ومن أحد الجوانب ارتفع التصفيق، وأصبح «موسى» أكثر حماسا حين قال: هل هو مجرد شخص يستطيع أن تضعه في حقيبتك وتمضي بعيدا؟ .. لقد كنت على رأس هذا الدين الجديد ورأيت بعيني الرجل الأبيض وهو يأتي بهذا الدين، وأود أن أخبرك الآن أنني لن أضل بواسطة الآخرين ممن يبكون ويصرخون أكثر من أصحاب المتوفى .. أنت لست أول مدرس أراه أو الثاني أو الثالث، فإذا كنت حكيما فسترفع يديك عن الثعبان، وتذكر بأنني أخبرتك بهذا، ولن يتقدم لك أحد هنا بالشكوى لأن الثعبان وقف في طريقه وهو قادم إلى الكنيسة .. إذا شئت أن تنجز عملك في سلام فلا بد أن تفهم كلامي، أما إذا أردت أن تكون سحلية تخرب جنازة أمها فعليك أن تتحمل ما تفعل.
ثم قال ل «أودوش»: وفيما يتعلق بكونهم سيدعونك «بيتر» أو «بول» أو «بارناباس» فذلك لا يثيرني أبدا، وليس عندي ما أقوله لولد لا يتعدى كونه ولدا، أما إذا أصبحت مدرسا في يوم ما فسأكون في انتظار اليوم الذي تملك فيه الشجاعة لقتل الثعبان في «أوموارو» هذه .. إن الجبان يتكلم كثيرا وإذا ما حان موعد القتال فإنه يفر بعيدا.
كان «أودوش» في تلك اللحظة قد اتخذ قراره .. كان ثعبان صغير وآخر كبير يعيشان في كوخ أمه عند قمة الحائط الذي يستند عليه السقف .. لم يتسبب الثعبانان في أي أذى، ولم يقربا الفئران إلا مرة واحدة أحسا فيها بالخوف، فابتلعا بيض الدجاجة .. قرر «أودوش» أن يضرب واحدا منهما في رأسه بعصا غليظة، ويجب أن يخطط لذلك في سرية كاملة حتى يعتقد الناس أنه مات من تلقاء نفسه .. مضت أيام ستة قبل أن يجد «أودوش» اللحظة المناسبة، وطوال هذه الفترة كان قلبه يخفق، وفقد بعضا من عزيمته، ثم قرر أن يضرب الثعبان الأصغر، دفعه أسفل الحائط بالعصا، وخيل إليه أنه يسمع وقع أقدام فلم يستطع أن يحطم رأسه، وكان مضطرا إلى قتله بسرعة حتى لا يراه أحد، ثم التقطه بسرعة شديدة، كما كان يرى جارهم «أنوسي»، وحمله إلى حجرة نومه، وبعد تفكير قليل فتح الصندوق الذي صنعه «موسى» له، وأخرج الفوطة والصديري، ثم وضع الثعبان داخل الصندوق ، وأغلق عليه. وعندئذ شعر براحة كبيرة وبقدر من السعادة والرضا حين فكر قائلا لنفسه: إن الثعبان سيموت لنقص الهواء، وسيكون هو المسئول عن موته، فلا ينتابني الإحساس بذنب القتل.
كان «إيدوجو» أول أبناء «إيزولو» قد غادر البيت مبكرا هذا اليوم للانتهاء من صنع قناع روح الأسلاف الجديد؛ فلم يعد باقيا على الاحتفال بأوراق القرعة سوى خمسة أيام فقط .. ذلك الاحتفال الذي يتوقعون فيه عودة الروح من أعماق الأرض على هيئة قناع .. كانوا متشوقين للقناع الذي يصنعه «إيدوجو» .. كان يوجد صناع آخرون للقناع في «أوموارو»، وبعض منهم كان أفضل من «إيدوجو»، لكن سمعته كانت طيبة؛ فهو ينتهي من عمله في الموعد المحدد، وهذا ما لم يكن يفعله «أوبياكا» الذي يعد أحسن من يصنع القناع .. كان العمل في القناع مختلفا؛ فلا يستطيع «إيدوجو» أن يصنعه في البيت أمام تحديق النساء والأطفال، ولكنه يحتاج للعزلة في منزل الأرواح المشيد خصوصا لذلك العمل في أحد الأركان من سوق «كوا»؛ حيث لا يجرؤ أحد ممن لا يعرفون سر القناع على الاقتراب.
كان الكوخ مظلما بالداخل لكن العين سرعان ما تتعود عليه .. أمسك «إيدوجو» بقطعة الخشب البيضاء ثم شد حقيبته المصنوعة من جلد الماعز، والتي يحمل فيها أدواته، ودون الحاجة إلى العزلة كان «إيدوجو» يرى هذا الكوخ مناسبا لنحت الأقنعة .. كان كل ما حوله عبارة عن أقنعة قديمة وبعض علامات أرواح الأسلاف، وكانت معظم الأقنعة لأرواح عنيفة وشريرة ذات قرون وأسنان بحجم الأصابع، غير أن أربعة كانوا يصنعون أقنعة أرواح الفتيات، وكانت هذه الأقنعة جميلة جدا .. ابتسم «إيدوجو» عندما تذكر زوجة «وانينما»، التي أخبرته بغيرتها الشديدة من روح الفتاة التي تنافسها.
كان الضوء قريبا من الباب حيث جلس «إيدوجو» وبدأ في العمل .. توقف فجأة واسترق السمع فسمع صوتا مألوفا لديه جدا. إنه «أنوسي» أحد جيرانهم .. ظل «إيدوجو» يستمع ثم نهض صوب الحائط القريب من مركز السوق، واستطاع حينئذ أن يسمع بوضوح .. كان «أنوسي» يتحدث إلى رجلين أو ثلاثة آخرين وكان يقول: نعم .. لقد كنت هناك ورأيت بعيني ولم أصدق .. رأيت الصندوق مفتوحا وبداخله الثعبان الكبير.
قال أحد الآخرين: لا تقل ذلك مرة ثانية؛ فلا يمكن أن يكون ذلك حقيقيا. - هكذا قالوا جميعا، ورغم أن أحدا لم يصدق إلا أنني شاهدت بعيني .. اذهبوا الآن إلى «أومواشالا» لتروا أن القرية كلها في حالة اضطراب. - إن «إيزولو» سيجلب ل «أوموارو» امرأة حاملا وطفلا رضيعا في نفس الوقت. - لقد سمعت أشياء كثيرة، لكنني لم أسمع أبدا بمثل تلك الكراهية والاشمئزاز.
كان «إيزولو» في حالة سيئة لحظة وصول «إيدوجو» إلى البيت، ولم تكن حالته هذه بسبب «أودوش» بقدر ما كانت بسبب الجيران ذوي الوجهين وأولئك العابرين الذين يخفون تحت كلماتهم المتعاطفة حقدا في قلوبهم .. كان «إيزولو» يكره من يشفق عليه، وظل الغضب بداخله حتى تفجر عند دخول آخر مجموعة من النساء لرؤية زوجاته؛ فقد كن كمن جئن للعزاء.
سمع صيحاتهن: أي .. ي .. ماذا سنفعل لأطفال الغد؟
أسرع نحوهن وأمرهن بالرحيل قائلا: إذا رأيت أي واحدة منكن هنا بعد عودتي فستجدونني رجلا شريرا. - وما الخطأ الذي ارتكبناه؟ .. لقد جئنا لمساعدة امرأة أخرى. - ارحلن فورا من هنا.
صفحة غير معروفة