386

صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر

تصانيف

ودرس اللغة الإنكليزية في مدرسة ليلية في مدة لا تتجاوز خمسة أشهر مع ممارسة شغله طول نهاره وبعض ليله، وكانت أكثر أوقات دروسه في أواخر الليل وهو لا يعرف التعب ولا يكل من العمل وكثيرا ما كان يصل ليله بنهاره.

ثم انتظم في سلك جمعية شمس البر في بيروت، وهي جمعية أدبية أكثر أعضائها من تلاميذ المدرسة الكلية الأميركانية، فكان وجوده في هذه الجمعية باعثا على مضاعفة رغبته لما آنسه من ارتياح أعضائها إلى صحبته والرغبة في محاضراته، وكثيرا ما كانوا يدعونه لحضور الاحتفالات السنوية للمدرسة الكلية الأميركانية، وسماع الخطب والمباحث، فكان إذا حضر احتفالا وسمع ما يتلى فيه من الخطب والمباحث العلمية والأدبية خرج حزينا يكاد يتقد قلبه غيرة وحمية.

وفي سنة 1881م صمم على ترك شغله وطلب العلم، فلاح له أن الطب خير وسيلة تقربه من العلم وتساعده على الكسب، فاستشار بعض أصدقائه من تلاميذ المدرسة الكلية، فأشاروا عليه بالعدول عن هذا المسلك الصعب؛ لأنه يقضي وقتا طويلا لدرس العلوم الإعدادية لا يقصر عن سنتين فضلا عن أربع سنوات أخرى لدرس الطب لكن ذلك لم يكن ليوهن عزمه فدرس العلوم الإعدادية كلها على أحد أصدقائه في نحو شهرين ونصف حتى آن افتتاح المدرسة، فتقدم للامتحان وجازه.

وقد كان في السنة الأولى من الطب مثال الاجتهاد مكبا على دروسه برغبة ولذة عظيمتين، ونال في الامتحان السنوي شهادات الامتياز على تلاميذ فرقته مع أنه كان يتعاطى أشغالا خاصة تساعده على النفقات، ومع ما حازه من الفوز على أقرانه لم ير منهم ما يشاهد عادة بين الأقران من الغيرة والحسد، بل كانوا يسرون لنجاحه ويتخذونه مثالا للذكاء والاجتهاد لما يأنسون فيه من دماثة الأخلاق ولين المعاشرة والإخلاص في صداقتهم.

ولما كانت السنة الثانية عاد إلى المدرسة ولم يمض شهران حتى كان الاختلال المشهور في داخلية المدرسة الكلية الذي انجلى عن خروج معظم تلاميذها وكان صاحب الترجمة من جملتهم، وقدم بعد خروجه امتحانا في العلوم الصيدلية مع بعض رفاقه أمام لجنة من أشهر أطباء سوريا في جملتهم الكولونيل مراد بك حكيمباشي الجيش، والمرحوم الدكتور فانديك وغيرهما، فنال الشهادة في العلوم الآتية وهي: اللغة اللاتينية والطبيعيات والحيوان والنبات والجيولوجيا والكيمياء العضوية والمعدنية والتحليل الكيمي والمواد الطبية، والأقرباذين العلمي والعملي.

سفره إلى مصر والسودان وإنكلترا

وشخص على أثر ذلك إلى الديار المصرية عقب الحوادث العرابية لتكملة الطب في مدرسة القصر العيني ، غير أن طول المدة لنيل الشهادة الطبية حول عزمه عن صناعة الطب فاشتغل بالعلم وتولى تحرير جريدة الزمان، وهي حينئذ الجريدة اليومية الوحيدة في القاهرة مدة سنة أو تزيد حتى كانت الحملة النيلية إلى السودان سنة 1881م؛ لإنقاذ غردون باشا فسار برفقتها مترجما بقلم المخابرات، وترك صناعة القلم مؤقتا رغبة في استطلاع أحوال تلك البلاد، فقضى فيها نحو عشرة أشهر شهد في أثنائها أعظم الوقائع الحربية، مثل واقعة أبي طليح والمتمة وغيرهما.

ولا تسل عما قاساه من الأهوال في تلك السفرة، فقد رأى مواقع الحرب مرأى العين تحت إطلاق المدافع وصفير القنابل، وشاهد القتلى مئات وألوفا إلى أن عاد بعود الحملة بعد مضي عشرة أشهر، فنال ثلاثة أوسمة مكافأة له على خدمته وشجاعته.

لكن ميله إلى العلم كان يزداد مع الأيام فلم يستقر في الديار المصرية بعد عودته من الحملة، بل سافر توا إلى بيروت سنة 1885 وبعد وصوله إليها بقليل، انتدبه المجمع العلمي الشرقي ليكون عضوا عاملا فيه، فمكث في بيروت حوالي عشرة أشهر يطالع اللغات الشرقية، فدرس العبرانية والسريانية وأخواتهما، ووضع على أثر ذلك كتابه في الألفاظ العربية والفلسفة اللغوية.

وفي أثناء ذلك ألف أحد معارفه رواية دعاها رواية «البطلين»، جعل صاحب الترجمة أحد بطليها والجنرال غردون باشا البطل الثاني، وقد بين المؤلف في سرد حوادث الرواية نتيجة الاجتهاد والمواظبة، مع المحافظة على الآداب كما هو شأن صاحب الترجمة.

صفحة غير معروفة