الزوائد، ١/ ٤٠: «رواه الطبراني في الكبير والبزار، ورجال الطبراني موثوقون».
1 / 19
وفي رواية عنه ﵁: «كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة الغداة أسأنا به الظن» (١).
٩ - تارك صلاة الجماعة متوعد بالختم على قلبه؛ لحديث ابن عباس وابن عمر ﵃ أنهما سمعا النبي ﷺ يقول على أعواده (٢): «لينتهينَّ أقوامٌ عن ودعهم (٣) الجماعات أو ليختمنَّ الله على قلوبهم، ثم ليكوننَّ من الغافلين» (٤). وهذا التهديد لا يكون إلا على ترك واجب عظيم.
١٠ - استحواذ الشيطان على قوم لا تقام فيهم الجماعة؛
_________
(١) البزار [مختصر زوائد مسند البزار، لابن حجر، ١/ ٢٢٨، برقم ٣٠٢]، وقال ابن حجر: «وهذا إسناد صحيح»، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، ١/ ٤٠: «رواه البزار ورجاله ثقات».
(٢) على أعواده: أي على المنبر الذي اتخذه من الأعواد. شرح السندي على سنن ابن ماجه، ١/ ٤٣٦.
(٣) عن ودعهم الجماعات: أي تركهم. شرح السندي على سنن ابن ماجه، ١/ ٤٣٦.
(٤) ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، برقم ٧٩٤، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، ١/ ١٣٢، والحديث أخرجه مسلم، برقم ٨٦٥، لكنه بلفظ: «الجُمُعات».
1 / 20
لحديث أبي الدرداء ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما من ثلاثة في قرية، ولا بدوٍ لا تقام فيهم الصلاة (١) إلا قد استحوذ عليهم الشيطان (٢)، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» (٣). قال زائدة: قال السائب: يعني بالجماعة: الصلاة في الجماعة (٤)، فقد أخبر النبي ﷺ باستحواذ الشيطان عليهم بترك الجماعة التي شعارها الأذان، وإقامة الصلاة، ولو كانت الجماعة ندبًا يخير الرجل بين فعلها وتركها لما استحوذ الشيطان على تاركها وتارك شعارها (٥).
_________
(١) لا تقام فيهم الصلاة: أي جماعة. عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعظيم آبادي، ٢/ ٢٥١.
(٢) استحوذ عليهم الشيطان: أي غلبهم وحولهم إليه، عون المعبود شرح سنن أبي داود، ٢/ ٢٥١.
(٣) فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، أي إن الشيطان يتسلط على الخارج عن الجماعة. انظر: عون المعبود، ٢/ ٢٥١.
(٤) أبو داود، كتاب الصلاة، باب التشديد في ترك الجماعة، برقم ٥٤٧، والنسائي، كتاب الإمامة، باب التشديد في ترك الجماعة، برقم ٨٤٧، وأحمد، ٦/ ٤٤٦، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، ١/ ٢٤٦ وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ١/ ١٠٩، وفي صحيح سنن النسائي، ١١/ ١٨٢.
(٥) انظر: كتاب الصلاة، لابن القيم، ص٨٠.
1 / 21
١١ - تحريم الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي صلاة الجماعة؛ لحديث أبي الشعثاء قال: كنا قعودًا في المسجد مع أبي هريرة ﵁ فَأَذَّن المؤذن، فقام رجل من المسجد يمشي فأتبعه أبو هريرة بصره حتى خرج من المسجد، فقال أبو هريرة ﵁: «أما هذا فقد عصى أبا القاسم ﷺ» (١). فقد جعله أبو هريرة ﵁ عاصيًا لرسول الله ﷺ بخروجه بعد الأذان؛ لتركه الصلاة جماعة (٢).
قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى-: «فيه كراهة الخروج من المسجد بعد الأذان حتى يصلي المكتوبة إلا لعذر والله أعلم» (٣). وقد جاء النهي صريحًا، فعن أبي هريرة ﵁ قال: أمرنا رسول الله ﷺ: «إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرج أحدكم حتى يصلي» (٤). وعنه
_________
(١) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن، برقم ٦٥٥.
(٢) انظر: كتاب الصلاة لابن القيم، ص٨١.
(٣) شرح النووي على صحيح مسلم، ٥/ ١٦٣.
(٤) أخرجه أحمد في المسند، ٢/ ٥٣٧، قال الهيثمي في مجمع الزوائد، ٢/ ٥: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح».
1 / 22