فلما جاء الإسلام كان في تعاليمه ما يشجع الفتوة، من مثل إعطاء الفقير، ورفع الظلم عن المظلوم، وإعلاء شأن المرأة، والجنوح إلى السلم إذا جنح العدو إليه. ووصية أبي بكر لقواد جيوشه مشهورة في أن لا يقتلوا شيخا ولا طفلا ولا امرأة، وأن يعاملوا أهل الذمة معاملتهم لأنفسهم، وأن لا يحرقوا نخلا. واستمرت تعاليم الفروسية هذه حتى أزهرت أيام صلاح الدين في الحرب الصليبية، ونرى أن المسيحيين عندما فتحوا بيت المقدس، نكلوا بالمسلمين كل التنكيل وعذبوهم عذابا لا مزيد عليه. فلما استعادها صلاح الدين قبل الفداء، وأعتق من لم يقدر عليه، وأطلق سراح كثير من النساء من غير مقابل، وزادوا في حرية المرأة واحترامها لأنه كان لهم في الإسلام مثل حسن، وهم بنو عذرة الذين كانوا يحترمون النساء احتراما شديدا ويحبونهن حبا أفلاطونيا، وهو المسمى بالحب العذري.
ومن قديم مجد العرب الخيل؛ أكرموها، واعتنوا بتربيتها، وإلى الآن تنسب إليهم الخيول العربية.
فقد كانت أكبر الفضائل عندهم المروءة، وهي تمت بسبب قريب إلى الفروسية. وتقرأ في كتاب الأغاني والعقد الفريد وأمثالهما، فتجد قصصا كثيرة عن المروءة، من مثل قصص زيد الخيل، وعمرو بن معد يكرب والمهلهل. وليست قصة عنترة العبسي إلا نوعا من أنواع البطولة مملوءة بالفروسية. حتى قصته نفسها من أنه كان ابن أمة، وكان منبوذا لذلك، فلما هوجم قومه أبى القتال لأنه وضيع، فحرره أبوه، فأتى بالعجائب.
فلما أتت الحروب الصليبية رأينا أعمالا كبيرة من أعمال البطولة من مثل احترام النساء والأطفال، وفك الأسير، كالذي يحكونه أن نصرانيا ادعى أنه عطشان، فلما أحضر له الماء زعم أنه خائف أن يقتل، فلما حلف له أنه لا يقتل حتى يشرب، كب الماء على الأرض وطالب الحالف أن يبر بوعده، فبر بوعده وأطلقه. كذلك لم يكن عمل المسلمين في الأندلس بأقل فروسية من أعمال المسلمين في الشرق. وكذلك أعمال المماليك في القاهرة، وهم الذين حاربوا الحروب الصليبية الأخيرة، كما تدل عليه قصص ألف ليلة وليلة. وليس ببعيد أن تكون الفروسية عند الأوربيين قد استعيرت من الفروسية عند المسلمين، فإنها لم تظهر عندهم إلا زمن الحروب الصليبية، وقد أفادت الأوربيين فائدة كبرى، فقد نقلت الجمعية الأوربية من ظلم الإقطاعيين وحروبهم المستمرة، إلى مدينة قارة يسود فيها السلم. هذا إلى أنها قوت خصالا خاصة أهمها ثلاث: (1)
النجدة في الحروب. (2)
الدين. (3)
احترام المرأة.
وأهم من ذلك كله معاونة من يستحق المعونة، وبامتزاج النجدة الحربية والدين نشأت الرحمة ومعونة الفقراء والضعفاء، حتى الرحمة بالحيوانات، وأهمها الفرس.
وبامتزاج الدين واحترام النساء زاد تعلق المسيحيين بالسيدة مريم العذراء. وقد ظهر من ذلك الحين في العالم المسيحي أعمال بطولة وآداب تتغنى بالفروسية، وسعة الصدر مع المخالفين في العقيدة.
أضف إلى ذلك أن الصوفية تبنوا فكرة الفتوة وعدوها من الفضائل التي يحثون المريدين على التمسك بها، كالذي نراه في الرسالة القشيرية، والفتوحات المكية وغيرهما. وجعلوا من مقررهم احترام النساء، حتى ليأبون أن تصب امرأة على أيديهم، وحتى ليأبون أن يؤذوا النمل والحيوانات الضعيفة أي إيذاء، وحتى يعدوا من أنواع الفتوة إزالة كل عائق يعوق وصول الخير إلى مستحقه، فإذا وجدوا حجرا يعوق الماء أزالوه حتى يصل إلى النبات. وإذا وجدوا إنسانا تعوقه عن الخير فكرة شريرة أزالوها عنه، وإذا وجدوا بؤسا يعوق الناس عن المعيشة عيشة راضية وكان في استطاعتهم بذل المال بذلوه وهكذا. وظلت الفتوة في كتب الصوفية تنمو حتى بلغت الغاية في كتب المتأخرين.
صفحة غير معروفة