كان «توني كلارك» قد أمضى أكثر من ساعة في ارتداء ملابسه استعدادا للعشاء .. إن ارتداء الملابس في مثل هذا الجو الحار شيء مزعج، لكنه نوع من الحياة في هذه المدينة القاسية والمفسدة للروح المعنوية .. كان اليوم لطيفا بسبب الأمطار، أما بعض الأيام الأخرى فقد كان «توني كلارك» يمتنع عن حضور العشاء تجنبا لارتداء قميصه النظيف وربطة العنق.
كان ينظر إلى ساعته الذهبية التي أهداها له والده عندما جاء للعمل في نيجيريا بينما يطالع الفصل الأخير من كتاب جورج آلين «مصافحة قبائل النيجر البدائية»، الذي أعاره له كابتن «وينتربوتوم» .. كان يجب الانتهاء من قراءته لإعادته هذه الليلة، فكانت سرعته في القراءة هي أحد الأشياء التي تعلمها هنا .. وبالرغم من صعوبة فهم الكتاب وإحساسه بالكآبة إلا أن الفقرات القليلة الأخيرة قد أثارته .. كان عنوان الفصل الأخير «النداء» وقد جاء فيه ما يلي: «من أجل تلك المطالب، بل من أجل حياة أفضل واحتلال هادئ، فإن نيجيريا مغلقة، وستظل مغلقة حتى تفقد الأرض بعضا من خصوبتها .. من أجل هؤلاء الذين يبحثون عن حياة نشطة .. لهؤلاء الذين يستطيعون معاملة الناس مثل معاملتهم للمادة .. الذين يستطيعون فهم الأوضاع الكبيرة .. الأحداث المراوغة .. الأقدار المرسومة .. نيجيريا تقدم ذراعيها لأجل الرجال في الهند الذين جعلوا من الإنجليز صانعا للقانون ومشيدا ومهندسا للعالم .. أعرف أننا نستطيع العثور على الرجال .. إن أمهاتنا لا يجذبننا نحو الجانب القاسي من الطفولة .. العودة إلى دائرة البيت .. العودة إلى ألعاب الشباب عديمة الفائدة .. إنه لمن الفخر الشديد أنهن جئن بنا أقوياء لا نخاف من قيادة هذه الشعوب المتخلفة .. لا شك أننا نحن! الشعوب! هل سيكون الإنجليزي الصغير الذي قاتل من أجله النورماندي ضد الساكسوني في أرضه؟ هل من أجل مكتب فقط يقرأ عليه صغارنا «ذراك، ولفروبيشرا، لنيلسون، وكلايف»، ورجال مثل «مونجو بارك»؟ هل من أجل مكتب المحاسبة الذي أخذوه عن اليونان وروما؟ لا .. لا .. ألف مرة لا .. إن الجنس البريطاني سيأخذ مكانته .. إن الدم البريطاني سيحكم.»
قال السيد «كلارك»: آه .. شيء طيب.
ثم راح ينظر في ساعته مرة ثانية .. دقيقتان فقط للوصول إلى كابتن «وينتربوتوم»، وإذن فهناك متسع من الوقت .. كان «كلارك» قبل مجيئه إلى «أوكبيري» قد أمضى شهرين في مراكز القيادة، تذكر يوم أن دعاه نائب المحافظ على العشاء حين اعتقد لأسباب ما أن الساعة كانت تمام الثامنة، وأنه وصل في ميعاده لكن صالة الاستقبال البراقة كانت فارغة من الناس، فاضطر «كلارك» أن يتوجه إلى الحديقة الأمامية للانتظار، وحينئذ جاء أحد الخدم، وقدم له مشروبا، فجلس على حافة الكرسي بقلق وكأس من الشيري في يديه .. كان يود لو ينسحب تحت ظل إحدى الأشجار في الحديقة حتى يصل بقية الضيوف، لكن شخصا ما كان يهبط السلم بسرعة وهو يطلق صفيرا عاليا .. قفز «كلارك» على قدميه وقبل أن يتقدم مضيفه لمصافحته حدق فيه بانتباه لحظة قصيرة، فسارع «كلارك» بتقديم نفسه، وكان على وشك الاعتذار لكن «ه. ه» لم يمنحه الفرصة، وقال: أعتقد أن العشاء في الثامنة والربع.
دخل مساعده في تلك اللحظة، ورأى الضيف وهو يبدو قلقا، ويهز ساعته مستمعا إلى دقاتها: لا تقلق يا «جون»، تعال لمقابلة السيد «كلارك»، الذي جاء مبكرا بعض الشيء.
صعد إلى أعلى مرة ثانية تاركا إياهم، وطوال وقت العشاء لم يتحدث أبدا إلى «كلارك» .. كان بقية الضيوف جميعا من كبار السن والمقام، ولم يبد أحدهم أي اهتمام ب «كلارك» المسكين، وكان اثنان منهم بصحبة زوجاتهم أما بقيتهم بما فيهم «ه. ه» فإنهم غير متزوجين أو أنهم لحكمة ما تركوا زوجاتهم في انجلترا.
كانت أسوأ اللحظات التي شاهدها «كلارك» حين قام «ه. ه» بدعوة الضيوف إلى صالة الطعام دون الإشارة إليه بالإضافة إلى أن أحدا منهم لم ينتبه لذلك، أخذوا جميعا أماكنهم فور جلوس «ه. ه» ثم أرسل «أ. د. ك» واحدا من الخدم لإحضار كرسي، ولا بد أن شيئا ما كان وراءه عندما وقف وقدم مقعده الخاص ل «كلارك».
لحظة وصول «توني كلارك» كان الكابتن «وينتربوتوم» يشرب البراندي والبيرة. - إن الجو لطيف اليوم .. شكرا للرب.
قال «وينتربوتوم»: نعم، كان جميلا أن تتساقط الأمطار. - كيف ستكون العاصفة الاستوائية؟ .. أعتقد أن الجو سيميل للبرودة أكثر مما هو عليه الآن. - نعم .. ولكن ليس تماما كما تعتقد .. سيكون الجو لطيفا ليومين فقط، هذا كل ما في الأمر .. إن موسم الأمطار الفعلي لا يبدأ قبل مايو وأحيانا يونيو .. تفضل بالجلوس. - أشكرك كثيرا .. ربما يكون السيد «آلين» حقيرا ومتغطرسا بشدة، ويمكننا القول بأنه أنيق ومعتد بنفسه بعض الشيء.
جاء «بونيفيس» الصبي الصغير للكابتن .. تقدم للأمام حاملا صينية فضية وقال: ماذا تشربون؟ - لا أعرف بالضبط .. ولكن ... - فلنجرب قليلا من الكوستر القديم. - براندي وبيرة. - حسنا .. شيء جميل.
صفحة غير معروفة