ثم أخذ منه الزجاجة وعلبة الأدوية وربته على ظهره قائلا: اذهب يا أخي اذهب.
فلما رأى الخادم في كفه ربع ريال قال في نفسه: «من الحماقة ألا أقوم بهذه المهمة الصغيرة في مقابل هذا الأبيض الناصع» وفي الحال ترك الزجاجة والعلبة مع ديمتري ومضى، وما توارى حتى كان ديمتري قد انزوى في القهوة حيث لا يراه أحد وفك العلبة؛ إذ كانت ملفوفة بورقة مخططة ومربوطة بخيط، وأخذ منها أربع برشامات، ووضع بدلها أربعا من البرشامات التي أعدها تساويها حجما وتشابهها شكلا، وعاد فلف العلبة، وربطها كما كانت.
بعد قليل عاد الخادم يقول: لم يقبل موظف التلغراف الرسالة؛ لأنك لم تذكر فيها اسم البلد الذي تريد أن ترسلها إليه، ففتحها ديمتري ونظر فيها، وقال: صدقت، نسيت أن أكتب اسم البلد، لا بأس، ربما تكون مستعجلا فخذ أدويتك وامض فسأرسلها مع آخر أو أمضي بنفسي فأرسلها.
فلم يتردد الخادم في تناول العلبة والزجاجة ومضى.
أما ديمتري فذهب إلى بيت عزيز باشا فصادفه في رحبة الدار.
فقال له عزيز بالإفرنسية: ماذا عملت من الصالحات؟ - نجحت. - هل تم ما دبرت وتوفقت؟ - على غاية ما نروم. - هل أبدلت الدواء؟ - أبدلت السم بالدسم. - ما هو نوع الدواء؟ - برشام، فأخذت أربعا شافية، ووضعت بدلها أربعا قاتلة. - برافو، إذن نجحنا في المهمة الأولى. - وسننجح في الثانية - إن شاء الله.
جرى هذا الحديث بينهما بالإفرنسية، وهما لا يدريان أن يوسف مرقس السفرجي في غرفة قريبة، يسمعه ويفهمه كما تفاهماه.
وصل الخادم إلى بيت طاهر أفندي، فتناول الدكتور يوسف بك رأفت الزجاجة والعلبة منه، وفضهما ثم دنا إلى غرفة عائدة، فقيل له: إنها نائمة، فقعد ينتظر في القاعة وهو يقرأ بعض الجرائد، وبعد قليل قيل له: إنها صحت، فدخل عليها باسما، وجلس إلى جانبها باشا، وقال: أتريدين الآن يا حبيبتي أن تتناولي برشامة؟
فأجابت عائدة بصوت خافت: لا طاقة لي الآن على تناول شيء، فأمهلني حتى المساء. - لقد دنا المساء يا عزيزتي، وما هي إلا برشامة صغيرة، ولا بد لك من تناولها؛ فإن فيها شفاء لك - إن شاء الله. - أف! لا أقدر. - يجب أن تكرهي نفسك على أخذها يا حياتي، وليس في البرشام ما يشمأز منه، ضعيها في فمك الحلو واشربي جرعة ماء، فتبتلعيها مع الماء من غير أقل عناء.
ثم ناولها برشامة، وطلب إلى الممرضة أن تقدم لها كأس ماء، فأمسكت عائدة البرشامة بإصبعيها والكأس باليد الأخرى وهي جالسة في سريرها، وجعل يوسف بك يحرضها على تناولها وهي تقول: «أشعر أن نفسي تجيش في صدري وأكاد أتقيأ، دعني منها الآن.» وهو يقول لها: «بل خذيها الآن يا حبيبتي؛ إذ لا مناص من أخذها لشفاك.» وبينما كان الدكتور يوسف بك يحاور عائدة ليحملها على تناول البرشامة وكان طاهر أفندي في مكتبه يكتب؛ قرع جرس التلفون عند أذنه، فتناول السماعة ووضعها على أذنه. - من؟ - أنت من؟ - طاهر. - أنا سالم رحيم. - ماذا؟ - الدواء الذي وصل إليكم الآن مسموم، فعجل امنعه.
صفحة غير معروفة