وأي وقت أنسب للعمل على تحقيق هذه النظرية السلمية من وقتنا هذا، الذي لا تقتصر فيه مضار الحرب على المتحاربين، بل تتعداها إلى الآمنين، ويتأثر بنتائجها العالم كله؛ لما أصبح بين الدول من مصالح مشتركة وارتباطات دولية تضطر الصغير منها والكبير إلى خوض غمار الحرب، فيخرج الجميع منها بسبب الاختراعات الجهنمية الحديثة، منهوكي القوى خاسرين إلا فئات محدودة تذكي نار الحرب ولا تكتوي بأوارها؛ لأنها تستغلها في تنفيذ مآربها وغاياتها.
وأي دليل على قولنا هذا أصدق من نتائج الحرب العالمية الكبرى، التي لا زال العالم يرزح تحت أثقالها بما خربت من مدن عامرة، وبما خلفت بين الأمم من ضغائن، وبما ألحقته بالتوازن العالمي من اختلال شديد الخطر، حتى أصبح العالم يعيش على فوهة بركان يكاد أن ينفجر عند حدوث أية أزمة دولية.
فمن مخلفات الحرب العظمى ما تقاسيه الإنسانية اليوم من أزمات اقتصادية، وحروب داخلية، ومطامع استعمارية لا حد لها ولا رادع. عمادها الظلم البين والتعدي على الضعيف، والاستهتار بالأرواح البريئة والحقوق المشروعة.
سادتي وسيداتي
ليست فكرة السلام وليدة اليوم، بل هي فكرة نشأت منذ القدم في عصور مختلفة، عقب الحروب المتوالية المنهكة؛ لميل الإنسان الطبيعي إلى الهدوء، وحاجته إلى الراحة والطمأنينة. ففي زمن الفراعنة حاول إخناتون التمهيد لبث روح السلام، ومساواة الولايات الخاضعة له في المعاملة والحقوق، وتوحيد العقيدة الدينية بأن الشمس هي مصدر الحياة للجميع. ولكي ينفذ هذا المشروع نقل العاصمة من طيبة إلى تل العمارنة التي بناها ليقيم فيها على نظم جديدة تناسب الحياة الجديدة التي كان يهيئها لبلاده، فازدهرت في عصره الفنون والصنائع. ولكن مع الأسف بينما كان يدعو هو إلى بث روح التآخي وتوطيد السلام في ترتيله للإله آتون، كان أمراء سوريا والولايات التابعة لمصر يتغنون بالأناشيد الثورية، فهال الكهنة والوزراء هذا الانقلاب، فثاروا عليه وبثوا روح التمرد في الأهلين. وكان كلما نبهه رجاله إلى الخطر الذي يهدده ويهدد سيادته لمقاومة أعدائه، يقول: «دعوا السيف في غمده من حمل السيف مات به.» وإخناتون هو حمو الملك توت عنخ آمون الذي اكتشفوا في قبره أجمل الآثار المصرية وأبدعها رسما وأدقها صنعا.
وفكر من بعده إسكندر الأكبر في نشر السلام؛ بإنشاء التعاون بين الإغريق وغيرهم من أمم الشرق على أساس المساواة. وفي عصور مختلفة ظهر رجال مفكرون وفلاسفة أوقفوا أفكارهم وجهودهم على خدمة السلام، منهم أفلاطون، وشيشرون، ومارك أورليوس إمبراطور روما، وغيرهم من الذين كانوا يعتقدون أن الحرب إجرام ووحشية.
ثم ظهر الدين المسيحي ونشر بتعاليمه السامية روح التسامح والتضحية بين الناس، وكان قصد العناية الإلهية منه أن يرفرف السلام على العالم، وأن تعم أركانه السعادة والصلاح، ولكن هذه المبادئ الكريمة التي تحث على الإخاء والوئام لم ترق في أعين اليهود، فقاوموا المسيح وأشعلوا نار الفتنة ضده بين شعب الرومان الملحد إذ ذاك؛ فحكم على المسيح بالصلب وعلى أنصاره بالاضطهاد، فرفعه الله إليه ليكون آية للعالم في التضحية والتفاني في إعلاء كلمة الله ونشر السلام على الأرض.
فإذا أنصفنا الحقيقة والتاريخ قلنا إن جميع الأديان حثت على التسامح ونشر روح الإخاء، إلا أن المسيح يعتبر أول واضع لأسس السلام والتسامح على الأرض، ولكن مع الأسف أساء بعض الرؤساء الروحانيين فهم تعاليم المسيح، ولم يعملوا على إقامة صرح التعاون والمحبة بين البشر على الأساس المتين الذي وضعه. وسادت روح التعصب الديني القرون الوسطى المظلمة، وكان من أثر ذلك تلك الحروب الصليبية التي سموها حروبا مقدسة، وذلك التعذيب الرهيب الذي كان يقوم به رجال التفتيش للقضاء على مخالفيهم في العقيدة والرأي، مما لا يغيب على كل العارفين بالتاريخ .
وفي مثل هؤلاء يقول شاعرنا الكبير شوقي رحمة الله عليه:
عيسى سبيلك رحمة ومحبة
صفحة غير معروفة