وقد غرب عن ذهن هؤلاء أن أوروبا سبقتنا في درس فن الاقتصاد مراحل، وهي تنازع بعضها على مرافقه، وتبني الأساطيل، وتحشد الجيوش، وتقيم الدنيا وتقعدها من أجله. فلو رأت حكوماتها أو شعوبها لنفسها خيرا من بقاء اليهود في بلدانها لما تركتهم يحولون أنظارهم شطر بلادنا وهي تنازعنا المنافع فيها. وأي دليل أعظم من استيلاء اليهود على نصف ثروة العالم على قلة عددهم وتفرقهم في الأرض؟! وأي برهان أسطع مما يشاهد عيانا في كل زمان ومكان من أن اليهودي لا يشتري شيئا يلقاه عند أخيه من غيره؟
نحن لا نلوم اليهود على هذا التضامن ولا نحسدهم عليه، ولكننا نلوم من يحط من قدر نفسه وشعبه منا باعتقاده أن لا صلاح فينا لتحسين أحوالنا، فيرجي إصلاحنا ممن يروم الاستفادة من غرورنا، والاستئثار بوطننا، وبموارد رزقنا، قبلما تنفتح عيوننا، فنميز بين النور والظلمة، وقبلما يتنبه شعورنا فندرك معنى الوطنية ومنافع التضامن.
عجبا، كيف يصلح حال العثماني في أميركا وأوروبا؟ وكيف يحسن العمل والكسب والتعلم هناك؟ وكيف يحسن حاله في مصر؟ وكيف كان حاله حسنا في العصور الخوالي؟ ليس في ذلك ما يدعو إلى العجب؛ فإن عمد الحكومة إلى بسط الأمن، والعمل بقواعد المساواة ونشر التعليم يكفي لإبلاغ العثمانيين إلى مصاف الشعوب الراقية، ذلك خير من الإقرار بالعجز، والقعود عن العمل، والالتجاء إلى من برهن التاريخ بأنهم لا ينفعون سوى أنفسهم لينفعونا.
لنا جولة في الأنتيسيمتزم بعد الفراغ من تاريخ الصهيونية.
الدكتور ثيودور هرتسل
الكرمل: رأينا أن نفرد لمطالعاتنا فصلا خصوصيا بعد الفراغ من تعريب أهم تقارير الأنسكلوبيديا.
قالت في الصفحة 671 من المجلد الثاني عشر تحت هذا العنوان: كان هرتسل في وطنه النمسا يرقب فوران الأنتيسيمتزم، وسنة 1895 كتب كتابه اليودنستات
Yudenstaat «الوطن اليهودي» في باريس؛ حيث كان مقيما في ذلك الزمن.
وقال: إنه إنما قصد من تأليف الكتاب بيان آرائه بصورة خصوصية لنفسه فيه، وإنه لم ينو إيقاف سوى عدد قليل من أصدقائه عليه، وقد قال أحدهم بعدما طالع الكتاب: إن عقل مؤلفه غير سليم. أما هرتسل فلم يكن يرمي إلى إحداث حركة فعلية، ولا الدخول في مناقشة على المبادئ الموضوعة في الكتاب الذي لم يلبث أن طبع في فيينا في ربيع سنة 1896، وما كاد يظهر للوجود حتى ترجم للغات الإفرنسية والإنكليزية والعبرية، وأعيد طبعه خمس مرات بالألمانية قبل سنة 1905. أما ما تضمنه الكتاب من الآراء والاقتراحات لتحقيق الأمنية، فيمكن إجماله كما يجيء.
ابتداء هرتسل بقوله: إن الأنتيسيمتزم خطر يهدد ليس اليهود فقط بل العالم بأسره، وهي في نمو مستمر ولا يمكن اجتنابها؛ لأن اليهود شعب يتعذر امتزاجه مع من حواليه في الحياة الاجتماعية، وخصوصا أن الامتزاج الحقيقي ممكن فقط بالزواج المتبادل. واستنتج من ذلك ضرورة تملكهم متسعا من الكرة الأرضية يكفي لأن يجتمعوا فيه ويقيموا لهم وطنا خاصا بهم.
صفحة غير معروفة