عند رؤية رايموند خطر ببال جورجيا أنها لا فكرة لديها على الإطلاق عن شكل بن الآن. هل غزا الشيب رأسه؟ وهل صار ممتلئا قليلا في منطقة الخصر؟ فقد أصابها كلا الأمرين؛ إذ تحولت إلى امرأة مكتنزة ذات بشرة خمرية صحية، يعلو رأسها تاج من الشعر الأبيض، وترتدي ملابس فضفاضة، ألوانها زاهية إلى حد ما. عندما تفكر في بن، لا تزال تتخيله ضابطا بحريا وسيما، له مظهر ضابط البحرية المثالي؛ متحمس وجاد ومتواضع. كانت تلوح عليه سمات شخص يتوق - في شجاعة - إلى تلقي الأوامر. لا بد أن أبناءها لا يزالون يحتفظون ببعض صوره، فكلاهما يريانه، ويقضيان العطلات على متن قاربه. ربما كانا يخفيان الصور عندما تأتي لزيارتهما. ربما خطر لهما أن يحميا صوره تلك من شخص آذاه.
في الطريق إلى منزل مايا - منزل رايموند - مرت جورجيا بمنزل آخر، كان يمكنها تفاديه بيسر. كان ذاك منزلا في أوك باي، وفي الواقع كان عليها أن تخرج عن مسارها حتى تراه.
كان ذاك هو المنزل الذي قرأت عنه هي وبن في الإعلانات العقارية في صحيفة «فيكتوريا كولونيست». كان عبارة عن كوخ فسيح يقع تحت أشجار بلوط بديعة. كان المنزل به أشجار قطلب وشجيرات قرانيا، ومقاعد بجوار النوافذ، ومدفأة، ونوافذ ذات ألواح زجاجية متقاطعة على شكل المعين، وله شخصية. وقفت جورجيا خارج البوابة وشعرت بألم متوقع تماما. فهنا، كان بن يجز الحشائش، وهنا كان الولدان يصنعان الممرات والمخابئ في الشجيرات، ويشيدان المقابر للطيور والثعابين التي قتلتها القطة السوداء، دومينو. كان بإمكانها أن تتذكر المنزل من الداخل جيدا جدا: الأرضيات المصنوعة من البلوط التي بذلت هي وبن مجهودا كبيرا في صقلها، والجدران التي طلياها، والغرفة التي استلقت فيها في بؤس تحت تأثير المخدر بعد اقتلاع ضرس العقل. هنا كان بن يقرأ لها بصوت عال، من المجموعة القصصية «ناس من دبلن». لم تستطع تذكر عنوان القصة. كانت تدور حول شاب خجول ذي موهبة شعرية، له زوجة جميلة لئيمة. وعندما فرغ بن من قراءة القصة، قال: ياللفتى المسكين!
كان بن يحب الأدب القصصي، وهو ما كان أمرا يثير الدهشة بالنسبة إلى رجل يحب الرياضة أيضا، ورجل كان محبوبا في المدرسة.
كان ينبغي عليها البقاء بعيدا عن هذا الحي. فكل مكان تسير فيه هنا - تحت أشجار البندق بأوراقها الذهبية المنبسطة، وأشجار القطلب ذات الفروع الحمراء، وأشجار السنديان الغرياني العالية، التي تبث في الذهن قصصا خيالية وغابات أوروبية وحطابين وساحرات - في كل مكان كانت خطواتها تؤنبها، سائلة إياها: «لم؟» «لم؟» «لم؟» كان هذا التأنيب هو ما توقعته بالضبط - وما خاطرت بتعريض نفسها له - وكان ثمة شيء مبتذل في ذلك، شي مبتذل وغير مجد. كانت تعلم ذلك. إلا أن قدميها السخيفتين راحتا تنتقدانها بقسوة قائلتين: «لم؟» «لم؟» «لم؟» «خطأ وهدر.» «خطأ وهدر.» «خطأ وهدر.»
أراد رايموند أن تتطلع جورجيا إلى الحديقة، التي قال إنها زرعت خصيصى من أجل مايا في الشهور الأخيرة من حياتها. وضعت مايا تصميمها، ثم كانت تستلقي على الأريكة المكسوة بالقماش المزخرف (مضرمة النيران فيها مرتين - حسب قول رايموند - عند إغفائها والسيجارة مشتعلة في يدها)، ومن عليها أمكنها مشاهدة الحديقة تتشكل شيئا فشيئا.
رأت جورجيا بركة ماء، بركة تحفها الأحجار ذات جزيرة في المنتصف. وكان ثمة رأس وحش حجري شرير المظهر - عنزة جبلية ربما؟ - منتصبا على تلك الجزيرة والماء يتدفق منه. وكان يحيط بالبركة دغل من أقحوان شاستا، وأعشاب القسموس الوردية والأرجوانية، وأشجار صنوبر وسرو قزمة، وشجرة أخرى صغيرة ذات أوراق حمراء لامعة. وعندما دققت النظر أكثر، وجدت على الجزيرة جدرانا صخرية تكسوها الطحالب: أطلال برج صغير.
قال رايموند: «لقد استعانت بشاب للقيام بهذا العمل ... كانت تستلقي هناك وتراقبه. استغرق الأمر الصيف كله. فما كانت تفعل شيئا طيلة اليوم سوى الاستلقاء ومراقبته وهو يصنع حديقتها. ثم كان يدخل المنزل ويتناولان الشاي بينما يتحدثان عن الحديقة. ولعلمك لم تكتف مايا بتصميم تلك الحديقة وإنما تخيلتها. كانت تخبره بتصوراتها حيالها، ويتولى هو التنفيذ. أعني أنها لم تكن مجرد حديقة بالنسبة إليهما. كان يفترض أن تلك البركة هي بحيرة في بلد أطلقوا عليه اسما ما، وأحاطت بالبحيرة غابات وأراض سكنتها قبائل وفصائل مختلفة. هل تستطيعين تصور الأمر؟»
فردت جورجيا قائلة: «نعم.» «كانت مايا تمتلك خيالا خصبا. كان من الممكن أن تؤلف قصصا خيالية أو خيالا علميا. على أي حال، لقد كانت إنسانة مبدعة بلا مراء. ولكن لم يكن من الممكن إقناعها بتوظيف إبداعها جديا. كان يفترض أن تمثل تلك العنزة إحدى آلهة ذاك البلد، وكانت الجزيرة مثل مكان مقدس كان يضم معبدا من قبل. تستطيعين أن تري الأطلال. فقد ابتكرا ديانة لذاك البلد. آه، وكذلك أدبا وأشعارا وأساطير وتاريخ؛ كل شيء. وألفا أغنية كانت الملكة تغنيها. طبعا كان من المفترض أن تكون الأغنية مترجمة، عن تلك اللغة. وقد نسجوا قصة لذلك أيضا. كان ثمة ملكة محبوسة في تلك الأطلال، ذلك المعبد. لا أتذكر السبب. كانت سيضحى بها على الأرجح، باقتلاع قلبها من صدرها أو شيء مريع من هذا القبيل . كان الأمر برمته معقدا وميلودراميا. ولكن تخيلي مبلغ الجهد الذي بذل فيه، والإبداع. كان ذاك الشاب يمتهن الفن. أعتقد أنه كان يظن نفسه فنانا. لا أعلم كيف توصلت إليه، في حقيقة الأمر. كان لديها معارف. إخاله كان يتعيش من عمل الأشياء من ذلك القبيل. وقد أبلى بلاء حسنا. مد الأنابيب وكل شيء. كان يحضر كل يوم، وكل يوم كان يدخل المنزل عندما ينتهي من عمله ليتناول الشاي ويتحدث معها. حسنا، في رأيي، لم يتناولا الشاي فقط. حسب معلوماتي، لم يكونا يتناولان الشاي فحسب. كان يجلب مادة صغيرة، ثم يدخنان معا قليلا. قلت لمايا إنه حري بها أن تكتب عن ذلك كله.
ولكن أتعلمين، بمجرد ما فرغ من عمله، مضى في سبيله. مضى. لا أعلم، ربما حصل على وظيفة أخرى. لم يبد لي أنه يحق لي أن أسأل. إلا أنني كنت أظن أنه حتى إن كان قد حصل على وظيفة فكان بإمكانه أن يعودها من حين لآخر. أو إن كان قد ذهب في رحلة إلى مكان ما، كان يستطيع أن يراسلها. ظننت أنه كان بإمكانه ذلك. كنت أتوقع منه ذلك على الأقل. لم يكن الأمر ليضيره شيئا، من وجهة نظري. لكان لطفا منه أن يجعلها تظن أن الأمر لم يكن مجرد ... مجرد صداقة مستأجرة طوال ذلك الوقت.»
صفحة غير معروفة