وبعد أن تحدث الحضور هنيهة بالمواضيع العمومية تطرقوا إلى الحديث بالموضوع الذي لأجله انعقدت الجلسة، وحينذاك انتدب شاهدان من أقرباء حسين باشا فذهبا معه ومع المأذون إلى دار الحريم وسأل المأذون نعيمة من وراء الباب فقبل أن يسمعوا جوابها وافت الخادمة والتمست أن تهمس في أذن حسين باشا كلمة، فدنا منها، فقالت له: «إن في رحبة الدار رجلا يظهر أنه بك أو باشا يريد أن يكلمك كلمة في الحال.»
فخرج حسين باشا إلى الرحبة ليرى القادم، فإذا هو طاهر أفندي فاستقبله بكل احتفاء وترحاب ودخل به إلى القاعة، أما المأذون فكرر السؤال ثلاثا من وراء الباب فلم تجب نعيمة كانت أمها تهمس في أذنها قائلة: «أجيبي، لا تضحكي الناس علينا .» فلم تجب، عند ذلك رجع المأذون والشاهدان إلى القاعة ودخل طاهر أفندي وحسين باشا وراءهما.
ولا ريب أن القارئ يتصور حالة نعيمة حينئذ إذ سمعت وطء أقدام المأذون والشاهدين وثم سؤال المأذون، «يتصور فؤادها هالعا وعضلاتها منتفضة وجسمها متشنجا» ولما رجعوا كانت تتوقع الهنيهة بعد الأخرى أن يدخل أبوها عليها ويبادرها بضربة قاضية فكانت كل ثانية تموت موتة.
وقد علم القارئ الكريم أنه كان في نية طاهر أفندي أن يزور حسين باشا، ويمكن الصداقة معه تمهيدا لمفاتحته في أمر خطبة نعيمة لحسن، وقد تزاورا حتى أصبحا صديقين، ولما دخل طاهر أفندي إلى قاعة الاستقبال أكرم جميع الحضور وفادته، أما عزيز باشا فتغير لونه قليلا بالرغم من محاولته كظم غيظه، ولا بد من أن يكون قد قال في نفسه: من أين أتى لنا هذا السخط؟
ولما استوى الكل في مجالسهم قال حسين باشا لطاهر أفندي - وهو إلى جانبه - بصوت خافت: «نكتب الآن كتاب ابنتي نعيمة على خليل بك أخي عزيز باشا أتعرفه؟» - نعم، أعرفه جيدا وقد تعرفت به في باريس.
وهمس طاهر أفندي في أذنه قائلا: هل رضيت به الفتاة رضاء تاما؟ - أبت في أول الأمر كعادة بعض الفتيات الخجولات ولكن بعد مفاوضتها رضيت. - هل أنت متأكد أنها رضيت تمام الرضى أو أنها استسلمت استسلاما؛ لأن الأمر فوق مطلق إرادتها؟
فتفرس فيه حسين باشا ونظر في عينيه حدة تهاب كأن فيهما قوة صاحب السلطان وقال له: لماذا تسألني هذا السؤال يا طاهر أفندي ونحن الآن على أهبة أن نعقد العقد؟ - اسمح لي أن أختلي بك بضع دقائق في غرفة أخرى قبل أن تبرم أمرا، فإن لي معك حديثا مهما يتعلق بهذا الأمر.
فلم يسع حسين باشا إلا أن يخرج معه معتذرا من الجمهور، وبقوا يتحدثون وهم يظنون أن أمرا بسيطا عارضا اقتضى انفراد طاهر أفندي بحسين باشا بضع دقائق، أما عزيز باشا فأوجس شرا وحاول أن يخرج ويتجسس، فلم يتسن له؛ لأنهما اختليا في غرفة بعيدة وأقفلوا الباب.
فقال طاهر أفندي : قد يتراءى لك أني أتداخل في أمر من أمورك العائلية تداخل الفضولي، ولكن متى استوفيت حديثي معك تعلم أن لي شأنا بهذا التداخل. - ماذا تريد أن تقول يا طاهر أفندي؟ - قيل لي: إن الفتاة غير راغبة بهذا الزواج، وإنها مكرهة عليه. - من قال لك؟ - لا يهمك أن تعرف من قال لي، وإنما يهمك أن تعرف أني عرفت وربما عرف بذلك غير واحد أيضا.
فنظر حسين باشا في طاهر أفندي نظرة المستغرب وقال: سواء كانت راضية أو مكرهة فليس ذلك من شأن أحد سواي. - بل للفتاة الشأن الأول وإرادتها يجب أن تقدم على إرادة سواها. - ربما كان الأمر كما تقول، ولكن ليس لأحد غير ولي أمرها أن يتفق معها على ما فيه مصلحتها. - ولكن ولي أمرها لم يفعل بحسب رغبتها. - عجيب يا طاهر أفندي! هل أقامتك مدافعا عنها؟ - لا تستأ يا حسين باشا لم آت لأناقشك مناقشة الخصم للخصم، بل لأفاوضك في الأمر مفاوضة الصديق للصديق، فكن حليما واقبل اعتراضاتي؛ لأني مخلص النية فيها. - لا شك عندي بحسن قصدك يا طاهر أفندي فقل بصريح العبارة ما تريد أن تقوله. - أقول: إن الفتاة لا تحب خليل بك البتة بل تحب فتى آخر حبا شديدا ... - فتى آخر! من هو؟ - تحب فتى آخر ستعرفه، وهذا الفتى يحبها جدا أيضا، وهو انتدبني أن أحتج عنها على هذا الزواج الذي لا رضا لأحد الزوجين فيه، وبالتالي ترى أني أحتج بحق بالنيابة عن ابنتك. - من هو هذا الفتى؟ - قبل أن تعرفه أود أن أعرف، هل يجوز لك أن تزوج ابنتك من فتى لا تحبه، بل بالأحرى تكرهه؟ - إذا كنت واثقا تمام الثقة أن الفتى الذي يخطبها خير كفء لها أحاول أن أقنعها بمحاسنه وكفاءته وموافقته لها، فإن اقتنعت فخير وإلا فأتجاوز عن إرادتها وأفعل حسب إرادتي؛ لأني أخبر منها بمصلحتها، وبعد نفاذ الأمر تقنعها الأيام أني أصبت فيما فعلته بالرغم منها، وتشكر غيرتي عليها، ولكني إذا فعلت حسب هواها لا يبعد أن تندم بعدئذ ولات ساعة مندم ؛ لأنها لا تعرف ما أعرفه من أحوال هذه الدنيا ومما يوافق مصلحتها. - ربما كنت أخبر منها بمصلحتها ولكن ميلها القلبي أقدس من إرادتك فيما يتعلق بشخصيتها، فهب أن من تريده بعلا لها أفضل الأكفاء لها ولكنها تكرهه، فهل تظن أنها تكون سعيدة بمساكنته وقلبها نافر منه؟ - أؤمل أنها تميل إليه بعدما تعاشره وتجد فيه المحاسن والمحامد التي لا تعرفها الآن، وهي لو يمكنها أن تعرف خليل بك كما أعرفه لكانت تحبه أكثر مما أحبه أنا. - إن ما تؤمله يا حسين باشا قليل الاحتمال، ويحتمل أن تزداد نفورا منه كما يحتمل أن تحبه في المستقبل، فماذا تفعل لو صح الاحتمال الأول وكان عيش ابنتك مرا مع خليل بك؟ - تكون جاهلة وغرة ومرارة عيشها عقابا لجهالتها. - ولكن الجهالة ليست ذنبا يستحق هذا العقاب الشديد، فكيف قلبت المسألة تجد أن تزويجها بمن لا تحب عسف، بل ظلم، بل غدر. - ولكني لا أتوقع طالبا ليدها أفضل من خليل بك ولا مساويا له في وجاهته ونسبه وغناه وشمائله الشخصية.
صفحة غير معروفة