بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم! خذ بأيدينا فقد عثرنا، واستر علينا فقد أعورنا، وارزقنا الألفة التي بها تصلح القلوب، وتنقى الجيوب، حتى نتعايش في هذه الدار مصطلحين على الخير، مؤثرين للتقوى، عاملين شرائط الدين، آخذين بأطراف المروءة، آنفين من ملابسة ما يقدح في ذات البين، متزودين للعافية التي لابد من الشخوص إليها، ولا محيد عن الاطلاع عليها، إنك تؤتي من تشاء ما تشاء.
سمع مني في وقت بمدينة السلام كلام في الصداقة، والعشرة، والمؤاخاة، والألفة، وما يلحق بها من الرعاية، والحفاظ، والوفاء، والمساعدة، والنصيحة، والبذل، والموآساة، والجود، والتكرم، مما قد ارتفع رسمه بين الناس، وعفا أثره عند العام والخاص، وسئلت إثباته ففعلت، ووصلت ذلك بجملة مما قال أهل الفضل والحكمة، وأصحاب الديانة والمروءة، ليكون ذلك كله رسالة تامة يمكن أن يستفاد منها في المعاش والمعاد.
وسمعت الخوارزمي أبا بكر محمد بن العباس الشاعر البليغ يقول:
1 / 29
اللهم نفق سوق الوفاء فقد كسدت، وأصلح قلوب الناس فقد فسدت، ولا تمتني حتى يبور الجهل كما بار العقل، ويموت النقص كما مات العلم.
وأقول: اللهم اسمع واستجب، فقد برح الخفاء، وغلب الجفاء، وطال الانتظار، ووقع اليأس، ومرض الأمل، وأشفى الرجاء، والفرج معدوم، وأظن أن الداء في هذا الباب قديم، والبلوى فيه مشهورة، والعجيج منه معتاد.
فأول ذلك أني قلت لأبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني: إني أرى بينك وبين ابن سيار القاضي ممازجة نفسية، وصداقة عقلية، ومساعدة طبيعية، ومواتاة خلقية. فمن أين هذا؟ وكيف هو؟ فقال: يا بني! اختلطت ثقتي به بثقته بي، فاستفدنا طمأنينة وسكونًا لا يرثان على الدهر، ولا يحولان بالقهر، ومع ذلك فبيننا بالطالع، ومواقع الكواكب مشاكلة عجيبة، ومظاهرة غريبة، حتى أنا نلتقي كثيرًا في الإرادات، والاختيارات، والشهوات، والطلبات، وربما تزاورنا فيحدثني بأشياء جرت له بعد افتراقنا من قبل، فأجدها شبيهة بأمور حدثت لي في ذلك الأوان حتى كأنها قسائم بيني وبينه، أو كأني هو فيها، أو هو أنا، وربما حدثته برؤيا فيحدثني بأختها فنراها في ذلك الوقت أو قبله بقليل، أو بعده بقليل.
قال: ورأيته قد ملكه التعجب من هذا وشبهه فحدثته بما تنقاسمه من قوى الفلك، وأن سهامنا واحدة، وأنصباءنا منها متساوية، أو قريبة من التساوي، فعجب وازداد بصيرة في إخلاص الصداقة، وتوكيد العلاقة.
1 / 30
فقلت لأبي سليمان: كيف يصح هذا، وأنت مطالبك في الفلسفة، وصورك مأخوذة من الحكمة، وجعبتك مجموعة من الحقائق، وخوضك في الغوامض والدقائق، وذاك رجل في عداد القضاة، وجلة الحكام، وأصحاب القلانس، ومخاضه الظاهر الذي عليه الجمهور، ومأخذه مما عليه السواد الأعظم.
فقال: هذا هو الذي انفردنا عنه بعد أن ازدوجنا عليه والأصل أبدًا مخالف للفرع، لا خلاف الضد للضد، ولكن خلاف الشكل للشكل، وكانت مشتريه خاليًا من قوة زحل، فبرز في حلبة القضاة، وكان المشتري لي مقتبسًا من زحل، فظهرت بما ترى، فجمعتنا المشاكلة على العلم، وفرقنا الاختلاف بالفن.
قلت: هذا والله طريف، ومما يزيد في طرافته أنك من سجستان وهو من الصيمرة. فقال: الأمكنة في الفلك أشد تضامًا من الخاتم في أصبعك، وليس لها هناك هذا البعد الذي تجده بالمسافة الأرضية من بلد إلى بلد بفراسخ تقطع، وجبال تعلى، وبحار تخرق.
فقلت: هل تجد عليه في شيء أو يجد عليك في شيء؟ فقال: وجدي به في الأول قد حجبني عن موجدتي عليه في الثاني، على أنه يكتفي مني فيما خالف هواي باللمحة الضئيلة، وأكتفي أنا أيضًا منه في مثل ذلك بالإشارة القليلة، وربما تعاتبنا على حال تعرض على طريق الكناية عن غيرنا كأننا نتحدث عن قوم آخرين، ويكون لنا في ذلك مقنع، وإليه
1 / 31
مفزع، وقل ما نجتمع إلا ويحدثني عني بأسرار ما سافرت عن ضميري إلى شفتي، ولا ندت عن صدري إلى لفظي، وذاك للصفاء الذي نتساهمه، والوفاء الذي نتقاسمه، والباطن الذي نتفق عليه، والظاهر الذي نرجع إليه، والأصل الذي رسوخنا فيه، والفرع الذي تشبثنا به، والله ما يسرني بصداقته حمر النعم، ولا أجد بها بحياتي، ما أجد بحياتي لي، وإذا كنت أعشق الحياة لأني بها أحيا، كذلك أعشق كل ما وصل الحياة بالحياة، وجنى لي ثمرتها، وجلب إلي روحها، وخلط بي طيبها وحلاوتها.
وكان أبو سليمان يحدثني عن ابن سيار بعجائب، وأما أنا فما عرفته إلا قاضيًا جليلًا، صاحب جد وتفخيم وتوقير وتعظيم، وكان مع ذلك بسيط اللسان، شريف اللفظ، واسع التصرف، لطيف المعاني، بعيد المرامي، يذهب مذهب أبي حنيفة.
ثم قال أبو سليمان: الصداقة التي تدور بين الرغبة والرهبة شديدة الاستحالة، وصاحبها من صاحبه في غرور، والزلة فيها غير مأمونة، وكسرها غير مجبور.
قال: فأما الملوك فقد جلوا عن الصداقة، ولذلك لا تصح لهم أحكامها، ولا توفي بعهودها، وإنما أمورهم جارية على القدرة، والقهر، والهوى، والشائق، والاستحلاء، والاستخفاف، وأما خدمهم وأولياؤهم فعلى غاية الشبه بهم، ونهاية المشاكلة لهم، لانتشابهم بهم، وانتسابهم إليهم، وولوع طورهم بما يصدر عنهم، ويرد عليهم.
وأما التناء وأصحاب الضياع، فليسوا من هذا الحديث في عير ولا نفير.
1 / 32
وأما التجار فكسب الدوانيق سد بينهم وبين كل مروءة، وحاجز لهم عن كل ما يتعلق بالفتوة.
وأما أصحاب الدين والورع فعلى قلتهم فربما خلصت لهم الصداقة لبنائهم إياها على التقوى، وتأسيسها على أحكام الحرج، وطلب سلامة العقبي.
وأما الكتاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوا من التنافس، والتحاسد، والتماري، والتماحك فربما صحت لهم الصداقة، وظهر منهم الوفاء، وذلك قليل، وهذا القليل من الأصل القليل.
وأما أصحاب المذاب والتطفيف فإنهم رجرجة بين الناس، لا محاسن لهم فتذكر، ولا مخازي فتنشر، ولذلك قيل لهم همج، ورعاع، وأوباش، وأوناش، ولفيف، وزعانف، وداصة، وسقاط، وأنذال، وغوغاء، لأنهم من دقة الهمم، وخساسة النفوس، ولؤم الطبائع على حال لا يجوز معها أن يكونوا في حومة المذكورين، وعصابة المشهورين، فلهذه الأمور الحائلة عن مقارها، الزائغة إلى غير جهاتها علل وأسباب لو نفس الزمان قليلًا لكنا ننشط لشرحها، وذكر ما قد أتى النسيان عليه، وعفى أثره الإهمال، وشغل عنه طلب القوت، ومن أين يظفر بالغداء، وإن كان عاجزًا عن الحاجة، وبالعشاء وإن كان قاصرًا عن الكفاية، وكيف يحتال في حصول طمرين للستر لا للتجمل، وكيف يهرب من الشر المقبل، وكيف يهرول وراء الخير المدبر، وكيف يستعان بمن لا يعين، ويشتكى إلى غير رحيم، ولكن حال الجريض دون القريض، ومن العجب والبديع أنا كتبنا هذه الحروف على ما في النفس من الحرق، والأسف،
1 / 33
والحسرة، والغيظ، والكمد، والومد، وكأني بغيرك إذا قرأها تقبضت نفسه عنه، وأمرس نقده عليها، وأنكر علي التطويل والتهويل بها. وإنما أشرت بهذا إلى غيرك لأنك تبسط من العذر ما لا يجود به سواك، وذاك لعلمك بحالي، وأطلاعك على دخلتي، واستمراري على هذا الأنقاض والعوز اللذين قد نقضا قوتي، ونكثا مرتي، وأفسدا حياتي، وقرناني بالأسى، وحجباني عن الأسى، لأني فقدت كل مؤنس، وصاحب، ومرفق، ومشفق، والله! لربما صليت في الجامع فلا أرى إلى جنبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقال، أو عصار، أو نداف، أو قصاب، ومن إذا وقف إلى جانبي أسدرني بصنانه، وأسكرني بنتنه، فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسًا بالوحشة، قانعًا بالوحدة، معتادًا للصمت، مجتنفًا على الحيرة، محتملًا الأذى، يائسًا من جميع من ترى، متوقعًا لما لابد من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول، وظل التلبث إلى قلوص.
وفي تمجيد الصمت مر بي كلام لبعض الحكماء القدماء أنا أرويه لك ههنا لا لأجدد به عليك ما ليس عندك، ولكن لأذكرك، فإن الإذكار بالخبر بعث على الاهتمام به، والبعث عليه سلوك لطريقه.
قال هذا الحكيم: لو لم يكن للصامت في صمته إلا الكفاية لأن يتكلم، فحكي عنه محرفًا، فيضطر إلى أن يقول: ليس هكذا قلت، وإنما قلت كذا وكذا، فيكون إنكاره إقرارًا، ويكون اعترافه بأصل ما حكي عنه شاهدًا
1 / 34
لمن وشى به، وادعاؤه التحريف غير مقبول منه بلا بينة يأتي بها، لكان ذلك من أكبر فضائل الصمت، وأدع هذا وأقول:
كان سبب إنشاء هذه الرسالة في الصداقة والصديق أني ذكرت شيئًا منها لزيد بن رفاعة أبي الخير، فنماه إلى ابن سعدان الوزير أبي عبد الله سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة قبل تحمله أعباء الدولة، وتدبيره أمره الوزارة، حين كانت الأشغال خفيفة، والأحوال على إذلالها جارية، فقال لي ابن سعدان: قال لي زيد عنك كذا وكذا، قلت: قد كان ذاك، قال: فدون هذا الكلام، وصله بصلاته مما يصح عندك لمن تقدم، فإن حديث الصديق حلو، ووصف الصاحب المساعد مطرب، فجمعت ما في الرسالة، وشغل عن رد القول فيها، وأبطأت أنا عن تحريرها إلى أن كان من أمره ما كان.
فلما كان هذا الوقت وهو رجب سنة أربع مائة عثرت على المسودة وبيضتها على نحيلها، فإن راقتك فذاك الذي عزمت بنيتي، وحولي، واستخارتي، وإن تزحلقت عن ذلك فللعذر الذي سحبت ذيله، وأرسلت سيله.
1 / 35
وقبل كل شيء ينبغي أن نثق بأنه لا صديق، ولا من يتشبه بالصديق، ولذلك قال جميل بن مرة في الزمان الأول حين كان الدين يعانق بالإخلاص، والمروءة تتهادى بين الناس، وقد لزم قعر البيت، ورفض المجالس، واعتزل الخاصة والعامة، وعوتب في ذلك فقال: لقد صحبت الناس أربعين سنة فما رأيتهم غفروا لي ذنبًا، ولا ستروا لي عيبًا، ولا حفظوا لي غيبًا، ولا أقالوا لي عثرة، ولا رحموا لي عبرة، ولا قبلوا مني عذرة، ولا فكوني من أسرة، ولا جبروا مني كسرة، ولا بذلوا لي نصرة، ورأيت الشغل بهم تضييعًا للحياة، وتباعدًا من الله تعالى، وتجرعًا للغيظ مع الساعات، وتسليطًا للهوى في الهنات بعد الهنات، ولذلك قال الثوري لرجل قال له أوصني قال: أنكر من تعرفه، قال: زدني، قال: لا مزيد.
وكان ابن كعب يقول: لا خير في مخالطة الناس، ولا فائدة في القرب منهم، والثقة بهم والاعتماد عليهم، ولذلك قال الأول:
إخاء الناس ممتزج ... وأكبر فعلهم سمج
فإن بدهتك مقطعة ... فما لذنبهم فرج
فقومهم بهجرهم ... فإن لم يهجروا اعتوجوا
صروف الدهر دانية ... تقطع بينها المهج
وأنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الكاتب الصابي في إخوان الزمان لنفسه:
1 / 36
أيا رب كل الناس أبناء علة ... أما تعثر الدنيا لنا بصديق
وجوه بها من مضمر الغل شاهد ... ذوات أديم في النفاق صفيق
إذا اعترضوا دون اللقاء فإنهم ... قذى لعيون أو شجى لحلوق
وإن أظهروا برد الوداد وظله ... أسروا من الشحناء حر حريق
ألا ليتني حيث انتوت أفرخ القطا ... بأقصى محل في الفلاة سحيق
أخو وحدة قد آنستني كأنني ... بها نازل في معشري وفريقي
فذلك خير للفتى من ثوائه ... بمسبعة من صاحب ورفيق
وكان العسجدي يقول كثيرًا: الصداقة مرفوضة، والحفاظ معدوم، والوفاء اسم لا حقيقة له، والرعاية موقوفة على البذل، والكرم فقد مات، والله يحيي الموتى! استرسال الكلام في هذا النمط شفاء للصدر، وتخفيف من البرحاء، وانجياب للحرقة، واطراد للغيظ، وبرد للغليل، وتعليل للنفس،
1 / 37
ولا بأس بإمرار كل ما لاءمه، ودخل في حوزته، وإن كان آخره لا يدرك، وغايته لا تملك.
قال صالح بن عبد القدوس:
بني عليك بتقوى الإله ... فإن العواقب للمتقي
وإنك ما تأت من وجهه ... تجد بابه غير مستغلق
عدوك ذو العقل أبقى عليك م ... ن الصاحب الجاهل الأخرق
وذو العقل يأتي جميل الأمو ... ر ويعمد للأرشد الأوفق
فأما الذي قال في أصدقائه وجلسائه الخير، وأثنى عليهم الجميل، ووصف جده بهم، ودل على محبته لهم، فغريب! قال بعضهم:
أنتم سروري وأنتم مشتكي حزني ... وأنتم في سواد الليل سماري
أنتم وإن بعدت عنا منازلكم ... نوازل بين أسراري وتذكاري
فإن تكلمت لم ألفظ بغيركم ... وإن سكت فأنتم عقد إضماري
الله جاركم مما أحاذره ... فيكم وحبي لكم من هجركم جاري
وقال آخر:
1 / 38
أخ لمته أو لامني ثم نرعوي ... إلى ثائب من حلمنا غير مخدج
أهون إذا عز الجليل وربما ... أزمت برأس الحية المتمعج
أخبرنا أبو سعيد السيرافي، قال: أخبرنا ابن دريد قال: قال أبو حاتم السجستاني: إذا مات لي صديق سقط مني عضوًا.
كتب علي بن عبيدة الريحاني البصري إلى صديق له: كان خوفي من أن لا ألقاك متمكنًا، ورجائي خاطرًا، فإذا تمكن الخوف طفيت، وإذا خطر الرجاء حييت.
وقال جعفر بن محمد ﵄: صحبة عشرين يومًا قرابة.
وقال رجل لضيغم العابد: أشتهي أن أشتري دارًا في جوارك حتى ألقاك كل وقت، قال ضيغم: المودة التي يفسدها تراخي اللقاء مدخولة.
وكتب آخر إلى صديق له: مثلي هفا، ومثلك عفا، فأجابه: مثلك اعتذر، ومثلي اغتفر.
وقال أعرابي: الغريب، من لم يكن له حبيب.
وقيل لأعرابي: من أكرم الناس عشرة؟ قال: من إن قرب منح، وإن بعد مدح، وإن ظلم صفح، وإن ضويق فسح، فمن ظفر به فقد أفلح ونجح.
1 / 39
وقال الفضل بن يحيى: الصبر على أخ تعتب عليه خير من آخر تستأنف مودته.
وقال عبد الله بن مسعود: ما الدخان على النار بأدل من الصاحب على الصاحب.
كتب رجل إلى صديق له: أما بعد: فإن كان إخوان الثقة كثيرًا، فأنت أولهم، وإن كانوا قليلًا فأنت أوثقهم، وإن كانوا واحدًا فأنت هو! وقال آخر:
تركت لك القصوى لتدرك فضلها ... وقلت ترى بيني وبين أخي فرق
ولم يك بي عنها نكول وإنما ... توانيت عن حقي فتم لك الحق
ولا بد لي من أن أكون مصليًا ... إذا كنت أهوى أن يكون لك السبق
قال العباس بن الحسن العلوي يصف جليسًا له: لطيب عشرته أطرب من الإبل على الحداء، والثمل على الغناء! وقال آخر:
ذهب التواصل والتعارف ... فالناس كلهم معارف
لم يبق منهم بينهم ... إلا التملق والتواصف
وعناق بعضهم لبعض ... في التساير والتواقف
1 / 40
صارفهم عن المود ... دة إنهم قوم صيارف
إني انتقدت خيارهم ... فالقوم ستوق وزائف
وقال آخر:
فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يومًا دمًا فهو آكله
وكتب يحيى بن زياد الحارثي إلى عبد الله بن المقفع يلتمس معاقدة الإخاء، والاجتماع على المخالصة والصفاء، فلما لم يجبه كتب إليه يعتب، فكتب له عبد الله: إن الإخاء رق، وكرهت أن أملكك رقي قبل أن أعرف حسن ملكتك.
شاعر:
وأعرض عن ذي المال حتى يقال لي ... قد احدث هذا جفوة وتعظما
وما بي جفاء عن صديق ولا أخ ... ولكنه فعلي إذا كنت معدما
وروي أن النبي ﷺ وآله كان يأكل تمرًا ومعه جليس له، فكان النبي ﷺ وآله إذا رأى حشفة عزلها، فقال جليسه: يا رسول الله أعطني الحشفة حتى آكلها، قال: لا أرضى لجليسي إلا ما أرضاه لنفسي.
وقال جعفر بن محمد ﵄: لن لمن يجفو فقل من يصفو.
1 / 41
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: قليل للصديق الوقوف على قبره.
أبو زبيد الطائي:
إذا نلت الإمارة فاسم فيها ... إلى العلياء بالحسب الوثيق
فكل إمارة إلا قليلًا ... مغيرة الصديق على الصديق
ولا تك عندها حلوًا فتحسى ... ولا مرًا فتنشب في الحلوق
وأغمض للصديق عن المساوي ... مخافة أن أعيش بلا صديق
وقال موسى بن جعفر ﵄؛ خير إخوانك المعين لك على دهرك، وشرهم من لك بسوق يومه.
كان أبو داود السجستاني أيام شبابه وطلبه للرواية قاعدًا في مجلس، والمستملي في حدته، فجلس إليه فتى وأراد أن يكتب فقال له: أيها الرجل استمد من محبرتك، قال: لا، فانكسر الرجل، فأقبل عليه أبو داود، وقد أحسن بخجله: أما علمت أن من شرع في مال أخيه بالاستئذان، فقد
1 / 42
استوجب بالحشمة الحرمان، فكتب الرجل من محبرته، وسمي أبو داود حكيمًا.
وقال شاعر:
مولاك مولى عدو لا صديق له ... كأنه نفر أو عضه صفر
وقال ابن الحشرج:
فلا وأبيك لا أعطي صديقي ... مكاشرتي وأمنعه تلادي
وقال العجير:
بعيد من الشيء القليل احتفاظه ... عليك ومنزور الرضا حين يغضب
وقال آخر:
أخوك أخوك من تدنو وترجو ... مودته وإن دعي استجابا
وقال ميمون بن مهران: صديق لا تنفعك حياته، لا يضرك موته.
أنشدنا علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح قال: أنشدنا ابن دريد عن الأشنانداني لأعرابي:
1 / 43
إن كنت تجعل من حباك بوده ... ظهر البعير فثق بأنك عاقره
من ذا حملت عليه كلك كله ... إلا اشمأز فظن أنك حاقره
كلف جوادك ما يطيق فبالحري ... أن يستقل بما تطيق حوافره
أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى، أخبرنا ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي، قال عبد الله بن جعفر: كمال الرجل بخلال ثلاث: معاشرة أهل الرأي والفضيلة، ومداراة الناس بالمخالقة الجميلة، واقتصاد من غير بخل في القبيلة؛ فذو الثلاثة سابق، وذو الاثنين زاهق، وذو الواحدة لاحق، فمن لم تكن فيه واحدة من الثلاث لم يسلم له صديق، ولم يتحنن عليه شفيق، ولم يتمتع به رفيق.
قال ابن أبي دؤاد: صديق عدوك حربك.
قال محمد بن علي بن الحسين الباقر ﵃ لأصحابه: أيدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ حاجته من الدراهم والدنانير؟ قالوا: لا، قال: فلستم إذًا بإخوان.
شاعر:
ومن يرع بقلًا من سويقة يغتبق ... قراحًا، ويسمع قول كل صديق
قال العتابي لصاحب له: ما أحوجك إلى أخ كريم الأخوة، كامل المروءة،، وإذا غبت خلفك، وإذا حضرت كنفك، وإذا نكرت عرفك،
1 / 44
وإذا جفوت لاطفك، وإذا بررت كافأك، وإذا لقي صديقك استزاده لك، وإن لقي عدوك كف عنك غرب العادية، وإذا رأيته ابتهجت، وإذا باثثته استرحت.
وقال الخليل بن أحمد: الرجل بلا صديق كاليمين بلا شمال.
وقيل للخليل: استفساد الصديق أهون من استصلاح العدو؟ قال: نعم، كما أن تخريق الثوب أهون من نسجه.
وقيل لابن المقفع: الصديق أحب إليك أم القريب؟ قال: القريب أيضًا يجب أن يكون صديقًا.
مرض قيس بن سعد بن عبادة فأبطأ إخوانه عنه، فسأل عنهم، فقيل: إنهم يستحيون ممالك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله ما يمنع الإخوان من العيادة، ثم أمر مناديًا فنادى؛ ألا من كان لقيس عليه حق، فهو منه في حل وسعة، فكسرت درجته بالعشي لكثرة من عاده.
قال عبد الملك بن مروان: من كل شيء قد قضيت وطرًا، إلا من
1 / 45
محادثة الإخوان في الليالي الزهر، على التلال العفو.
شاعر:
وقل الذي يرعاك إلا لنفسه ... وللنفع يعتد الصديق معده
قال أبو عثمان الجاحظ: كان ابن أبي دواد إذا رأى صديقه مع عدوه قتل صديقه. قال أبو حامد المروروذي: هذا هو الإسراف والتجاوز والعداء الذي يخالف الدين والعقل، لعل صديقك إذا رأيته مع عدوك يثنيه إليك، ويعطفه عليك، ويبعثه على تدارك فائتة منك، ولو لم يكن هذا كله لكان التأني مقدمًا على العجل، وحسن الظن أولى به من سوء الظن. ثم قال: ذهب الإنصاف في العداوة والصداقة، وأصبح الناس أبناء واحد في الرغبة، والرهبة، والجهل، والجبرية، والعمل على سابق الهوى، وداعية النفس، وهذا لأن الدين مرخي الرسن، مخدوش الوجه، مفقوء العين، مزعزع الركن، والمروءة ممزقة الجلباب، مهجورة الباب، ليس إليها داع، ولا لها محبب، والله المستعان.
قال الأصمعي: كان يقال: البخيل من أقرض إلى ميسرة.
قال عمر بن شبة: التقى أخوان في الله، فقال أحدهما لصاحبه: والله يا أخي إني لأحبك في الله، فقال له الآخر: لو علمت مني ما أعلمه من نفسي
1 / 46
لأبغضتني في الله. فقال: والله يا أخي لو علمت منك ما تعلمه من نفسك لمنعني من بغضك ما أعلمه من نفسي.
وقال المدائني: إذا ولي صديق لك ولاية، فأصبته على العشر من صداقته فليس بأخ سوء.
قال فيلسوف: من عاشر الإخوان بالمكر كافأوه بالغدر.
وقال إبراهيم بن أدهم: أنا منذ عشرين سنة في طلب أخ إذا غضب لم يقل إلا الحق فما أجده.
وقال عبيد الله بن قيس الرقيات: يستأسدون على الصديق وللعدو ثعالب.
اعتل بعض إخوان الحسن بن سهل، فكتب إليه الحسن: أجدني وإياك كالجسم الواحد، إذا خص عضوًا منه ألم عم سائره، فعافاني الله بعافيتك، وأدام لي الإمتاع بك.
1 / 47
قال ثعلب: كان يقال: لعداوة يحيى بن برامك أنفع لعدوه من صداقة غيره لصديقه.
أخبرنا القدسي، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى، قال ابن الأعرابي عن المفضل: جاء رجل إلى مطيع بن إياس فقال: قد جئتك خاطبًا، قال: لمن؟ قال: لمودتك، قال: قد أنكحتكها وجعلت الصداق أن لا تقبل في مقالة قائل.
قال أبو الدرداء: معاتبة الأخ خير من فقده، ومن لك بأخيك كله، أطع أخاك، ولن له، ولا تسمع فيه قول حاسد وكاشح، غدًا يأتيك أجله فيكفيك فقده، كيف تبكيه بعد الموت وفي الحياة تركت وصله؟ قال بعض السلف: عليك بالإخوان، ألم تسمع قوله تعالى: " فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ".
وأنشدنا الأندلسي:
لي صديق هو عندي عوز ... من سداد لا سداد من عوز
شاعر:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس فيصلح
وقال جعفر بن محمد ﵄: حافظ على الصديق ولو في الحريق.
وقال شاعر:
1 / 48