زيدان لا يقر بفضل روسو نكاية فيه لأنه سمح لنفسه أن يكون من العلماء الكبار دون أن يشهر إسلامه، ودون أن يفهم زيدان أنه سواء أقر أم لم يقر فلن يقدم شيئا ولن يؤخر؛ لأن المجتمعات التي قامت على فكرة العقد الاجتماعي عند روسو قد نهضت بالفعل وأصبحت هي المجتمعات التي توصف بالمجتمعات الحرة، وليس المسيحية ولا اليهودية ولا الإسلامية؛ فالمجتمعات التي تطلق على نفسها اسما دينيا في العالم اليوم، هي المجتمعات المتخلفة وحدها.
العجيب في شأن سادتنا عدم إدراكهم ما بأيديهم من متناقضات؛ فبينما يؤكد الدكتور زيدان البيعة كمقدس دونه الكفر، يستشهد بأحاديث: «من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات موتة جاهلية، ومن مات وقد نزع يده من بيعة كانت ميتته ميتة ضلالة»، يقول لنا «وهي (أي البيعة) ليست ممارسة قهرية بل اختيارية حرة»، ثم يدرك الخلل فيبرره بقوله في مهرجان كلامي عجيب: «والالتزام الديني ببيعة وفق حديث من مات وليس في عنقه ميتة جاهلية، يعني ببساطة أن البيعة وإدارة تولي السلطة ووجود إدارة سياسية في المجتمع الإسلامي تنظم شئونه وتدير مصالحه، هو شرط التمدن الإسلامي، وتجنب الوقوع في الفوضى التي قد تضيع مقاصد الشرع وبالتالي تعود جاهلية ... إلخ.» في وسط هذه المتاهة يمكننا أن نخلص إلى أن البيعة يمكن أن تكون اختيارية دون أي دليل شرعي نقلي أو حتى عقلي فيما قال، المهم أنه يريدها اختيارية لتجنب الوقوع في الفوضى التي قد تضيع مقاصد الشرع ... إلخ، وهو ما يعني أن المسلمين قبل ذلك منذ زمن الدعوة وحتى الآن قد عاشوا في فوضى ضيعت الشرع وعادت جاهلية، وليس فقط الحكومات في الدول الإسلامية المعاصرة.
لنقرأ معا كتاب الجهاد من فتح الباري باب «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ...» فيه حديث لأبي هريرة عن قزمان الذي قاتل مع النبي في غزوة أحد وكان شديدا على المشركين وقتل وحده ما قتله الجيش كله، فأصيب إصابة شديدة فقتل نفسه من الألم فقال النبي: «إنه من أهل النار.» ونعيد قراءة كتاب روضة الطالبين، الطريق الثالث لتولي الإمامة «فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعا للشرائط بأن كان فاسقا أو جاهلا فوجهان أصحهما انعقادها لما ذكرنا، وإن كان عاصيا بفعله.»
وعليه يمكن اعتبار الخلافة قائمة، فلماذا يبحثون عن دولة إسلامية وخليفة؟ لماذا لا يعتبرون حكام المسلمين ممن تصدوا للإمامة بشوكتهم وجندهم، وإن كان الحاكم فاسقا أو جاهلا، حتى يستقر المجتمع المسلم؟ إذن ليس الدين هو هدف الدكتور زيدان ولا كل كوكبته من إخوان، إنما هي السلطة، وما أسوأهما من خيارين أمام شعوبنا، الحكومات الاستبدادية القائمة في الدول الإسلامية، أو زيدان ورفاقه.
ادفنوا موتاكم!1
على عينا وراسنا كل ألوان الخطاب التدليلي التبجيلي لمؤسسة الأزهر، لكنني أعتقد أنه مع حركة الإصلاح فلا أحد فوق المؤاخذة أو كبير على المساءلة، ومن هنا سأحاول إلقاء نظرة تاريخية على الأزهر للوصول إلى نتيجة نستطيع أن نحكم فيها على أدائه كمؤسسة حكومية وطنية، خاصة في ظل مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان، والتي سنصر طوال الوقت على طلب تفعيلها في واقعنا حتى نصدق ما يحدث ونتفاعل معه ونحترمه.
إن الأزهر يقوم في مبادئه على أهداف ثابتة وغايات أسمى، هي تخريج قادة للفكر الديني، هدفهم إنقاذ العالم من الظلمات والأخذ بيده إلى النور؛ أي إلى الإسلام، ويقدم للدارسين فيه معارف ومهارات يؤكد أنها الأفضل في العالم كله؛ لأنها موروثة عن الزمن القدسي عندما كانت الأرض على اتصال بالسماء في بلاد أخرى تقع على الجانب الشرقي من البحر الأحمر، وأن الرب قد اختار هذه المنطقة وباركها وحرمها وبخاصة مكة والمدينة، فأصبحتا أقدس المواقع على الأرض، وأن الله الذي أوحى لعبده هناك هو الأدرى بما يصلح لمخلوقاته منهم.
وهنا نقول كلاما تقريريا لا بلاغيا، إن هذا الفكر عندما يكون الخلفية والأساس الذي يقوم عليه التعليم الأزهري، فهو ما يعني أن هذا اللون من التعليم ظل دون تطور أو تغير أو تبدل أو انفتاح، تأسيسا على مسلمة تؤكد أن خير القرون في الزمان كله كان بالحجاز في القرن السابع الميلادي.
وتقوم المسلمة على حديث نبوي بهذا المعنى، فيترتب عليها أن أي تغيير يتفاعل مع متغيرات الواقع وتقدم الزمن؛ يعني أن هناك نقصا في مأثورنا وتراثنا الكامل المقدس، وحتى لا يكون هناك أي نقد تم تشريع الحدود التي تقنن قطع الأطراف وجز الأعناق والجلد والسلخ في حال التفكير، مجرد التفكير، بما يتناقض مع تراثنا الخالد أبد الدهر، تفنى الدهور ولا يفنى.
والمعلوم أن التعليم في بلادنا قد انقطع عن تخصصاته القديمة في جامعات الإسكندرية وأسيوط وطيبة، ومدارسه المتخصصة في الفنون والعلوم على اختلافها، فمع الفتح العربي أصبح التعليم في بلادنا كله دينا، وبعضه دين، وما يستنتج منه دين؛ وذلك لكفالة طاعة المواطنين لسيادة سلطة تمثل جماعة أو هيئة أو طائفة، مهمتها أن تقوم بالتفكير نيابة عن كل المواطنين، لأن الوطن ليس بحاجة لتفكير أكثر مما هو بحاجة إلى دين وذمة وشرف ... إلخ، وتعتبر هذه السيادة السلطوية نفسها العقل المفكر القادر المبدع المتمكن من إدارة كل الشئون داخليا وخارجيا؛ وذلك لأن العوام قاصرون عن إدارة شئونهم بالخلقة والفطرة.
صفحة غير معروفة