ولكن من هو ذلك الطارق؟ وما بغيته، وكيف يعرف بدسائس زوجها؟ أسئلة حيرتها ولم تهتد إلى حلول لها، وأنى لها أن تهتدي.
لم يذق جفنها الكرى إلا في وجه الصباح نحو ساعة.
لا يستبعد أن يدرك القارئ - من نفسه - أن أحد أولئك الثلاثة هو طاهر أفندي ومن يكون رفيقاه الآخران غير الدكتور يوسف بك رأفت وحسن أفندي بهجت؟ ولا يغرب عن فطنة القارئ أن يوسف مرقس أحد خدم عزيز باشا الذي أقامه طاهر أفندي جاسوسا له في منزل خصمه هو الذي عرف بالدسيسة قبل وقوعها؛ إذ كان المؤتمرون مجتمعين في غرفة عزيز باشا وحدهم عند المساء يكتبون الحجة، وقد فهم أن موعد التنفيذ في نصف الليل في المكتب من بعض كلمات تبادلها عزيز باشا ووكيله ديمتري ألكسيوس بالإفرنسية.
وكان يوسف هذا قد توقع هذه الدسيسة منذ سمع حديث ديمتري وعزيز باشا إذ دس السم في الدواء الذي أخذ لعائدة - كما يذكر القارئ في الفصل الأسبق - إذ قال عزيز لديمتري بالإفرنسية: «برافو، إذن نجحنا في المهمة الأولى.» فأجابه ديمتري: «وسننجح في الثانية - إن شاء الله.» فمن ذلك فهم يوسف أن هناك دسيسة قريبة فتوقعها وبحث عنها، فعرف بها وأبلغها إلى سالم أفندي رحيم الصديق الأمين لطاهر أفندي، وسالم نفحه عنها خير الجزاء وأبلغها لطاهر أفندي، فتزيا هذا في الحال مع الدكتور يوسف بك رأفت وحسن أفندي بهجت بزي الأعراب، وتدججوا بالسلاح ومضوا قبل منتصف الليل إلى ما وراء الحديقة.
وحسب الاتفاق السابق؛ أدلى يوسف مرقس مفتاح باب الحديقة الخلفي لهم من شباك في رواق الطبقة العليا من المنزل، ففتحوا الباب، وكمنوا في الحديقة حتى لاحظوا أن إمضاء الحجة قد انتهى فانقضوا على المكتب - كما علم القراء - ولما خرجوا أقفلوا الباب كما كان، وفي الحال علقوا المفتاح في الخيط المدلى فانتشله يوسف مرقس ورده إلى مكانه، وعاد إلى مرقده.
الفصل التاسع والعشرون
في صباح اليوم التالي اجتمع عزيز باشا وأخوه خليل بك والخواجه ديمتري ألكسيوس في غرفة خليل بك، وجعلوا يتحادثون بما داهمهم في الليل السابق، فقال عزيز باشا: سؤالان حيراني كل الحيرة؛ الأول من هم هؤلاء الذين باغتونا ومن أخبرهم بمكيدتنا؟
فقال ديمتري: لم أزل إلى الآن متحيرا، أما فهمت شيئا من الهانم؟ - سألتها واحتلت أن أستخرج كلمة منها فلم أجد أن لها علما بشيء، ولا ريب عندي أنها تجهل كل شيء ولا صلة لها بأحد. - أنت لا تعلم مكر النساء يا عزيز باشا! - أعلمه جيدا، ولكني أعرف هذه المخلوقة بسيطة القلب جدا، ولا جسارة لها على إتيان أبسط الدسائس.
فقال خليل: ألا يمكن أن يكون طاهر أفندي وبعض أصحابه تنكروا وباغتوكم أمس، فقال عزيز: خطر لي أن يكونوا هم، ولكن الفكر الأرجح أنهم لا يفعلون شيئا، وإن كانوا يفعلونه، فما غرضهم؟ - من قبيل المعاكسة والمكايدة؛ لأن العداوة بيننا وبين طاهر أفندي أصبحت علنية. - ربما يكونون هم الذين فعلوا، ولكن من أخبرهم حتى إنهم أتوا في الميعاد المعين وكيف دخلوا؟
فقال ديمتري: لا بد أن يكون بعض الخدم مواليا لهم. - ليس ذلك ببعيد، إذا لم يكن أحد منا خائنا! - كيف يجسر أحدنا أن يخون ونحن تجمعنا جامعة واحدة مهمة، يستحيل علينا حل عراها؟ وهي جامعة الاشتراك ببعض الجرائم الرهيبة. - في نيتي أن أتحرى المسألة من بعض الخدم. - إياك أن تفتح حديثا مع أحد الخدم أو تسأله شيئا؛ لأنك تنبه ظنونهم وتنشئ بينهم لغطا في مسائلنا. - أرى أن نخرجهم من الخدمة ونأتي بخدم أجداء. - كلا كلا؛ لأنهم متى خرجوا من هنا فإذا كانوا يعرفون شيئا أذاعوه وفضحونا، فالأفضل أن يبقى كل في خدمته، وألا نبحث معهم بأمر من الأمور حتى إذا كان أحدهم يعرف شيئا من أعمالنا الماضية يبقى ما يعرفه محصورا فيه، وعلينا أن نتحذر كل الحذر في جميع مؤامراتنا المستقبلة، ويجب أن نقتصر فيها على التكلم بالإفرنسية. - يظهر لي أن جميع مساعينا مخفقة يا خواجه ديمتري؛ لم نسمع شيئا من نعي عائدة. - لا أدري، لقد حيرني هذا الأمر، لم يكن في العلبة سوى 8 برشامات، فأبدلت نصفها، فإن كانت قد تناولت شيئا منها أمس واليوم فلا بد أن تكون قد تناولت برشامة سامة، والبرشامة الواحدة كافية لأن تقضي عليها في الحال؛ لأن فيها مقدارا كبيرا من الزرنيخ. - ألا يمكن أن يكونوا قد لاحظوا أن في العلبة برشامات غريبة؟ - هيهات أن يلاحظوا ذلك؛ لأن الفرق بين الصنفين غير جلي. - ألا يمكن أن يكونوا قد أوجسوا شرا وسألوا الخادم فأخبرهم أنك أحرزت العلبة هنيهة. - لا داعي لإيجاسهم حتى يسألوا الخادم إذا لم يكن الخادم نفسه قد أوجس مني، والخادم لا يوجس مني؛ إذ لا علم له بما بيننا من التناظر، ولا أظنه يعرفني. - إذن هل يمكن أن الفتاة لم تتناول برشامة سامة حتى الآن؟ - إذا لم نسمع خبرها اليوم فيكون السبب أن الطبيب عدل لسبب طبي عن تجريعها البرشامة، ويكون القدر قد حفظها. - أخاف أن تنفضح هذه الدسيسة يا ديمتري. - لا تخف؛ لأني لا أظن أن الخادم يعرفني، وقد ظهر لي أنه يحسبني رجلا غريبا، وأما أنا فقد عرفته خادما عند طاهر أفندي؛ لأني رأيته خارجا من منزله. - مهما يكن من أمر هذه الدسيسة فلا نعتمد على نجاحها وحده؛ لأنها قد لا تغير خاطر حمد بك، بل ربما زادته انعطافا لطاهر أفندي.
صفحة غير معروفة