واستمر هذا الأثر طول مدة استقلال مصر إلى أن تغير الحال بعد فتح الأتراك العثمانيين لها. (15) استئناف الحروب بالشام والجزيرة
لم يستطع صلاح الدين أن يبقي على أعمال الإصلاح رغم ميله للسلم؛ فإن الظروف دعته أن يترك العيشة العملية السلمية ويقبض على السيف مرة أخرى؛ فإنه في مدة الفترة التي سبق الكلام عليها في الفقرة السابقة توفي صاحب الموصل سيف الدين غازي (الثاني) أحد المشتركين في صلح سنة 1176م، وتولى بعده أخوه عز الدين؛ إذ لم يكن له إلا ولد صبي صغير، ورأى قواد الدولة أن تولية ذلك الصغير ذات خطر خوفا من أن ينتهز صلاح الدين تلك الفرصة فيضم بلاد الجزيرة والموصل إلى دولته.
ثم مات الملك الصالح أيضا سنة 1181م وأوصى أن تسلم حلب إلى ابن عمه عز الدين نفسه صاحب الموصل حتى لا يتمكن صلاح الدين من أخذها. وهكذا كان بيت عماد الدين زنكي يخشى كل الخشية أن يذهب ملكه إلى صلاح الدين. ومن أجل هذه الخشية كان عز الدين ومن معه من الأمراء يجتهدون في إثارة المصاعب أمام منافسهم القوي حتى لا يفرغ لهم. ولكنهم دلوا بذلك على أنهم لم يفهموا ما انطوت عليه نفس ذلك الرجل.
فإنهم لو سكتوا عنه لكان أغلب الظن أنه يدعهم حيث هم؛ فقد كان يقنع بأن يكون آمنا من ورائه، بل إنه كان يكتفي من فتوحه في البلاد التي يحكمها حاكم مسلم بأن يخضع له ذلك الحاكم فيقره على حكمه ولا ينقص من سلطته شيئا، أما وقد حاول هؤلاء أن يخونوه بإثارة المتاعب أمامه وتحريض أعدائه الفرنج عليه فقد رأى أنه لن يستطيع التفرغ لعمله آمنا إلا بعد أن يأمن ناحية الشمال من قبل حلب والجزيرة، وعلى ذلك نراه ابتدأ - بعد موت الملك الصالح - بأن يضرب الضربة الفاصلة عند حدود دولته الشمالية.
وقد كانت الظروف مساعدة له؛ لأن خلافا نشأ بين عز الدين وبين أخيه عماد الدين زنكي (الثاني) على اقتسام تلك الدولة الشمالية، واستقر بينهما الأمر أخيرا على أن تكون حلب لعماد الدين والموصل والجزيرة لعز الدين، وبهذا كان أمام صلاح الدين قوتان منقسمتان بدل دولة موحدة تقف في سبيله.
خرج صلاح الدين من القاهرة في مايو سنة 1182م/578ه، وكان ذلك آخر عهده بها؛ فقد بقي في الشام في حربه وجهاده إلى أن مات سنة 1193م/589ه، وقد حدث أثناء وداعه حادث اتفق صدقه؛ فإنه كان مجلس وداع ينتظر اجتماع الجيش ليسير وكان بين الحاضرين معلم لبعض أولاده فأخرج رأسه من الحاضرين كأنه يودع السلطان، وقال البيت المشهور:
تمتع من شميم عرار مجد
فما بعد العشية من عرار
فتطير صلاح الدين منه وتنكد المجلس، وقد صدق ذلك الفأل فلم يعد صلاح الدين بعد ذلك إلى القاهرة حتى مات.
ذهب صلاح الدين إلى الشام وبدأ بإغارات صغيرة على بلاد الفرنج، وحاصر بيروت حصارا قصيرا بمساعدة الأسطول المصري الذي أصبح عند ذلك قوة يعتد بها في حروبه، غير أنه لم يلبث في هذه المناوشات طويلا بل قصد إلى غرضه الأول وهو حرب الجزيرة، فعبر الفرات سنة 1182م وساعده جماعة من أمراء عز الدين الموصلي؛ ولهذا تمكن من امتلاك كثير من البلاد بغير حرب أو بحرب يسيرة، وكان عز الدين قد أوعز إلى الفرنج أن يهاجموا دمشق ليفرجوا عنه، إلا أن صلابة صلاح الدين تغلبت، فبقي على حربه وحصر الموصل. على أن مناعة المدينة جعلته يرفع حصارها ويذهب إلى بلاد أقل منها مناعة مثل سنجار، فملكها وبذلك صار له أغلب بلاد الجزيرة وأصبحت الموصل معزولة عن حلب، وصار يستطيع أن يهبط إلى كل منهما على حدة، فالتمس عز الدين مساعدة جيرانه من الأمراء مثل شاه الأرمن (وهو أمير مسلم)، ولكن ذلك لم يجده كثيرا فتفرق عنه حلفاؤه بعد قليل.
صفحة غير معروفة