فضحك طاهر أفندي وقال: لم تزل حديثا يا حسن، فاسمع مشورتي، أنذرهما إنذارا لطيفا فقط؛ فإنهما لا يجسران على التماس العقد من حسين باشا ما لم يأمنا غدرك، وهما لا يأمنانه ما لم يوفين المال أو يتلفا الصكين، أما إتلاف الصكين فيعز عليهما إذا كنت حريصا، وأما إيفاء المال فلا يتسنى لهما ما لم يلعبا دورا جنائيا على زينب لكي يغتصبا منها المبلغ، وهذا الدور أتوقعه بفروغ صبر، وبه أرغب فضيحتهما. - ولكني أخاف أن تلين زينب، فتدفع المبلغ لزوجها عن طيب خاطر؛ تفاديا لإفلاسه.
فضحك طاهر أفندي، وقال: لا، لا تخف؛ إن قلب زينب كل يوم أقسى وأقوى من يوم. - أخاف جدا أن تفوت الفرصة بهذا الإبطاء؛ بغية اغتنام فرصة أفضل لفضيحتهما. - لا لا، أنا أعرف منك بهذا، ومع ذلك إذا صمموا على كتابة العقد أخبرك قبل بيوم لكي ترفع القضية وتعلن الدين. - إذن نكتفي بالإنذار أولا. - نعم. - اتكلنا على الله، إلى الملتقى. - إلى الملتقى.
ذهب حسن توا إلى مكتبه، وأرسل إنذارين في البريد إلى كل من عزيز باشا وأخيه خليل بك، وأمن عليهما، وبالطبع انتهيا إلى صاحبيهما في ذلك المساء، إذ كان حسن في مكتبه بين كتبته فطن جرس التلفون فوق رأسه فقام يتكلم. - من؟ - أنت من؟ - مكتب حسن بهجت. - حسن أفندي؟ - نعم أنا هو، وأنت من؟ - أنا عزيز باشا، أخذت كتابك. - بماذا تأمر؟ - هل عندك كمبيالتان بالمبلغين؟ - نعم. - عجيب! - لماذا؟ - هل أنت باق في المكتب؟ - نعم. - ها أنا ماض إليك. - أهلا وسهلا.
وبعد بضع دقائق كان عزيز باشا في مكتب حسن أفندي، فطلب إليه أن يختلي به، فقال له حسن: أتريد أن ترى الكمبيالتين فها هما.
فامتعض عزيز باشا جدا؛ لأنه لم يشأ أن يعرف بهما الكتبة، ولكنه كظم غيظه وتناولهما وتأملهما جيدا، فتعجب إذ رآهما وهو يعلم أنهما سرقا ومزقا وحرقا، فمن أين نبتا ثانية؟ خطر له أن يمزقهما، ولكن هاله الموقف؛ والكتبة والحضور شهود على هذه الجناية، فتكون الضلالة الأخيرة شرا من الأولى، فردهما إلى حسن وقال: سأرى. - ماذا ترى؟ أود أن أعرف هل تشاء أن تدفع المبلغين؟ - سأرى. - أأنتظر جوابا منك؟ - انتظر. - حتى متى؟ - بضعة أيام.
ثم انصرف إلى منزله، واستدعى أخاه، فاجتمع به في القاعة وبادره بهذا السؤال: أما أتلفنا الكمبيالتين اللتين اختلسناهما من ذلك الخبيث طاهر؟ - لا أظنك نسيت أنك أحرقت كمبيالتك ومزقت كمبيالتي نتفا. - رأيتهما عند حسن بهجت الآن. - يستحيل. - رأيتهما بعيني. - عجيب! - إن هذا الرجل لإبليس رجيم. - كيف ذلك؟ - الله أعلم.
ثم تأملا هنيهة وبعد قليل قال خليل: يا لله ما أقدر هذا الإنسان، فهمت. - ماذا فهمت؟ - فهمت حيلته الشيطانية. - ما هي؟ - ألا تعرف الزنكوغراف. - يالله ، عرفت عرفت، أتظن أنه أخذ صورة الكمبيالتين بالزنكوغراف، وطبع منهما نسختين، وأن ما أتلفناه ليس إلا نسخة زينكوغرافية. - هل يمكن تعليل هذه المسألة إلا بواسطة الزنكوغراف. - ليس ظنك بعيدا، ولا بد أن اللص الذي خدعني وأخذني إلى المنزل المنفرد في باريس واغتصب مني النقود كان متواطئا معه، وإلا كيف تسنى له أن يخاطبني عنه كواحد يعرفه؟ وأن يسرق الصك ويرسله إلي في البريد في اليوم التالي، والذي يؤكد لي ذلك أنه كان يشبه الرجل الذي كان عنده ساعة قابلته ودفع لي الأوراق المالية في مكتبه إذ لا بد أن يكون هذا التشابه متعمدا، فإما أن يكون هذا الشيطان طاهر قد توفق إلى اثنين متشابهين فاستخدمهما لحيلته الإبليسية، أو أنه كيف أحدهما تكييفا صناعيا بحيث يشبه الآخر. - ولكن كيف عرف أنك مزمع أن تسرق كمبيالتك منه؟ - لم يعرف أن في نيتي أن أسرق كمبيالتي، ولكنه عرض نسختها لي لكي أسرقها، وأذكر أنه في ذلك اليوم شرب كثيرا حتى سكر، وكان يفتح حقيبته؛ لكي أرى نسخة الكمبيالة فيها، وهو الذي حملني على أن أرافقه إلى غرفته في الفندق، وأخلى لي المكان لكي تكون لي فرصة لسرقتها، وهو توقع أني أسرقها؛ لأنه عرف أني ألعب وأني خاسر والخاسر لا يعف عن السرقة. - وما بغيته من ذلك؟ - لعل بغيته أن يجرئنا على الاستدانة منه حتى نقع في فخه الذي وقعنا فيه الآن، وهو أن نكون مدينين له بخمسين ألف جنيه بعد ما يستردها منا بحيلة. - قاتل الله هذا الشرير! لقد ظهر أنه أشر منا، والآن ماذا نفعل يا خليل؟ الكمبيالتان ناطقتان، ولا مناص من دفعهما. - ليس لنا إلا الحيلة التي قلت لك عنها لأخذ المبلغ من زينب. - إذن يجب أن نرى ديمتري؛ لنعلم ماذا عمل من أعمال هذه المكيدة؟ - ديمتري اهتدى إلى امرأة داهية تدعى دليلة، وقد دربها التدريب اللازم، وقد أتت إلى زينب كدلالة، وزينب أوصتها على قماش، وستأتي يوما بعد يوم. - يجب أن تعجل بالمهمة؛ لأني سأعد هذا الغلام الثقيل حسن بدفع المبلغ قريبا، بحيث لا يدري أحد بالكمبيالة، وإذا أحوجناه إلى رفع قضية فلا بد أن يربحها، ونقع في هوان لا قيام منه، ولا سيما لدى حسين باشا عدلي، وجل بغيتي أن نتجاوز هذه المعاكسات إلى أن تضع يدك بيد نعيمة، وحينئذ فليكن ما يكون، فأنت تتمتع بمال نعيمة ومتى مات حسين باشا أبوها فلا بد أن تذكرني بشيء من ثروته، أليس كذلك؟ - بالطبع، إلا إذا فعلت نعيمة كما تفعل زينب الآن. - لا أظن؛ لأن نعيمة أضعف قلبا من زينب، ومع ذلك يجب عليك أن تحسن معها الحيلة، وأن تتخذ معها سياسة تخالف السياسة التي اتخذتها أنا مع زينب، يجب - قبل كل شيء - أن تجتهد بكسب قلبها. - متى تعيد الكرة على حسين باشا وتهتم بكتابة العقد؟ - لا نقدر الآن أن نحرك ساكنا إلا متى أوفينا الكمبيالتين، وإلا فضحنا حسن الثقيل بمطالبته لنا بالمال وبرفع قضية علينا، ومع ذلك سأجس نبض حسين باشا في أول فرصة.
الفصل الثاني والثلاثون
اهتدى ديمتري إلى امرأة أجنبية تدعى دليلة، وهي أشد المحتالات احتيالا كسميتها القديمة دليلة شمشون، فاتفق معها على نصب المكيدة لزينب، ودربها تدريب إبليس، ونقدها أجرة القيادة، ولسان حالها يقول: إني غنية عن هذا التدريب؛ لأني أعلم الناس بالمكر والدهاء.
ذهبت أول مرة إلى منزل عزيز باشا، فأدخلها عزيز إلى دار الحريم، وقال لزينب: «اتفقي مع الست دليلة على استجلاب ما يلزم لك وللأولاد من الأقمشة، فذلك أفضل من أن تذهبي إلى الموسكي وتبتاعي ما تحتاجين إليه، والست دليلة امرأة فاضلة طيبة القلب طاهرة الذمة لا تغشك.»
صفحة غير معروفة