تأليف
سيد القمني
إهداء
لأصدقائي، لأحبائي، الذين جمعتني بهم الفكرة وهموم الوطن.
الاستبداد بمساندة السماء
في بلاد المسلمين معاهد علمية، مهمتها تخريج مشايخ الدين للدعوة والوعظ والإرشاد، ويزعم هؤلاء على مختلف فرقهم وتنافر مذاهبهم، أنهم وحدهم الأمناء على دين المسلمين منذ فجره الأول، وأنه لا يحق لأي مسلم خارج المنظومة المشيخية أن يتحدث في شأن الإسلام والمسلمين؛ لأنه حكر على الدعاة فقط، وهو الزعم الذي يضع مشايخنا أمام مسئولية تاريخية عظيمة وهائلة، إزاء ما آل إليه أمر الإسلام والمسلمين عبر عشرة قرون مضت من الهوان والتراجع والانهزام.
والناظر إلى الشارع في بلادنا سيجد المسلمين وقد سلموا أدمغتهم للمشايخ بالتمام والكمال؛ فلا يخطو المسلم خطوة ولا يأتي تصرفا ولا يقول قولا إلا بعد استفتاء المشايخ، فهو يسير وفق برنامج من الأوامر والنواهي؛ متى يصحو ومتى ينام وكيف ينام، وبماذا يدعو قبل أو بعد، وما هو الوضع المستحب أثناء الدعاء، على ظهورهم أم على جنوبهم، لأن المشايخ هم حفظة كتاب ما فرط الله فيه من شيء؛ لذلك كل شيء عند المشايخ كامل (كومبليت) صالح لكل مكان في مكة أو في الصين أو في المريخ، ولكل زمان مضى أو لم يأت بعد.
وأمام الرهاب المستمر للإله الذي يفرضون حضوره طوال الوقت، ويجعلونه يتدخل في كل كبيرة وصغيرة، ويشغلونه بالتوافه الهينات في حياة المسلم، ليضع له عقوبات مفصلة مشروحة بعناية، فالعقوبات الربانية ألوان وفنون؛ من شي البشر على النار، إلى القلي في الزيت، إلى التمزيق بأشواك من حديد، إلى الوثاق بالسلاسل الطوال، من جهنم الحمراء، إلى جهنم البيضاء التي ابيضت نارها لكثرة ما تلظت، ومن عقارب كالبغال الموكفة، إلى ثعابين قرع، إلى عقاب دنيوي في المال والعيال والصحة والمستقبل؛ فكان أن سلم المسلمون المسئولية لمشايخهم الذين يعرفون الدروب والأنفاق والمعابر السرية لدين أصبح ثقيلا هائلا لكثرة ما أضافوا إليه، فأوكل المسلمون للمشايخ مسألة إيمانهم الذي يستعصي عليهم فهمه، ويجهلون فنونه مقابل الطاعة العمياء التي هي سبيل النجاة.
ومع هذا التسليم الشعبي الجارف لسادتنا المشايخ فإن حال المسلمين كما ترون فضيحة بجلاجل، فضحونا وجرسونا في العالمين، بمقابل لن يغفره لهم التاريخ، وهو عقل الناس الذي أخذوه منهم، فقط ليعرفوهم بالله ويشيروا لهم نحو الله ... هذا هو الله؟! أخذوا عقل الوطن مقابل أن يعرفوهم على الله الذي سيقوم بالتفكير لهم نيابة عنهم، عبر دعاته من كل لون ومذهب.
وأصبح كل من اتخذ سمت الشيخ من لحية أو زبيبة أو يونيفورم حق له أن يكون داعية ومفتيا، يعرف في كل حاجة، ويفتي في كل علم، ويتحدث في كل شأن مما هو فوق الأرض أو تحتها، وفي نهاية الفتوى يختمها بقوله: «والله أعلم»! إن عبارة «والله أعلم» هي تدريب دائم للعقل لينسحب من العلم ولا يتعامل معه كوسيلة وأداة للمعرفة؛ لأن الله أعلم عند مشايخنا، بينما في العلم نحن من نعلم، وليس في العلم شيء اسمه «والله أعلم». إن العبارة إخلاء تام وصريح للشيخ من مسئولية تفسيره أو فتواه، ويترك السائل مبلبلا، ذهب يستفتي لتزداد حيرته، السائل مسلوب العقل والإرادة يفترض في نفسه أنه لا يعلم شيئا، فذهب يسأل الشيخ الذي يعلن عن نفسه بالفم المليان أنه «عالم» عارف، فإذا هو به بدوره جاهل لا يعلم، ورغم أنه يقر في النهاية أنه لا يعلم فإنه يتصرف من البداية على أنه وحده من يعلم مفتاح أية حقيقة أو معرفة صادقة تامة.
صفحة غير معروفة