وأما حسين باشا عدلي فشكر الله على انفضاح تلك الجرائم، وأثنى الثناء العظيم على شاكر بك نظمي مندهشا من تنكره الطويل ومستغربا من مساعيه السرية، وحامدا الله على سلامة فتاته من شر ذلك البيت الجهنمي.
ورأى حسين باشا عدلي أنه لم يعد فائدة من إشهار هذا الحادث الفاجع في قاعات القضاء وعلى صفحات الصحف، فاهتم بكتم الأمر، وسعى لدى أرباب الحل والعقد بحفظ هذا السر، وأشيع أن عزيز باشا مات موتا طبيعيا.
بعد هذه الحوادث بأشهر قليلة زفت نعيمة بنت حسين باشا إلى حبيبها حسن بك بهجت. وأما زينب فلما نقهت من المرض الذي اعتراها على إثر تلك المشاهد الهائلة ذهبت إلى شاكر بك نظمي؛ أي طاهر أفندي، وارتمت على قدميه تبلهما بدموعها وتقول له: هل أنت ناقم علي يا مخلصي؟ - لو كنت ناقما عليك يا زينب لما سعيت إلى خلاصك. - نعم إنك تنتقم مني الآن؛ لأن عذابي في جفائك أشد جدا من عذابي الماضي، فارحمني يا شاكر؛ إني امرأة ضعيفة. - لم يكن في ودي أن أعاتبك يا زينب ولكنك تحوجيني إلى العتاب. حافظت على عهدي لك إلى الآن، وسأبقى إلى الأبد، وأما أنت فلما يئست من عودتي نزعت حبي من قلبك وتزوجت ذلك الخائن، وبعد ذلك أشعت عن نفسي أني مت؛ لكي أسكن ضميرك إذا كان يحاربك لأجلي، ولكني علمت أنك معذبة فأتيت لكي أخلصك، وها أنا لديك أحرص على كل ذرة منك. - لم تأت إلي، ولا سألت عني منذ ذلك اليوم الرهيب، يوم عاقب زوجي نفسه. - لم تكوني في حاجة إلي. - إني في حاجة عظيمة إلى تعزيتك، فلماذا تهملني؟ - لا أهملك؛ فإنك إذا انتابتك نائبة كنت في أقل من لمحة برق بين يديك. - ما معنى هذا القول يا شاكر؟ - معناه بسيط: إذا شعرت أنك في ضيق هرعت إليك؛ أدفع الضيق عنك. - وإذا لم يكن شيء من ذلك أفلا تسأل عني، ألا تدعني أن أراك؟ - وما الغاية من ذلك يا زينب؟ - يظهر لي أنك لم تسامحني، ولم تزل ناقما علي. - كلا، بل نحن صديقان يا زينب، فأنا لك كل حين تحتاجين إلى معونتي. - إني أحتاجك الآن؛ لأني في كرب عظيم من جفائك، لقد أثمت إليك إثما عظيما يا شاكر، فماذا تريد كفارة عنه؟ - هل تردك الكفارة إلى عذريتك السابقة يا زينب؟ - بالطبع لا. - فما الفائدة إذن من هذا التقرب؟ لما تعاشقنا تعاهدنا على أن يصون كل منا نفسه للآخر، فقضت الظروف أن تقعي أنت في يد نذل ابتذلك وأنا بقيت كما وعدت، وهكذا لم يبق العهد الذي بيننا سليما، بل نكثت به، لا فرق عندي إن كان ذلك برضاك أو بالرغم منك؛ فإنك لم تبقي زينب التي عاهدتها منذ بضع عشرة سنة، بل صرت أرملة عزيز باشا نصري وأم ثلاثة أولاد.
فاسترسلت زينب بالبكاء وهي تقول: صدقت، إني سيئة الحظ، هل كنت تنتظر يا شاكر أن أقدر على المحافظة على العهد مثلك؛ وأنت لا تجهل أن الفتاة في الشرق مسيرة غير مخيرة؟ أي فتاة تستطيع أن تحافظ على العهد الذي نقضته أنا مرغمة ؟!
فرق شاكر بك لدموعها، وجعل يكفكفها ويقول لها: لا ألومك يا زينب، وإنما ألوم التقادير. - أتعاقبني بجريرة التقادير؟ - لا أعاقبك، ولكني لا أقدر أن أحقق أمنيتنا، فدعينا صديقين؛ لأنه يعز علي جدا أن تكون أرملة عزيز نصري زوجتي، وأنا شريكك في هذا المصاب يا زينب فاقنعي بصداقتي، كما أني قانع في صداقتك، كما قنعت فيما مضى بحبك.
وخرجت زينب بعد هذا الجدال الرقيق حزينة باكية.
الخاتمة
ثم زفت عائدة إلى يوسف بك رأفت، فبقي طاهر أفندي وحيدا.
وبعد ذلك بأشهر قليلة توفي حسين باشا عدلي، فقصد طاهر أفندي إلى زينب ليعزيها فقيل له؛ إنها في فراشها مريضة، وإنها تنتظر مقابلته، فصعد إلى غرفتها وكان لم يرها منذ تلك المقابلة الأخيرة التي خرجت من عنده في ختامها حزينة يئسة، فوجدها في فراشها أنحلها السقام وأضنت قواها الآلام فبادرته قائلة: الحمد لله الذي أراني إياك قبل موتي، ومكنني من أن أوصيك بأن تكون من بعدي أبا حنونا لأولادي الصغار.
فوجف فؤاد طاهر أفندي وترقرق الدمع في عينيه، وقال: كلا يا زينب إنك لا تموتين بل ستعيشين، فنظرت إليه والدموع ملء عينيها وقالت: آه يا طاهر لقد خلصتني من الذل والعار والموت في الأول، ولكنك لم تتم جميلك في الآخر. يكفيني أن تكون أبا لأولادي.
صفحة غير معروفة