كانت تستعمل للدلالة على المروءة من نبل وكرم وشمم وعدم تكلف. من ذلك ما جاء في كتاب أدب النديم لكشاجم أن رجلا من أصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر دعاه للطعام عنده دعوة احتفل لها. فلما حضر محمد طالبه بالطعام، فمطله ليتكامل ويتلاحق ما أحبه من الكثرة حتى تصرم أكثر النهار، ومس محمد الجوع، فتنغص عليه يومه، وأراد محمد السفر فشيعه هذا الرجل حتى إذا دنا منه ليودعه، قال له: «أيأمر الأمير بشيء؟» قال: «نعم، تجعل طريقك في عودتك على محمد بن الحارث فاسأله أن يعلمك الفتوة.»
فمضى حتى دخل إلى محمد، فقال له: «بعثني إليك الأمير لتعلمني الفتوة.» وضحك وقال: «يا غلام، هات ما حضر.» فأتى بطبق كبير عليه ثلاثة أرغفة من أنظف الخبز وأنقاه، وسكرجات خل وملح من أجود ما يتخذ من هذه الأصناف، وابتدأ يأكل، فجاءته فصيلة باردة من مطبخه وتداركها الطباخ، وأحدث له بعض فنجان جام حلو، فانتظم له أكل خفيف ظريف في زمان يسير، وبغير احتشام وانتظار.
فهو يستعمل الفتوة في الكرم في سماحة من غير تكلف، ومن هذا القبيل ما قاله أبو البلهاء في يزيد بن مزيد الشيباني يرثيه:
نعم الفتى فجعت به إخوانه
يوم البقيع حوادث الأيام
سهل الفناء إذا حللت بابه
طلق اليدين مؤدب الخدام
وإذا رأيت صديقه وشقيقه
لم تدر أيهما ذوي الأرحام (2)
نرى الصوفية استحسنت كلمة الفتوة وما تدل عليه من معاني النبل والسماحة وأدخلتها في معجم كلماتها وغذتها من فضائلها. وأول ما نجد ذلك في الرسالة القشيرية، فقد عقد القشيري بابا سماه باب الفتوة بجانب باب الحياء والصدق، وقال في تعريفها: «أصل الفتوة أن يكون العبد ساعيا أبدا في أمر غيره.» ونقل عن الفضيل أنه قال: «الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان.»
صفحة غير معروفة