والعاقل في هذه الدنيا من يتطلب الحياة الخالدة، أما الجاهل فما أشد شغفه بالمظاهر الدنيوية الفانية من ملاذ واستمتاع، وليس من السهل وجود الشهرة لفرد من الأفراد، وما كانت الحياة الخالدة في العالم بمقدورة لكل الجماعات والأفراد؛ لأنها لا توجد عفوا ولا تطلب من غير تعب، وإننا ما سمعنا ولا رأينا في كتب الأولين وأخبار المتأخرين أن بطلا من مشاهير الأمم نال شهرته عفوا واستحق إعجاب أمته من غير نصب وجهاد.
وها هو صاحب الدولة سعد باشا زغلول زعيم الأمة المصرية، وموضع أملها، وروح نهضتها ووثوبها ما نال شهرته التي طبقت أقطار الأرض، وسارت مسير الشمس من غير عناء، وإنما بإقدامه في ساعة الإحجام وبكفاءته وهمته، وصدق إخلاصه نال البطولة، واستحق الحياة الخالدة وتولى زعامة قومه بعزيمته الماضية، وجهاده المتواصل في سبيل استقلال بلاده وأصبح لسان أمته الناطق، وفؤادها الخافق، وترجمانها المترجم عن عواطفها وأغراضها، وما زال يجاهد في تحرير وطنه، واستقلال شعبه حتى تلاشت شخصيته بين عوامل وطنيته، وعلت روحه عن هذا العالم المتقيد بقيود العبودية إلى سماء الحرية العالية.
رسم وتاريخ حياة صاحب الدولة الجليل سعد باشا زغلول رئيس وزراء الحكومة المصرية سابقا ورئيس الوفد المصري (تصوير هنزلمان).
هذا ولا يختلف اثنان أن سعد باشا أبلغ من كتب، وأقدر من خطب، وأعلم الناس بدخائل السياسة وضروبها، وأساليبها وألاعيبها، حلوها، ومرها، خيرها وشرها، وإننا مهما دونا فلا يمكننا أن نوفيه حقه بل لاحتجنا إلى عدة مجلدات، وإننا الآن نكتفي بتاريخ حياته العظيمة، وأعماله الناصعة البيضاء، وموعدنا بذكر باقي أعماله الجليلة، ومجهوداته العظيمة، الجزء الثاني إن شاء الله.
مولده ونشأته
ولد سعد باشا في بلدة إبيانه مركز فوه غربية سنة 1860م، ولما بلغ من العمر السادسة من عمره دخل مكتب البلد، وظل فيه خمس سنوات تلقى فيها القراءة والكتابة، ثم ذهب إلى دسوق لتجويد القرآن، ثم جاء إلى القاهرة ودخل الأزهر الشريف، ومكث فيه خمس سنوات تلقى فيها جميع العلوم على أفاضل علمائه كالمرحوم الشيخ حسن الطويل، وكان السيد جمال الدين الأفغاني العالم الكبير العظيم بالقاهرة وقتها، فسرعان ما تعرف به وبتلاميذه كالمرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، الذي حضر عليه «القطب على الشمسية» في المنطق، كما حضر عليه درسا في التوحيد فلم ير في حداثة عمره كما لم ير في كبر سنه بابا للعلم إلا وقصده ولا سبيلا للمعرفة إلا وطلبه.
ولما علم لذوي الشأن سبقه كما عرف للناس من قبل علمه وفضله بما كان يكتبه باسمه يومئذ في الصحف، كجريدة مصر والمحروسة والبرهان والتجارة من المقالات البليغة عين محررا بالوقائع المصرية سنة 1881م مع المرحوم الشيخ محمد عبده، الذي كان رئيس تحريرها سنة وبضعة أشهر.
ولقد كان ينشر الرسائل الواردة بنصها، ثم ينبه على الخطأ منها، وينتقد أحكام المحاكم الملغاة، ويلخصها حيث عهد إليه ذلك كما كان يكتب بتوقيعه مقالات في الاستعباد والشورى والأخلاق؛ لأنها كانت غير قاصرة على القسم الرسمي كما هو الحال الآن، ولم تقيد حريته من الصغر وظيفته كما لم يستهوه منصب ولا مال، ثم عين بعد ذلك سنة 1883م معاونا في الداخلية فناظرا لقلم قضايا الجيزة، الذي لم يمكث فيه إلا أسابيع، وقامت الثورة العرابية فاتهم بأنه من أتباع المرحوم الشيخ محمد عبده ففصل من وظيفته، واتهم بالاشتراك في جمعية سرية باسم جمعية الانتقام، ولكن إدانته لم تثبت بعد التحقيق، وفي سنة 1884م قيد اسمه في محكمة مصر محاميا، فنهض بالمحاماة ورفع من قيمتها والناس إلى الجهل أقرب منهم إلى العلم بها، فكان فيها نصير الحق والمظلومين، ونبراس القضاء والمحامين، وحجتهم في القول ومرجعهم في المشكلات.
وهو أول محام تعين قاضيا؛ ولهذا أقيمت له حفلة تكريم كبرى حضرها رئيس محكمة الاستئناف أحمد بليغ باشا، ووكيلها إسماعيل صبري باشا والأفوكاتو العمومي أحمد حشمت باشا، وغيرهم من أفاضل الأمة وأدبائها وكبرائها، ومما يذكر عنه أنه مكث ساعات يدافع عن متهم، فقال له أحد القضاة: إن الوقت ثمين فأجابه على البداهة «ولكن حياة المتهم أثمن».
ولقد تعلم في هذه المدة الفرنسية حتى كاد يعد من أبنائها، وصار من أدبائها ونبغائها، وفي سنة 1892م اختارته محكمة الاستئناف مستشارا من أول الأمر؛ لأن أصحاب المواهب العالية تخطبهم العلياء.
صفحة غير معروفة