فابتسم طاهر أفندي لهذا البرهان وقال: كل هذا الذي تستحبه أنت في زوج ابنتك لا يضمن السعادة لها بل لا يلافي شيئا من نغصتها إذا لم تكن تحبه، وليس ما يضمن سعادة الزوجين إلا حبهما المتبادل. - ولكن لا يخفى عليك أن بنات المسلمين لا يتزوجن بناء على حب، بل بناء على استحسان أهلهن، وأي فتاة مرباة تربية حسنة تعرف فتى فتحبه فتؤثره على سواه؟ - نعم إن تحجب النساء عندنا لا يؤذن بذلك، ولكن إذا كانت الفتاة لا تحب طالب يدها بل تكرهه فلا يجوز بأي شرع كان أن تكره إكراها على الزواج منه؛ ولذلك يجب أن تعلم أن إرغامك ابنتك على التزوج من خليل بك وهي تنفر منه؛ جرم عظيم لا يغتفر، فضلا عن أنه مخالف للشريعة. - إذن ترى أن أعدل عن هذا الزواج؟ - بالطبع. - وأدعها بتولا؟ - بل تزوجها بمن تهوى. - بالله، لماذا تحملني على التلبس بهذا العار؟ - أي عار؟ - تزويجها بمن تهوى، هل جرت العادة أن بنات المسلمين تحب؟ - جرت أو لم تجر، هذا هو الواقع في أمر ابنتك ولا أرى قط عارا في تزويج الفتاة بمن تحب؛ لأن قاعدة الزواج الحب الطاهر، بل العار وكل العار في أن تكره الفتاة على الزواج بمن لا تحب؛ لما في هذا العمل من اختلاس حرية نفس بشرية خلقها الله حرة القلب والضمير كما خلق نفس الرجل. - أود أن أعرف من هذا الذي تحبه ويحبها؟ وكيف عرفته وعرفها وأحبته وأحبها، في حين أنها محصنة مخدرة؟ - لا تخف، لا تزال بنتك كما ربيتها محصنة وليس في حبها هذا عار وشين، ولكن قبل أن أجيبك على ما سألت أود أن أعرف هل عدلت عن تزويجها بمن تكرهه سواء كان الذي تحبه موافقا وكفئا لها أو لم يكن؟ - لقد حصرتني في دائرة ضيقة يا طاهر أفندي، ولا أظن أن غيرك يجسر أن يتمادى معي بهذا الموضوع الذي هو من شئوني الشخصية. - لا بأس يا حسين باشا؛ فإني أنوي لك كل خير، والأمر الجوهري الذي يجب أن نقرره أولا هو أن لا يعقد العقد لعدم رضا أحد الزوجين؛ بقطع النظر عن كون الطالب الثاني موافقا أو غير موافق.
فحك حسين باشا جبهته مفكرا، ثم قال: إن العدول أصبح صعبا جدا؛ لأني وعدت ووعد الحر دين، وقد جاء العريس وأهله والمأذون سأل الفتاة ولم يبق إلا كتابة العقد. - وهل رضيت العروس؟ - تركت المأذون يسائلها، فلا بد أن تكون قد أجابت بالإيجاب. - مهما يكن الأمر فإن إرادتها الحرة أساس العقد، ووعدك للعريس بيدها مشترط فيه ضمنا ملء رضاها، فإذا كانت ترفض فلا عيب في انتقاض عهدك؛ لأنك لا تنقضه أنت بل نقضته ابنتك ذات الحق الأول في الرضا، وإذا لم يكن رضاها أهم من كل رضا فلماذا توجب الشريعة الغراء على المأذون أن يسألها عن وكيلها الذي فوضته بالإجابة عنها؟ ولذلك لا أرى عارا قط في أن ترد العريس وأهله قائلا لهم: إن الفتاة عادت إلى ترددها الذي تعهدونه، فأرجو منكم إمهالنا إلى حين ترضى الرضا التام، وأظن أن الذين يعرفون بذلك يمتدحونك على هذا العمل الحميد. - هب أننا استطعنا تأجيل العقد، فمن هو ذلك الفتى الذي يحبها؟ - الفتى الذي يحبها وتحبه قد لا يرضيك لأول وهلة، ولكني أؤكد لك أنه بعد عام يعجبك جدا وتفخر بمصاهرته، بل أؤكد لك أنك بعد شهر ترى خليل بك دون ما تراه الآن وتعدل من نفسك عن تزويجه. - لماذا؟ ألعلك تعرف خليل أكثر مما أعرفه. - لا تعرف شيئا عن خليل مما أعرفه. ولكني أرى أن لا تسألني عما أعرفه بل ألتمس منك أن تنتظر برهة قصيرة، والأيام تكون أصدق مخبر لك عنه. - أظنك تكن أمورا يا طاهر أفندي. - إني كما تظن، فأرجو منك أن تطاوعني وتتمهل بضعة أشهر فقط، وبعدئذ لك أن تفعل حسب رغبتك المطلقة، فماذا يضرك أن الذي تريد أن تفعله الآن تفعله بعد أشهر قليلة؟ - اقتنعت بما تقول، فقل لي: من الفتى؟ - الفتى هو حسن أفندي بهجت.
فارتعش حسين باشا إذ سمع هذا الاسم وقال: بالله ماذا تقول؟ حسن بهجت ابن أحد حشمي يحب ابنتي. - نعم، ولكن بعد قليل يصبح حسن بك بهجت، وهو الآن في مقدمة المحامين، وبعد برهة يكون من جملة المثرين الوجهاء، فماذا تقول إذا صار كذلك ألا ترضى به صهرا؟ فتأمل حسين باشا هنيهة وسورة الغضب بادية في أسارير وجهه، ثم قال: متى كان بدء هذا الحب؟ وكيف بث لها حبه وبثت له حبها؟ - لا يسؤك ذلك يا حسين باشا، فقد قضت به طبيعة الحال إذ كان ذلك الفتى يتردد إلى بيتكم منذ حداثته، وكان وابنتك ينموان والحب ينمو معهما حتى صارا شابين، فكانا إذا اختليا تفاهما بلغة الهوى وتعاهدا على ثبوت الولاء. - ويلاه، ما هذا العار الذي ألبستنيه ابنتي؟ - ليس في ذلك من عار يا حسين باشا؛ لأنه لم يحدث بين حسن وابنتك وزر يعابان عليه ويلحق بك عارا. - حسبي عارا أن ابنتي تحب وتحب فتى كهذا. - أما الحب فقد ساقت طبيعة الحال إليه، فلا تلقى التبعة فيه على أحد ولا أحسبه عيبا أو وزرا كما تحسبه أنت، وأما أنها تحب حسن أفندي بهجت فأنا أؤكد لك أنها أحبت أميرا. - مهما يكن من أمر هذا الفتى فإنه وضيع الأصل، وكان أبوه أحد حاشيتنا، وكفاني عارا أن يقال: إن ابنة حسين باشا عدلي أحبت ابن من كان مستخدما في دائرة أبيها. - ليس في ذلك عار يا حسين باشا؛ لأن العقلاء في هذا الزمان لا ينظرون إلى الأصل بل ينظرون إلى شخصية المرء ويكرمونه بقدر ما تستحق شخصيته لا بقدر استحقاق آبائه وأجداده، وهب أن حقارة الأصل نقيصة فنبوغ هذا الفتى وارتقاؤه السريع في سلم الوجاهة والنفوذ يرفعانه من مكانته الحقيرة ويستران وضاعة أصله، وبعد عهد قصير تراه في جملة كبراء البلاد. - أراك تقدر هذا الفتى بشيء عظيم يا طاهر أفندي. - لأني أعرف الناس به، ولي علائق شغل معه، عرفته في باريس جيدا، وهناك عقدت معه اتفاقا على مشروع مهم أظنك عرفت به. - سمعت أن في نيتك أن تأخذ امتيازا بتسيير ترام كهربائي في شوارع هذا البلد، فهل لحسن أفندي علاقة بالمشروع؟ - لحسن أفندي ما لي فيه؛ لأنه هو القائم بأعماله الابتدائية وبهمته ومساعيه سنحصل على الامتياز. - هل ترجح حصولكم عليه؟ - أصبح الحصول عليه في حكم المقرر؛ لأن حمد بك فضل صاحب النفوذ العظيم والتأثير الشديد على رجال الحكومة وعدنا الوعد الصادق بذلك. - وهل تؤمل خيرا من هذا المشروع؟ - أؤمل خيرا عظيما جدا؛ قياسا على ما نراه في حواضر أوروبا، وقد درس حسن أفندي هذا المشروع جيدا في تلك الحواضر، واستدل على أن أرباحه في مصر قد تتجاوز العشرة في المائة، وربما ارتفعت إلى العشرين؛ ولهذا يؤمل الإقبال العظيم على الأسهم وارتفاع أثمانها في عهد قصير، وحينذاك يكون لنا أرباح وافرة جدا.
فتأمل حسين باشا عدلي في هذا الكلام وأدرك خطارته، وجعل ظنه في حسن أفندي بهجت يتغير شيئا فشيئا، على أنه شق عليه جدا أن يسلم بكفاءته لابنته فقال: مع ذلك لا أزال أفضل خليل بك مجدي زوجا لابنتي على حسن أفندي؛ نظرا لما لخليل من كرم المحتد، وشرف الأصل؛ ولما هو عليه من الجاه والنفوذ والغنى. - وسترى حسن أفندي بهجت أرفع منزلة من خليل بك وأوفر ثروة وأقوى نفوذا، وهو منذ الآن قد حصل على شيء من النفوذ، وبنفوذه سنحصل على الامتياز، هذا فضلا عما صار له من المكانة المعتبرة في عيون القضاة ورصفائه المحامين، ثم إن مكاسبه بدأت تتزايد، ومع كل ذلك لا أحرضك على أن تصاهره؛ فأنت حر من هذا القبيل، ولكنك لست حرا في أن تزوج ابنتك من فتى لا تحبه، وأحتج عليك في ذلك باسم الإنسانية وبالنيابة عن ابنتك أيضا، بل إني أحتج عليك بالشريعة الغراء التي تحظر الإكراه في هذا الأمر.
ففكر حسين باشا هنيهة بهذا الكلام وما سبقه، ثم نظر إلى طاهر أفندي وقال: تركت المأذون والشاهدين يستجوبان الفتاة فلا أدري ماذا أجابت؟ فإن كانت قد أقامتني وكيلا عنها فقد قضي الأمر وإلا نؤجل هذا العقد إلى حين، وثم نرى ما يكون؟ - مهما يكن الأمر فلا يجوز أن تعقد العقد ما لم تتثبت من رضاها وإلا فتكون قد جنيت عليها أعظم جناية وارتكبت إثما لا يغفر، فإذا كانت قد أجابت بالإيجاب فلأنك قد قضيت الأمر بالرغم منها ودست حريتها؛ ولذلك يجب أن تخلو بها وتسألها عن مطلق مشيئتها.
ولكني لا أدري كيف أعتذر للذين دعوتهم إلى منزلي لأجل كتابة العقد؟ - قلت لك: إن الاعتذار بسيط جدا؛ فليس عارا أن تقول: «إني وعدت ولست مخلفا بوعدي ولكن الفتاة بعد ما رضيت؛ عادت تتردد، وفي هذه الحالة تحرم علينا الشريعة الغراء كتابة العقد، فمتى زال ترددها نكتبه.» فكيف ترى هذا الاعتذار؟ - حسنا. - هل صممت عليه؟ - صممت.
وعند ذلك نهضا وخرجا من مجلسهما فرأيا عزيز باشا يتمشى في الدار وعيناه تتقدان غيظا وغضبا فلما رآهما خارجين دخل إلى القاعة، ولما دنيا منها سمعا الحضور يلغطون، ولكنهم سكتوا في الحال إذ دخلا، ولما استوى كل في مكانه رأى حسين باشا الوجوه مكفهرة فافتتح المأذون الحديث بقوله: سألت الفتاة ثلاثا من وكيلها فلم تجب فاستدللت على عدم رضاها ولم أعد أزدها سؤالا.
فأجاب حسين باشا: فعلت حسنا في اقتصارك على الثلاث؛ لأن الفتاة كانت مترددة في أول الأمر، ولما فاوضتها في الموضوع رضيت، والظاهر أنها قبلت إكراما لي، لا عن طيب خاطرها، فلما حان موعد الجواب البات وحاسبت ضميرها عادت إلى ترددها، وبما أن الشريعة الغراء تحظر علينا أن نعقد العقد إلا برضا العروسين المتبادل فأرجو تأجيل الأمر ريثما نقنع الفتاة.
فقال عزيز باشا: ولكن لم يكن منتظرا أن يرد حسين باشا عدلي مدعويه خائبين. - لم يكن ذلك قصدي يا عزيز باشا - وأنت تعلم أني صادق الوعد - ولكن إرادة الفتاة فوق كل إرادة، والخلاف منها والتي تماثلها تعذر، ومثل هذا يجري كثيرا فليس الأمر فريا. ومع ذلك ألتمس منكم المعذرة.
أما عزيز باشا فبقي يغلي غيظا وحقدا؛ لأنه أدرك أن في الأمر دسيسة، وأن لطاهر أفندي يدا فيها، فلم يشأ أن يتطرف في اللوم بل كتم غيظه، وآثر أن يحافظ على مسالمة حسين باشا، وطوى النية على أن يحارب طاهر أفندي بالدسائس.
صفحة غير معروفة