عرفت فقيدنا العزيز المرحوم الأستاذ طلعت باشا في باريس في صيف عام كنت أقضيه في رحلة في فرنسا مع أنجال سمو الخديوي المغفور له توفيق باشا سنة 1891، وقد أخبرني بأنه اشتغل في معمل باستور، فسألت عنه صديقي الأستاذ الشهير الدكتور رو وكيل معمل باستور وقتئذ ومديره حالا فمدح ذكاءه وجده؛ ففرحت لأن مدرستنا الطبية كانت محتاجة إلى أستاذ يدخل فيها العلوم الميكروسكوبية، وفعلا تقدم فقيدنا لامتحان المسابقة لوظيفة أستاذ ثان وفاز بنجاح باهر، وتعين لتدريس التشريح الدقيق والعلوم الميكروسكوبية الأخرى، وأنشأنا له المعامل الخاصة بها وقد كان رحمه الله في الوقت نفسه مساعدا لي بقسم الأمراض الباطنية وبعد سنوات قليلة تعين أستاذا أول للتشريح الدقيق والبكتريولوجيا، وقد كان طول هذه المدة نشطا في أشغاله مجتهدا مجدا معطيا للطلبة أقصى عناية، وبعد تركي للمدرسة نقل الفقيد إلى وزارة المعارف العمومية بوظيفة حكيمباشي، ومنها إلى وكالة الصحة العمومية منذ سبعة عشر شهرا، وقد كان من نوابغ الأطباء الذين تفتخر بهم البلاد والعلم، وإننا لنأسف أشد الأسف إذ عاجلته المنية قبل أن يتم ما بدأه من الإصلاحات الكثيرة لتحسين الحالة الصحية بقطرنا العزيز.
وهكذا أخذ حضرات زملائه الأطباء يسردون علم الفقيد وفضله، وما امتاز به من المهارة في فنه والحذق خصوصا في الأمراض الباطنية، وفوق ذلك فقد امتاز الفقيد بالاستقلال في الرأي لدرجة التشدد فيه والاستقامة الكاملة، ولا يمكن للإنسان أن يكون مستقلا في رأيه مرفوع الرأس بين كل الناس إلا إذا كان مستقيما وشريفا مرتاح الخاطر والضمير منزها عن كل نقيصة؛ لذلك عاش محترما وكان دقيقا ولذلك نجح في عمله وفي فنه إذ جمع بين المهارة الفنية والأخلاق المنزهة عن النقايص، وهذا سبب نجاحه وسبب حب الجميع له.
وألقى حضرة الدكتور أحمد بك حلمي في مرثاة مؤثرة، نقتطف منها الأبيات الآتية:
اليوم يا عين سحي الدمع هتانا
وأمطري وأملأي ما استطعت غدرانا
وإن أبى الدمع سحا فاسمحي بدم
وابكي فقيدا سما بدر السما شانا
وأنت يا قلب فاخلع حلة جعلت
للأنس فالأنس ولى بعدما بانا
قد كنت أدعوك صبرا كلما عرضت
صفحة غير معروفة