صحة الإجماع الذي حكاه ابن تيمية رحمه الله تعالى على حرمة الطواف بغير البيت الحرام
أعدها
أبو عبد الله
أحمد بن محمد بن محمد بسيوني
عفا الله عنه وعن والديه
1 / 1
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن أصل هذه الرسالة هو مجموعة مقالات نشرتها على الشبكة العنكبوتية، وقد رأيت أن أجمعها في صورة بحث واحد؛ رجاء النفع لي ولإخواني.
وهذه الرسالة هي عبارة عن بحث حول صحة الإجماع الذي حكاه ابن تيمية رحمه الله تعالى على حرمة الطواف حول غير البيت المعظم، وكذا حول صحة الإجماع على عدم مشروعية اللمس والتقبيل للقبور.
وأول ما سأبدأ به هو نقل ما حكاه ابن تيمية ﵀ في كتبه أو نُقل عنه في هاتين المسألتين، ثم أتعرض لنقلٍ مهم نُقل عنه ﵀ حولهما قد استشكله بعض الباحثين، ثم أذكر أقوال علماء المذاهب الأربعة رحم الله الجميع حولهما.
وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي خالصا صوابا، والله المستعان، لا رب سواه.
وكتب
أبو عبد الله
أحمد بن محمد بن محمد بسيوني
1 / 2
فصل
في نقل ما حكاه ابن تيمية ﵀ من الإجماع حول حرمة الطواف بالقبر، وعدم مشروعية الاستلام والتقبيل للقبر النبوي
والمقصد من نقل نصوصه في حكاية الإجماع بيان دقة ألفاظه في ذلك، مع ما سيأتي من نقولات عنه ﵀.
• قال ﵀ كما في مجموع الفتاوى (٢/ ٣٠٨):
فإن الطواف بالبيت العتيق مما أمر الله به ورسوله وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين؛ ومن اعتقد ذلك دينا فهو كافر سواء طاف ببدنه أو بقبره.
• وقال ﵀ كما في مجموع الفتاوى (٣/ ٣٩٩):
اتفق العلماء على أن من سلم على النبي ﷺ عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها لأن التقبيل والاستلام إنما يكون لأركان بيت الله الحرام فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.
• وقال ﵀ كما في مجموع الفتاوى (٤/ ٥٢١):
وقد اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الطواف إلا بالبيت المعمور، فلا يجوز الطواف بصخرة بيت المقدس ولا بحجرة النبي ﷺ ولا بالقبة التي في جبل عرفات ولا غير ذلك. وكذلك اتفق المسلمون على أنه لا يشرع الاستلام ولا التقبيل إلا للركنين اليمانيين.
• وقال ﵀ كما في مجموع الفتاوى (٢٦/ ١٢١):
وأما سائر جوانب البيت ومقام إبراهيم وسائر ما في الأرض من المساجد وحيطانها ومقابر الأنبياء والصالحين كحجرة نبينا ﷺ ومغارة إبراهيم ومقام نبينا ﷺ الذي كان يصلي فيه وغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين وصخرة بيت المقدس فلا تستلم ولا تقبل باتفاق الأئمة. وأما الطواف بذلك فهو من أعظم البدع المحرمة، ومن اتخذه دينا يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ولو وضع يده على الشاذروان الذي يربط فيه أستار الكعبة لم يضره ذلك في أصح قولي العلماء، وليس الشاذروان من البيت بل جعل عمادا للبيت.
1 / 3
• وقال ﵀ كما في مجموع الفتاوى (٢٦/ ١٣٣):
وكذلك القبة التي فوقه التي يقال لها: قبة آدم لا يستحب دخولها ولا الصلاة فيها.
والطواف بها من الكبائر
وكذلك المساجد التي عند الجمرات لا يستحب دخول شيء منها ولا الصلاة فيها.
وأما الطواف بها أو بالصخرة أو بحجرة النبي ﷺ وما كان غير البيت العتيق فهو من أعظم البدع المحرمة.
• وقال ﵀ كما في مجموع الفتاوى (٢٦/ ٢٥٠):
فإن الطواف لا يشرع إلا بالبيت العتيق باتفاق المسلمين.
ولهذا اتفقوا على تضليل من يطوف بغير ذلك مثل من يطوف بالصخرة أو بحجرة النبي ﷺ أو بالمساجد المبنية بعرفة أو منى أو غير ذلك أو بقبر بعض المشايخ أو بعض أهل البيت كما يفعله كثير من جهال المسلمين؛ فإن الطواف بغير البيت العتيق لا يجوز باتفاق المسلمين.
• وقال ﵀ في الرد على الإخنائي (ص: ١٢٧):
لا يجوز الطواف بالحجرة بالإجماع.
• وقال ﵀ في الرد على الإخنائي (ص: ١٤٩):
وقد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحدٌ من الأئمة الأربعة كسؤاله الاستغفارَ. وزاد بعضُ جهّالِ العامةِ ما هو محرَّمٌ أو كفرٌ بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها.
• وقال ﵀ في الرد على الإخنائي (ص: ١٥٧):
وما كان قربةً للغرباء فهو قربةٌ لأهل المدينة، كإتيان قبور الشهداء وأهل البقيع، وما لم يكن قربةً لأهل المدينة لم يكن لغيرهم؛ كاتخاذ بيته عيدًا واتخاذ قبرِه وقبرِ غيرِه مسجدًا، وكالصلاةِ إلى الحجرةِ والتمسح بها وإلصاق البطنِ بها والطوافِ بها، وغير ذلك مما يفعله جهالً القادمين، فإن هذا بإجماع المسلمين ينهى عنه الغرباءُ كما نُهِي عنه أهلُ المدينة، ينهون عنه صادرين وواردين باتفاق المسلمين، وبالجملة فجنس الصلاة والسلام عليه والثناء عليه ونحو ذلك مما استحبه بعضُ العلماء عند القبر الواردين أو الصادرين هو مشروع في مسجده وسائر المساجد.
1 / 4
• وقال كما في جامع المسائل ط عالم الفوائد- المجموعة السابعة (ص ٤١٦، ٤١٧)
فليس في بيت المقدس بل ولا في مسجد النبي ﷺ عبادة يختصّ بها، بل العبادات المشروعة فيهما مشروعة في سائر المساجد، كالصلاة والاعتكاف والذِّكر والدعاء والقراءة ونحو ذلك. وهذا بخلاف المسجد الحرام، فإنه مشروعٌ فيه ما لا يُشْرع في غيره؛ وهو الطواف به، واستلام ركنيه اليمانيين، وتقبيل الحجر الأسود الذي فيه. فإن ذلك عبادةٌ تختصّ بالمسجد الحرام باتفاق المسلمين، ولا يُشرَع في غيره من المساجد لا طواف ولا استلام شيء من الأشياء. فليس في بيت المقدس ما يُطاف به لا الصخرة ولا غيرها، بل وكذلك مسجد النبي ﷺ ليس فيه ما يُقَبَّل ويُستَلَم، لا الحجرة النبوية -على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- ولا غير ذلك.
وهذا كلّه متفق عليه بين أئمة المسلمين، ليس منهم من استحبّ ببيت المقدس أو بغير المسجد الحرام من المساجد لا طوافًا ولا تقبيلًا ولا استلامًا ونحو ذلك، ولا فَعَل شيئًا من ذلك رسولُ الله ﷺ ولا أئمة الأمة ولا من يُقتدى به من السلف، بل من اتخذ الطوافَ بالصخرة عبادةً أو بغير البيت فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قُتِل.
• وقال ﵀ كما في مختصر الفتاوى المصرية للبعلي (ص: ١٩٣، ١٩٤):
ولهذا اتفق المسلمون على أن من زار قبر النبي ﷺ أو غيره من أهل البيت وغيرهم أنه لا يتمسح به ولا يقبل، بل ليس شيء يشرع تقبيله إلا الحجر الأسود، وقد ثبت أن عمر ﵁ قال فيه: إنك حجر لا تنفع ولا تضر
ولكن تنازع الفقهاءُ في وضع اليد على منبر النبي ﷺ لما كان موجودا فكرهه مالك وغيره، وأما التمسح بقبر النبي ﷺ وتقبيله فكلهم نهى عنه أشدَّ النهي، وذلك أنهم علموا ما قصده من حسم مادة الشرك وتحقيق التوحيد لله وحده.
• وقال ﵀ كما في مختصر الفتاوى المصرية (ص: ٢٩٨)
ولا يشرع الطواف بغير البيت من سائر الأرض باتفاق المسلمين، ومن اتخذ ذلك قربة عرف فإن أصر قتل بالاتفاق.
وأنبه إلى أنني صححت نص مختصر الفتاوى المصرية للبعلي في الموضعين السابقين من نسخته التي بخطه، وقد أرفقتهما.
هذه هي نصوص ابن تيمية ﵀ في حكاية الإجماع حول المسألتين، وفيها الإجماع على حرمة الطواف بغير البيت المحرم، وعدم مشروعية الاستلام والتمسح بالقبر.
وبقي نصان مهمان يحسن إيرادهما معا.
1 / 5
فصل
في ذكر نقلين مهمين أحدهما من نص ابن تيمية وآخر منقول عنه ﵀
وسأبدأ بالنص المنقول عنه، وهو كالتالي:
ويحرم طوافه بغير البيت العتيق اتفاقًا، واتفقوا أنه لا يقبله ولا يتمسح به؛ فإنّه مِن الشرك، والشرك لا يغفره اللهُ، [ولو كان أصغر].
بداية هذا النص نقله ابنُ مفلح في الفروع (٦/ ٦٦)، وكذا البعلي في الاختيارات (ص ٧٠ ط. مطبعة كردستان) (ص ١٧٦ ط. دار العاصمة)، وما بين المعقوفين ثابت في النسخة الخطية، وطبعة دار العاصمة، وهو المثبت كذلك في الفروع لابن مفلح.
وقد أرفقت الموضع من النسخة الخطية للفروع وكذا اختيارات البعلي.
الفروع
الاختيارات للبعلي
تنبيه: المهتم بتراث ابن تيمية ﵀ لا يكتب عند العزو لمثل هذا الموضع: كما في الفتاوى الكبرى (٥/ ٣٨٤)، فهذا من الخطأ البين عند من يهتم بتراثه؛ حيث إن اختيارات ابن تيمية للبعلي داخلة في الفتاوى الكبرى المطبوعة، فيكون العزو للاختيارات لا الفتاوى الكبرى.
1 / 6
وأما عن تفصيل النقل، فهو كالتالي:
• حكاية ابن تيمية ﵀ الاتفاقَ على: حرمة الطواف بغير البيت.
• ثم حكايته ﵀ الاتفاقَ على: عدم التقبيل والتمسح بغير البيت
وبعد أن حكى الاتفاق على عدم التقبيل والتمسح، ذكر تعليل ذلك عنده، فقال: فإنه من الشرك.
فليس الاتفاق على أنه من الشرك، فلينتبه!
وأقرب نصوص ابن تيمية لهذا المعنى، ما قاله في الرد على الإخنائي (ص: ٣٩)، وهو كذلك في مجموع الفتاوي (٢٧/ ١٩١، ٢٢٣)، وهو النص الثاني الذي أردت إيراده هنا، قال ﵀:
واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي ﷺ ولا يقبّله، وهذا كله محافظة على التوحيد؛ فإن من أصول الشرك بالله اتخاذَ القبورِ مساجدَ. قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ [نوح: ٢٣] قالوا: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. وقد ذكر بعضَ هذا المعنى البخاريُّ في صحيحه لما ذكر قولَ ابنِ عباس ﵄: إن هذه الأوثان صارت إلى العرب، وذكره ابنُ جرير الطبريُّ وغيرُه في التفسير عن غير واحد من السلف.
ولعله هو أصل المنقول عن ابن تيمية ﵀، والعلم عند الله تعالى.
وهذا نظير ما نقله النووي في المجموع شرح المهذب (٥/ ٢٨٦، ٢٨٧) عن أبي موسى الأصبهاني، أنه قال: وقال الفقهاء المتبحرون الخراسانيون: المستحب في زيارة القبور أن يقف مستدبرَ القبلةِ مستقبلًا وجهَ الميت يسلم ولا يمسح القبرَ ولا يقبله ولا يمسه؛ فإن ذلك عادة النصارى.
فقوله: فإن ذلك عادة النصارى هو تعليله، وليس هو قول الفقهاء المتبحرين الخراسانيين!، فليعلم.
وكذلك من نظير تعليل عبد القادر الجيلاني ﵀ في الغنية (١/ ٩١): «وإذا زار قبرًا لا يضع يدَه عليه، ولا يقبله؛ فإنه عادة اليهود».
وكذا نظير قول الأثرم ﵀ [كما في المستوعب (٤/ ٢٧٣)]، حيث قال: ذلك من فعل الجاهلية.
وقول الغزالي ﵀ في الإحياء (١/ ٢٧١): «فإن المسَّ والتقبيلَ للمشاهد عادةُ النصارى واليهودِ».
ثم إن الأصل في النقل عن عالم معين هو الرجوع إلى نصوصه وهو المقدم، وأما المنقول عنه وهو التالي فينبغي الاحتياط في الاعتبار به، ومعارضته مع أصل كلامه، كما أسلفت، والعلم عند الله تعالى.
1 / 7
فصل
في ذكر أقوال أصحاب المذاهب الأربعة الكبار تصريحا حول هذه المسألة
قول السادة الأحناف رحمهم الله تعالى:
اشتهر عندهم رحمهم الله تعالى نصٌ مهمٌّ، وهو الذي سأهتم به هنا، وإلا فالنقول كثيرة، والنص كالتالي:
لو طاف حول مسجدٍ سوى الكعبة يخشى عليه الكفر.
وهذا النص نقله جماعةٌ، منهم:
• العيني (ت ٨٥٥) في البناية (٣/ ١٢٣) ومنحة السلوك (ص ١٨٠)
• سراج الدين ابن نجيم (ت ١٠٠٥) في النهر الفائق (١/ ٣٧١) ونسبه لصاحب معراج الهداية «الكاكي» (ت ٧٤٩)
• عبد الغني النابلسي (١٠٥٠) في نهاية المراد (ص ٧٠٨، ٧٠٩) ونسبه لصاحب جامع الفتاوي «قرق أمير الحميدي الرومي» (ت ٨٦٠)، والنص كما نقله النابلسي في الجزء المحقق من الكتاب كرسالة علمية بالجامعة الإسلامية ببغداد فرج اللهُ كربَها، وكربَ أمةِ سيدنا محمدٍ ﷺ.
• أبو سعيد الخادمي (ت ١١٥٦) في بريقة محمودية (٤/ ١٣٩)، ولم ينسبه.
• محمد صفي الدين الحنفي (ت ١٢٠٠) في الصاعقة المحرقة (ص ٥٠)، ونسبه لصاحب الكافي «النسفي» (ت ٧١٠).
• الطحطاوي (ت ١٢٣١) في حاشيته على مراقي الفلاح (ص ٥٣٨) ونسبه لصاحب الكافي «النسفي» (ت ٧١٠) كذلك.
ونقل الطحطاوي أيضا (ص ٥٣٨) عن صاحب غاية البيان نادرة الزمان في آخر الأوان «أمير كاتب الإتقاني» (ت ٧٥٨)، قوله في تشبيه الناس أنفسهم بالواقفين بعرفات: «بل يكره في الصحيح»، وظاهر كلامهم أنها تحريمية؛ لأن الوقوف عهد قربة بمكان مخصوص، فلم يجز فعلُه في غيره كالطواف ونحوه، ألا ترى أنه لا يجوز الطواف حول مسجد أو بيت سوى الكعبة تشبها كما في «غاية البيان».
وقد رجعت إلى هذه الأصول فوجدتها كما نقلت، وسأضع صورها.
غاية البيان نادرة الزمان في آخر الأوان.
نسخة أخرى من غاية البيان نادرة الزمان في آخر الأوان
الكافي للنسفي
معراج الهداية للكاكي
1 / 8
قول السادة المالكية رحمهم الله تعالى:
بعد أن بينا بتوفيق الله تعالى نقلًا مهمًّا عن الأحناف رحم الله الجميع، واقتصرنا عليه لأهميته وصراحته واعتنائهم به، نذكر الآن بحول الله وقوته قول المالكية.
وقبل البدء أود أن أبين أن نصوصهم واضحة في أن الطواف عبادة مختصة بالبيت المعظم متعلقة به؛ فقد قال الإمام مالك ﵀ في الموطأ (ص ٣٦٩ رواية يحيى، ١/ ٥٥٤ رواية الزهري) عن قول عمر بن الخطاب ﵁ (فإن آخر النسك الطواف بالبيت): «إن ذلك فيما نرى والله أعلم لقول الله ﵎: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: ٣٢]، وقال: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٣٣]، فمحل الشعائر كلها وانقضاؤها إلى البيت العتيق».
وقال أبو الوليد الباجي في المنتقى شرح الموطأ (٢/ ٢٩٠): «اعلم أن الطواف عندنا من شرطه الطهارة ... وأفعاله ﷺ عندنا على الوجوب ودليلنا من جهة القياس أن هذه عبادة لها تعلق بالبيت، فوجب أن يكون من شرطها الطهارة كالصلاة». وانظر المنتقى (٢/ ٢١٧، ٢٨٦).
وقال ابن العربي ﵀ في أحكام القرآن (٣/ ٢٨٨): «قوله تعالى: ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ [الحج: ٣٣]: يريد أنها تنتهي إلى البيت العتيق، وهو الطواف؛ وهذا قول مالك: إن الحج كله في كتاب الله، يعني أن شعائر الحج كلها تنتهي إلى الطواف بالبيت، وقال عطاء: تنتهي إلى مكة، هذا عموم لا يفيد شيئا فإنه قد صرح بذكر البيت، فلا معنى لإلغائه، وكذلك قول الشافعي: إنه إلى الحل والحرم، وهذا إنما بنوه على أن الشعائر هي البدن، ولا بد فيها من الجمع بين الحل والحرم، ولا وجه لتخصيص الشعائر مع عمومها».
وقال ابن نصر البغدادي في المعونة على مذهب عالم المدينة (١/ ٥٧٢) في شأن الطواف: «ولأنها عبادة مختصة بالبيت فلم تجز إلا بطهارة كالصلاة». وانظر المنتقى للباجي (٣/ ٥٨).
والنص على أن الطواف عبادة متعلقة وخاصة بالبيت المعظم هو قول عامة الفقهاء من أصحاب المذاهب الكبار. انظر: المبسوط للسرخسي (٤/ ٣٨)، بحر المذهب للروياني (٣/ ٤٨٤)، المغني لابن قدامة (٥/ ٢٢٣، ٢٣١، ٢٤٨)، التعليقة الكبيرة لأبي يعلى (٢/ ١٢، ٢٧، ٥٣)، وغير ذلك، وهذا أصلٌ مهمٌّ متفقٌ عليه، لن أعيد ذكرَه عند سردِ أقوالِ المذاهب الأخرى، فليعلم!
1 / 9
أما الأقوال المصرحة في هذه المسألة عند المالكية، فهي كالتالي:
• قال ابن الحاج ﵀ (ت ٧٣٧) في المدخل (١/ ٢٦٢): «فينبه العالمُ غيرَه على ذلك ويحذِّرُهم من تلك البدعِ التي أحدثت هناك، فترى مَن لا علم عنده يطوف بالقبرِ الشريفِ كما يطوف بالكعبةِ الحرامِ، ويتمسح به ويقبله ويلقون عليه مناديلَهم وثيابَهم، يقصدون به التبرك، وذلك كلُّه من البدع؛ لأن التبرك إنما يكون بالاتباع له ﵊، وما كان سبب عبادة الجاهلية للأصنام إلا من هذا الباب».
ثم قال: «وقد قال ﵊: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» انتهى، فإذا كان هذا الذمُّ العظيمُ فيمن اتخذ الموضعَ مسجدًا، فكيف بالطواف عنده!».
وقال في المدخل (٤/ ٢٤٣): «وليحذر مما يفعله بعضهم من هذه البدعة المستهجنة، وهو أنهم يطوفون بالصخرة كما يطوفون بالبيت العتيق».
• وقد نقل خليلُ بنُ إسحاقَ ﵀ (ت ٧٧٦) في منسكه (ص ١٣٦) كلام ابنِ الحاج ﵀ مقرًّا له.
• قال عبد العزيز الإحسائي ﵀ (ت ١٣٦٠) في تدريب السالك (٢/ ٣٠٩ مع التبيين للشنقيطي): «ولا يتمسح بالشباك ولا يطوف بالقبر».
وقد نقل محمد بن يونس الحيدري ﵀ (ت ١٣٨٠) في الأجوبة الكافية (ص ١٥٨) كلامَ النووي بإطباق العلماء على الحرمة مقرًّا له، وسيأتي في الكلام على أقوال الشافعية بإذن الله تعالى.
1 / 10
قول السادة الشافعية رحمهم الله تعالى:
سبق وتكلمنا عن الإشارة إلى أن الطواف مختص بالبيت، ونصوص الشافعية في هذا كثيرة جدا، ولكن سنذكر النصوص الصريحة في النص على حرمة الطواف بغير البيت المعظم، ومنها:
• قال الحليمي ﵀ (ت ٤٠٣) في شعب الإيمان (٢/ ٤٠٨): فكذلك الكعبة إنما شرفت باسم الله تعالى، وضعت في الأرض بحيال البيت المعمور ليكون متعبدًا لسكان الأرض، فخصه الله بعبادتين: أحدهما الطواف فلا يجوز إلا حوله. والآخر: الصلاة فلا تجوز إلا إليه.
وقال أيضا في شعب الإيمان (٢/ ٤٥٧): «ونهى بعض أهل العلم عن الصاق البطن والظهر بجدار القبر ومسحه باليد، وذلك من البدع. وما قاله يشبه الحق، لأنه ما كان يتقرب في حياته بمسح جدار بيته، ولا بإلصاق البطن والظهر به. وإن كان مثل ذلك بالكعبة، ويطاف بالكعبة ولا يطاف بالقبر، فلا ينكر أن يمسح الكعبة ولا يمسح جدار القبر».
وانظر الباعث لأبي شامة (ص ٩٥)، والمجموع للنووي (٨/ ٢٧٥)، والإيضاح (ص ٤٥٦)، وهداية السالك للعز ابن جماعة (٤/ ١٥٢٦)، وإتحاف الزائر لأبي اليم ابن عساكر (ص ٦١).
• قال الرافعي ﵀ (ت ٦٢٣) في شرح الوجيز (٣/ ٣٩٥): «يجب ألا يوقع الطواف خارج المسجد، كما يجب أن لا يوقعه خارج مكة والحرم».
• وقال ابن الصلاح ﵀ (ت ٦٤٣) في صلة الناسك (ص ٣٥٣): «لا يجوز أن يطاف بالقبر».
وانظر الباعث لأبي شامة (ص ٩٥)
• وذكر ابن أبي شامة ﵀ (ت ٦٦٥) في الباعث (ص ٩٥) كلام ابن الصلاح مقرًّا له.
وقال في معرض ذكره للبدع المحدثات (ص: ٣٣): «وقد بلغني أن منهم من يطوف بقبة الصخرة تشبها بالطواف بالكعبة ولا سيما في السنين التي انقطع فيها طريق الحاج».
• قال النووي ﵀ (ت ٦٧٦) في شرح المهذب (٨/ ٢٧٥): «لا يجوز أن يطاف بقبره ﷺ ويكره إلصاق الظهر والبطن بجدار القبر قاله أبو عبيد الله الحليمي وغيره قالوا ويكره مسحه باليد وتقبيله بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضره في حياته ﷺ هذا هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه ولا يغتر بمخالفة كثيرين من العوام وفعلهم ذلك؛ فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بالأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء ولا يلتفت إلى محدثات العوام وغيرهم وجهالاتهم». وانظر الإيضاح (ص ٤٥٦).
وهذا صريح منه ﵀ في حكاية الإجماع على المسألة؛ إذ قال: «هذا هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه».
1 / 11
• قال أبو اليمن ابن عساكر ﵀ (ت ٦٨٦) في إتحاف الزائر (ص ٦٠، ٦١):
«وليس من السنة أن يمس جدار القبر المقدس، ولا أن يقبله، ولا يطوف به، كما يفعله جهال الزوار، بل يكره ذلك ولا يجوز، والوقوف من بعدٍ أقرب إلى الاحترام».
• وعلق الذهبي ﵀ (ت ٧٤٨) في السير (١٦/ ٢٦٤، ٢٦٥) على طواف إبراهيم النصراباذي بغير البيت المعظم: «وهذه ورطة أخرى، أفتكون قبلة الإسلام كقبر! ويطاف به!، فقد لعن رسول الله ﷺ من اتخذ قبرًا مسجدًا».
• قال العزُّ ابن جماعة ﵀ (ت ٧٦٧) في هداية السالك (٤/ ١٥٢٨): «ولا يجوز أن يطاف بقبره ﷺ، ولا ببناء غير الكعبة الشريفة بالاتفاق».
ولاحظ هنا أنه ﵀ نقل الاتفاق.
• قال ابن النحاس الدمشقي ﵀ (ت ٨١٤) في تنبيه الغافلين (ص ٤٦٨، ٤٦٩) عند ذكره لجملة من البدع والمحدثات، فقال: «وهذا كلُّه من البدع المحدثة في الدين، ويتعين على من له اليد أن يمنعهم من ذلك ويزجرهم، ومنها: طوافهم بالقبة التي يسمونها قبة آدم ﵇، وهي بدعة شنيعة يجب إنكارها والمنع منها».
• وعدَّ المقريزيُّ ﵀ (ت ٨٤٥) في تجريد التوحيد (ص ١٨) الطواف بغير بيت الله المحرم من أمثلة الشرك بالله في الأفعال.
• وقال السيوطي ﵀ (ت ٩١١) في الأمر بالاتباع (ص: ١٤٥) بعد ذكره للوقوف بعرفة: «وكذلك السفر إلى بيت المقدس لا خصوص له في هذا الوقت على غيره. ثم فيه مضاهاة الحج إلى البيت الحرام وتشبه له بالكعبة، ولهذا قد أفضى الأمر ببعض الضُّلَّال للطواف بالصخرة تشبيهًا بالكعبة، أو من حلق الرأس، أو من النسك هناك كذلك الطواف بالقبة التي بجبل الرحمن بعرفة، وكذلك اجتماعهم في المسجد الأقصى في الموسم لأشياء. والغناء والضرب بالدفوف ونحو هذا من أقبح المنكرات. وهذا منهي عنه خارج المسجد، فكيف بالمسجد الأقصى. فقصد بقعة بعينها للتعريف فيها، كقبر رجل صالح أو المسجد الأقصى، لا يختلفون في النهي عنه لأن فيه تشبيهًا بعرفات».
وقال ﵀ كذلك في الأمر بالاتباع (ص: ١٨٥): «ومن البدع أيضًا: أكل العوام التمر الصيحاني في الروضة الشريفة بين المنبر والقبر، وطوافهم بالقبر الشريف، ولا يحل ذلك. وكذلك إلصاقهم بطونهم وظهورهم بجدار القبر، وتقبيلهم إياه بالصندوق الذي عند رأس النبي، ومسحه باليد. وكل ذلك منهي عنه».
1 / 12
• وعدَّ ابنُ حجر الهيتمي ﵀ (ت ٩٧٤) في الزواجر (١/ ٢٤٤) الطوافَ حول القبور من الكبائر، فقال: «الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثانا، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها».
ونقل ﵀ في الجوهر المنظم (ص ١١٣) إجماع النووي، ثم حكى هو الإجماع كذلك، فقال: «كذلك أجمعوا على حرمة الطواف بقبره؛ لأن الطواف بمنزلة الصلاة، كما في الحديث الصحيح، إلا في مسائل ليست هذه منها».
وقد تبين لك أيها القاريء الكريم أن النوويَّ سبق ابنَ تيمية رحم الله الجميع بحكاية الإجماع، وحكى العزُّ ابنُ جماعة ﵀ الإجماعَ كذلك، بل الإجماع على حرمته بديهي؛ كقولهم في الذبح والسجود، والله المستعان.
وقد أكثرت من النقل عن الشافعية ﵏ من صريح قولهم، ومن يستدل بفعل بعضهم في مقابل صريح أقوالهم = فإنه لم يشم رائحةَ جوهرِ العلم، وإن نقل في هذا الباب وأكثر من ذلك!، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
1 / 13
قول السادة الحنابلة رحمهم الله تعالى:
سبق بيان أقوال السادة العلماء من الأحناف والمالكية والشافعية، ونذكر هنا إن شاء الله تعالى قول الحنابلة رحم اللهُ الجميعَ، وسأبين هنا أمرين، أولاهما: بيان أن المذهب هو الحرمة، والثاني هو خطأ مَن جعل في المذهب قولًا ثانيا بالكراهة، كما سأبين تدليس أو جهل البعض في هذه النقطة، والله المستعان وحده أن يلهمنا الصواب والرشد، ويجيرنا من البغي والعنت، إنه سبحانه على كل شيء قدير، وبكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وفيما يلي ذكر أقوال السادة الحنابلة رحمهم الله تعالى المصرحة بالحرمة، أو ما نقلوا فيها كلام ابن تيمية، ونقله دون إظهار مخالفة، الأصل في ذلك الإقرار إلا لقرينة، ولن أذكر أقوال ابن تيمية ولا محمد بن عبد الوهاب ولا أحد من المعاصرين رحم الله الجميع، وسأكتفي بما نقلته آنفا من حكاية ابن تيمية لإجماع العلماء رحمهم الله تعالى، والله المستعان وحده.
وهذا سرد لبعض الأقوال المصرحة بالتحريم:
• قال أبو الفتح الحلواني (ت ٥٠٥) في كفاية المبتدي (ص ٩٧) ذاكرا بعض المنكرات عند القبور، وفيها الإشارة للطواف، قال: «وأما التمسح به والصلاة عنده أو قصده لأجل الدعاء معتقدا أن الدعاء هناك أفضل من الدعاء في غيره، والنذر له أو نحو ذلك فليس هذا من دين المسلمين، بل [مـ] ما أحدث من البدع القبيحة التي من شعب الشرك».
• قال ابن عقيل ﵀ (ت ٥١٣) كما في الفروع لابن مفلح (٣/ ٣٨٢): «لا يخلق القبور بالخلوق، والتزويق والتقبيل لها والطواف بها، والتوسل بهم إلى الله».
• قال ابن عبد الهادي ﵀ (ت ٧٤٤) في الصارم المنكي (ص: ٣٢): «والمسجد الحرام يختص بالطواف لا يطاف بغيره».
وقال أيضا في الصارم المنكي (ص: ٨١): «وما لم يكن قربة لأهل المدينة لم يكن قربة لغيرهم كاتخاذ بيته عيدًا واتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا، وكالصلاة إلى الحجرة والتمسح بها وإلصاق البطن بها والطواف بها وغير ذلك مما يفعله جهال القادمين، فإن هذا بإجماع المسلمين ينهي عنه الغرباء، كما ينهى عنه أهل المدينة ينهون عنه صادرين وواردين باتفاق المسلمين».
وهذا النقل هو نص كلام ابن تيمية في الرد على الإخنائي (ص ٣٧٠) ط. دار الخراز، وقد نقل ابن عبد الهادي منه كثيرا.
وقال أيضا في الصارم المنكي (ص: ١٤٣): «ومما يبين ذلك أن مسجده كسائر المساجد لم يختص بجنس من العبادات لا تشرع في غيره، وكذلك المسجد الأقصى، ولكن خصا بأن العبادة فيها أفضل بخلاف المسجد الحرام، فإنه مخصوص بالطواف واستسلام الركن وتقبيل الحجر وغير ذلك».
وقال أيضا في الصارم المنكي (ص: ١٤٥): «وهذا تشبيه لبيت المخلوق ببيت الخالق، ولهذا لا يجوز الطواف بالحجرة بالاجماع».
وقال أيضا في الصارم المنكي (ص: ١٦٤): «وقد حدث من بعض المتأخرين في ذلك بدع لم يستحبها أحد من الأئمة الأربعة كسؤاله الاستغفار، وزاد بعض جهال العامة ما هو محرم، أو كفر بإجماع المسلمين كالسجود للحجرة والطواف بها وأمثال ذلك مما ليس هذا موضعه».
وانظر (ص ٣٣٤ وما بعدها، وفيها إلزامات حسنة)
وقد صرح بالإجماع كما ترى في النقلين السابقين، والنقلان الأخيران هما نص كلام ابن تيمية رحم الله الجميع في الرد على الإخنائي (ص ٣٠٤، ٣٥٤) ط. دار الخراز.
1 / 14
• قال ابن القيم ﵀ (ت ٧٥١) في إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان (١/ ٣٥١، ٣٥٢) عند ذكره مفاسد اتخاذ القبور أعيادا: «فمن مفاسد اتخاذها أعيادا: الصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستعانة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات، التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى يسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعا سجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا، وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسرانا، فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة أو لي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن؛ إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضا، ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولو بحجك كل عام».
1 / 15
• قال ابن مفلح ﵀ (ت ٧٦٣) في الفروع (٦/ ٦٦): «قال شيخنا [أي: ابن تيمية]: يحرم طوافه بغير البيت العتيق اتفاقا». ولم يعقب لا هو ولا المرداوي رحم الله الجميع في التصحيح.
• قال الحجاوي ﵀ (ت ٩٦٨) في الإقناع (١/ ٣٩٦): «قال الشيخ [أي: ابن تيمية]: ويحرم طوافه بغير البيت العتيق اتفاقا». ولم يعقب لا هو ولا البهوتي رحم الله الجميع في كشاف القناع، بل صرح البهوتي بالحرمة، كما سيأتي إن شاء الله.
• وقال ابن النجار رحمه لله (ت ٩٧٢) في منتهى الإرادات (٢/ ١٧١): «وزيارة قبر النبي ﷺ وقبر صاحبيه رضي الله تعالى عنهما فيسلم عليه مستقبلا له ثم يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره ويدعو ويحرم الطواف بها ويكره التمسح ورفع الصوت عندها». ولم يعلق عليهما الخلوتي (ت ١٠٨٨) وابن قائد (ت ١٠٩٧) في حاشيتهما.
[حاشية الخلوتي (٢/ ٤١٧)، حاشية ابن قائد (٢/ ١٧٢)].
وأكده في شرحه المعونة (٣/ ٤٨٦) بنقل حكاية الإجماع عن ابن تيمية رحم الله الجميع.
• قال البهوتي ﵀ (ت ١٠٥١) في شرح منتهى الإرادات (١/ ٥٩٤): «(ويحرم الطواف بها) أي: الحجرة النبوية، بل بغير البيت العتيق اتفاقا قال الشيخ تقي الدين [أي: ابن تيمية]، (ويكره التمسح) بالحجرة؛ قال الشيخ تقي الدين: اتفقوا على أنه لا يقبله ولا يتمسح به فإنه من الشرك، وكذا مس القبر أو حائطه ولصق صدره به وتقبيله».
وقال في الروض المربع (ص: ٢٨٣): «ويجعل الحجرة عن يساره ويدعو بما أحب، ويحرم الطواف بها، ويكره التمسح بالحجرة ورفع الصوت عندها». وأقرَّه ابن فيروز (ت ١٢٠٥) في حاشيته (ص ٣٤٩) وزاد حكاية الإجماع عن ابن تيمية رحم الله الجميع.
• قال مرعي الكرمي ﵀ (ت ١٠٣٣) في غاية المنتهى (١/ ٢٥١): «وحرم إسراج قبور، وكذا طواف بها».
وقال أيضا في الغاية (١/ ٤١٩): «ويجعل الحجرة عن يساره، ويدعو بما أحب، ويحرم الطواف بها، قال الشيخ [أي ابن تيمية]: يحرم طوافه بغير البيت اتفاقا، وكره تمسح بالحجرة، ورفع صوت عندها».
1 / 16
• قال أحمد بن عوض المرداوي (ت ١١٤٠) في فتح وهاب المآرب (١/ ٦٧١): «ويحرم الطواف بالحجرة، ويكره التمسح بها».
• قال أحمد البعلي ﵀ (ت ١١٨٩) في الروض الندي (ص: ١٩١): «ولا يتمسح ولا يمس قبر النبي ﷺ ولا حائطه ولا يلصق به صدره ولا يقبله. ويحرم الطواف بغير البيت العتيق».
• وقال عبد الرحمن البعلي ﵀ (ت ١١٩٢) في بداية العابد (ص: ٧٦): «ثم يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره ويدعو، ويحرم الطواف بها».
وقال في شرحه للبداية (ص ١٩٨): «(ويحرم الطواف بها) أي بالحجرة النبوية، بل يحرم بغير البيت العتيق اتفاقا، قاله الشيخ تقي الدين».
وقال في كشف المخدرات (١/ ٣٣٠): «وَيحرم الطّواف بِغَيْر البَيْتِ العَتِيق اتِّفَاقًا، قَالَه الشَّيْخ (تَقِيّ الدّين)» ولم يعقب.
• وقال الرحيباني ﵀ (ت ١٢٤٣) في مطالب أولي النهى (١/ ٩١٣): «(وكذا) يحرم (طواف بها)، أي: القبور».
وقال أيضا في المطالب (٢/ ٤٤٢): «(ويحرم الطواف بها) أي: الحجرة النبوية، (قال الشيخ) تقي الدين: بل (يحرم طوافه بغير البيت) العتيق (اتفاقا، وكره تمسح بالحجرة) اتفاقا أيضا - وتقبيلها».
• وقال حسن الشطي ﵀ (ت ١٢٧٤) في أقرب المسالك (ص ٣٥): «ويحرم الطواف بها [أي: الحجرة]، ويكره التمسح بها، ورفع الصوت عندها».
• وقال اللبدي (ت ١٣١٩) في دليل الناسك (ص ٧٢): «يحرم الطواف بالحجرة الشريفة، بل بغير البيت العتيق اتفاقا، قاله شيخ الإسلام [أي: ابن تيمية]، واتفق العلماء على كراهة التمسح بجدار القبر الكريم وتقبيله وإلصاق صدره به، بل الأدب أن يبعد كما يبعد منه في حياته ﷺ، قال النووي: وهذا هو الصواب، وهو الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه».
• وقال الدمنهوري (ت ١٣٣٥) في منهج السالك (ص ٥٦٠): «ويحرم الطواف بالحجرة الشريفة».
ويتبقى الأقوال التي صرحت بلفظة الكراهة، وهو ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، والله الموفق والهادي لا إله إلا هو.
1 / 17
بعد أن ذكرنا بحول الله وقوته كثيرا من أقوال السادة الحنابلة ﵏ المصرحة بالتحريم، ولم أقصد تقصي ذلك، وإلا فقد تركت أقوال جماعة من الحنابلة صرحوا بالتحريم؛ وذلك لأسباب عندي، والله المستعان.
ونذكر الآن قول من صرح بلفظ الكراهة
وهم:
• الحجاوي في الإقناع (١/ ٢٣٣): «ويكره المبيت عنده وتجصيصه وتزويقه وتخليقه وتقبيله والطواف به وتبخيره وكتابة الرقاع إليه ودوسها في الأنقاب والاستشفاء بالتربة من الأسقام والكتابة عليه والجلوس والوطء عليه قال بعضهم: إلا لحاجة، والاتكاء عليه».
والحجاوي ﵀ هو أول من ذكر الحكم بالكراهة منسوبا لمذهب الإمام أحمد ﵀، ولم يذكر هذا القول في حواشي التنقيح وكذا الزاد.
ولعله يقصد بالكراهة هنا التحريمية، وقد علق البهوتيُّ في الكشاف (٢/ ١٤٠) على ذلك، قائلا: «لأن ذلك كله من البدع»، وهذا يدل على أنها كراهة تحريم.
لكن يعكر على ذلك أنه بعد ذكره لهذه المكروهات، قال: «ويحرم ...» وسرد أمورا أخرى.
وأصول كتاب الإقناع -كالمستوعب إذ حذا حذوه على حسب تقدير ابن بدران- وكذا كتب المرداوي -التي أشار إليها الحجاويُّ وغيرها- ليس فيها نسبة الكراهة.
• ومرعي الكرمي (ت ١٠٣٣) في دليل الطالب (ص ٧١): «ويكره: تزويقه وتجصيصه وتبخيره وتقبيله والطواف به والإتكاء إليه والمبيت والضحك عنده والحديث في أمر الدنيا والكتابة عليه والجلوس والبناء والمشي بالنعل إلا لخوف شوك ونحوه». وقد تابع في ذلك الحجاويَّ رحم الله الجميع.
وكذا من شرح هذا الموضع من الدليل كأحمد المرداوي والتغلبي والدوماني وغيرهم؛ إذ لم يعقبوا، وكذا لم يعقبوا عندما نقل الشيخ مرعيُّ الاتفاقَ على حرمة الطواف بغير البيت عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحم الله الجميع.
إلا أن بعض الشراح كإبراهيم الصالحي (ت ١٠٩٤) في مسلك الراغب (١/ ٤٧٦) قال بعد ذكره لعبارة الدليل الآنف ذكرها: «لأن ذلك كله بدعة».
وقد خالف الشيخُ مرعيٌّ ﵀ تقريرَه هنا بالكراهة، حيث صرح بالتحريم في نفس الموضع من كتاب الجنائز في غاية المنتهى
• وابن بلبان (ت ١٠٨٣) في مختصر الإفادات (ص ١٩٤)، وقد تابع في ذلك الحجاويَّ ومرعيًّا رحم الله الجميع.
1 / 18
تنبيه: وهنا نقطة مهمة في بيان ذكر الحجاوي ﵀ القول بالحرمة، وتدليس البعض في ذلك؛
فإن الحجاويَّ ﵀ صرح بالحرمة كذلك في كتاب الحج من الإقناع، حينما نقل حكاية ابن تيمية ﵀ الاتفاقَ.
وبعض من ينقل كلامَ الرحيباني في المطالب في شرح الغاية، يقتص النص ولا يكمله، والله المستعان.
قال ﵀: «(وكذا) يحرم (طواف بها)، أي: القبور، (خلافا له)، لصاحب «الإقناع» (هنا)».
ثم وقف عند كلمة (هنا)، ولم يكمل
وتمام العبارة:
«(هنا) حيث صرح بالكراهة، وفي موضع آخر صرح بالحرمة».
فقد ذكر أن الحجاوي ﵀ صرح بالكراهة في هذا الموضع من كتاب الجنائز، وصرح بالحرمة في موضع آخر في كتاب الحج؛ حيث نقل حكاية ابن تيمية ﵀ الاتفاقَ على الحرمة.
وليس نقل الحجاوي لكلام ابن تيمية خروجًا من التبعة، بل إقرارٌ، والله المستعان.
وهنا نقول:
إن الجواب من وجوه:
• الأول: إن حاصل قول الحجاوي ﵀ بالكراهة أنه من اجتهاده هو، وليس ما قاله مما ذكر في الإنصاف أو تصحيح الفروع أو التنقيح، ثم هو لم يذكر الخلاف مع عدم المصحح، وذلك وفق ما ذكره من طريقته في مقدمته: «على قول واحد وهو ما رجحه أهل الترجيح منهم العلامة القاضي علاء الدين في كتبه الإنصاف وتصحيح الفروع والتنقيح، وربما ذكرت بعض الخلاف لقوته، وربما عزوت حكمًا إلى قائله خروجًا من تبعته، وربما أطلقت الخلاف لعدم مصحح».
ومَن له دراية بالمذهب وليس ادعاءً يعلم أنه كم دخل في كتبِ المتأخرين من تصرف، وهذا التصرف قديم، فقد حكى عنه ابن القيم ﵀ (ت ٧٥١) في كتابه الطرق الحكمية (٢/ ٦٠٨، ٦٠٩): «وإنَّما المتأخرون يتصرفون في نصوص الأئمة ويبنونها على ما لم يخطر لأصحابها ببال، ولا جرى لهم في مقال، ويتناقله بعضهم عن بعض، ثمَّ يلزمهم من طرده لوازم لا يقول بها الأئمة، فمنهم من يطردها ويلتزم القول بها، ويضيف ذلك إلى الأئمة، وهم لا يقولون به، فيروج بين النَّاس بجاه الأئمة، ويفتى ويحكم به والإمام لم يقله قط، بل يكون قد نصَّ على خلافه».
وقد جمعت خلافاتِ الإقناعِ مع المنتهى من الغاية، وزدتُ عليها، وقابلتها بنصوصِ إمامِ المذهبِ وقدماءِ الحنابلةِ، فوقع لي جملةٌ من الاختلافات، والله المستعان.
• الثاني: انعقد الإجماعُ قبل تخريج الحجاوي ﵀، وقد سبق أن ذكرنا حكاية النووي وابن تيمية والعز ابن جماعة وابن حجر المكي رحم الله الجميع، بالإضافة إلى أن كل مَن نقل حكاية ابن تيمية من الحنابلة لم يتعقبه.
• الثالث: أن التخريج بالكراهة على مذهب أحمد غير متحقق؛ إذ الطواف عبادة مقصودة يتقرب بها، وكذلك خصوصية الطواف بالبيت المعظم، كما هو مبثوث في كتب الحنابلة وغيرهم.
والتخريج كذلك متجه بالحرمة بأن الطواف صلاة في الأحكام إلا فيما خصه الدليل متجه جدا عند الحنابلة، وقد صرَّح بعضُهم بذلك، منهم الحجاوي في الإقناع؛ إذ نقله عن القاضي وغيره مقرًّا له.
فكما أن الصلاة يتوجه فيها إلى الموضع المخصوص بالاستقبال وهو الكعبة، فكذلك الطواف؛ فلا يطاف إلا بالموضع المخصوص، وهو الكعبة.
وكذا السجود لله عند الكعبة خاص؛ إذ هي القبلة، كما أن سجود الملائكة لآدم إنما كان سجودا لله، وآدم ﵇ كان قبلةً لسجودهم، كما أشار إلى ذلك غير واحد من الحنابلة وغيرهم، وكذا الطواف هو عبادة لله عند موضع مخصوص، فيحرم فعله بغير هذا الموضع.
بالإضافة إلى قاعدة سد الذرائع على التفصيل المذكور في كتب المالكية والحنابلة خصوصا حول هذه المسألة؛ قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (٢٣/ ٢١٤): «وهذا أصل لأحمد وغيره، في أن ما كان من باب سد الذريعة، إنما ينهى عنه إذا لم يحتج إليه».
هذا وقد انتهى بحول الله تعالى وقته المقصود، مع الاختصار في بعض المباحث، وأسأل الله تعالى أن يجعله خالصا صوابا، وألا يجعل لأحد فيه شيئا.
وأرحب جدا وأسعد بمن يسدد وينصح وينتقد على رسوم العلماء وطريقتهم، وأسأل الله تعالى لي ولإخواني جميعا الهدايةَ والتوفيقَ والرشادَ.
والله المستعان وحده، وهو الهادي إلى سواء السبيل
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
1 / 19