72

ساعات بين الكتب

تصانيف

ولم هذا التشابه المسئوم بين الشعراء المصريين الذين يخيل إليك أنهم كلهم خلقة واحدة صبت في قوالب يميزها الطول والعرض، ولا يميزها عرض من أعراض النفوس أو سر من أسرار الحياة؟ ولم هذا الضيق الذي يجمعهم كلهم في حظيرة واحدة تحويها النفس العامية بحذافيرها، وتفتأ زمانها على سمة لا يعتريها اختلاف التكوين، ولا تمايز الأوضاع والأشكال؟ يصفون الربيع جميعا فلا هذا مميز بإدراك الظلال والألوان، ولا ذاك مميز بطرب الألحان والأصداء، ولا غير هذا وذاك مميز باستكناه الخفايا واصطياد الأطياف والأرواح، ولا غير هؤلاء مميز بأشواق الهوى، ونزعات الشعور، وخفقات الإحساس، وأشباه هذه المزايا التي يشملها الربيع، ويعطي كل شاعر منها بمقدار، وإنما هم جميعا سواسية في تشبيه الورود بالخدود، والبلابل بالقيان، والأزهار بالأعطار، وما إلى ذلك من الصيغ المحفوظة، والصفات المعهودة، والربيعيات التي لا لون فيها ولا صدى ولا حس ولا، ربيع! فلو كان في عالم السرائر مشبهون يتعقبون الشعراء سماتهم النفسية كهؤلاء المشبهين الذين يتعقبون الجناة بسمات الوجوه والأجسام لحار والله المساكين في كتابة التشبيه، وتقدير الأوصاف، وتحرير المزايا بين أولئك الشعراء، فكل شعرائنا طويل قصير، بدين هزيل، أبيض أسود، أحول أعمش! وكلهم توائم يعرفون بالملابس والأسماء، ولا يعرفون بالأوصاف والسمات، وكل ما يشهدونه من روعة الحياة لا يتعدى ذلك الذي يشهده كل ذي عينين حيوانيتين، كلبيتين أو بقريتين أو فيليتين إلى آخر ما في الحديقة من ذوات العينين! فلو نظمت الكلاب والقطط يوما باللغة العربية لعلمت منها أنها هي أيضا تفهم كما يفهم شعراؤنا أن الورد أحمر، وأن الياسمين أبيض، وأن الزرع أخضر، وأن في الدنيا أشياء أخرى حمراء وبيضاء وخضراء تشبه هذه الأشياء، وربما زادت على شعرائنا بفهم لا يفهمونه وهو تحية الحب التي يحيا بها كل ذي إحساس مقدم الربيع حاشا شعراءنا النابغين.

لم هذا؟ لم لا يكون التمايز بين شعرائنا كما يكون بين شعراء الأمم الشاعرة! لم لا نرى في كلامهم سعة للكون ولا عمقا للحياة؟ لم هذا الضيق الحيواني الذي يزري بشرف الإنسانية وينزل بمقام الإحساس والإدراك؟ العلة دائما في السليقة المصرية لا مطمع في شفائها أبد الزمان! ذلك رأي قد يسهل على بعض الناس أن يسرعوا إلى اعتقاده، ولكنا نحن لا نحب أن نراه ولنا مندوحة عنه، ويزيدنا ترددا فيه أننا لم نجد في مجمل التاريخ المصري الذي استعرضناه قبل دليلا قاطعا عليه ، فما من قصور شعري بدأ في ناحية من نواحي ذلك التاريخ إلا كانت له علة قريبة إلى الصديق يأخذ بها من يحرص على التبرئة، ويأبى التعجل بالتهمة، وليس ما يمنعنا الآن أن نرجو «شعرا مصريا» ذائعا بين قراء الشعر تتجلى فيه سعة الكون وأسرار الحياة وألوان المواهب والملكات، وأن نرد الجهل بالشعر إلى أسباب كثيرة عارضة يرجع بعضها إلى مقاييس القدم التي كانت تجعل البداوة الجاهلية مثلا لكل كلام بليغ وكل شعر مأثور، ويرجع بعضها إلى الدراسة الفرنسية التي أولعت بالزخارف والطلاوات والكياسة المتظرفة والمعاني المصطنعة، ويرجع شيء منها إلى سوء فهم لطبيعة الشعر يقصره على الصغائر، ويكتفى منه بالظواهر ولا يراه أهلا للنظرة العالية التي ننظر بها إليه، ويرجع الشيء الكثير منها إلى عزلة الجماهير واحتجاب المرأة، وعصور الظلم والجهالة التي ثقلت وطأتها على هذه البلاد.

بيد أننا نحب أن نصحح هنا زعما قد يزعمه بعض الذين يقرءوننا ولا يعقلون ما نريد، فنحن لا ننقد شعراء الجيل الماضي؛ لأنهم قدماء أو يشبهون القدماء وإلا كان أولى بنقدنا المتنبي وابن الرومي وبيرون وشكسبير، ولسنا نحسب الذين يعجبون بشوقي - إمام شعراء جيله - معجبين به لأنهم يفهمون الشعراء السابقين، ولا يفهمون الشعراء المحدثين، إذ لو كانوا هم كذلك لكان لديهم «استعداد» لفهم الشعر يعين على مناقشتهم والاتصال بهم على ملتقى قريب، ولكن الذي ننكره في جماعة «الشوقيين» ومن نحا نحوهم أنهم على ضلال بين عن فهم القديم والحديث والفطنة إلى الشعر الشريف في أي عصر وأية لغة، فهم لا يعجبون بشوقي لأنهم يعجبون بالمتنبي والبحتري وابن الرومي وأبي نواس، ولكن لأنهم لا يعرفون ما هو كنه الشعر الذي يستحق الإعجاب، ولا يستقيمون في الفهم والإحساس، وما نظن أحدا عرف الناس بفضل المتنبي، وابن الرومي وغيرهما كما عرفهم أنصار الحديث بذلك الفضل المجهول فلو كان «الشوقيون» يفهمون تلك المحاسن، ويستقيمون في نقد الأقدمين لما كانوا شوقيين ولا انحسر بين أنصار الجديد وبينهم صلة التعارف والإقناع، ولكنهم يقرءون شعراء الجيل الماضي كما يقرءون شعراء العصور الجاهلية والأموية والعباسية، بغير بصيرة ولا استقامة في الإعجاب أو في الإنكار.

إليك مثلا قول بعض الذين أغرقوا في مدح شوقي، وقابلوا بين قصيدته السينية في الأندلس وسينية البحتري في إيوان كسرى، ففضلوا الأولى على الثانية، ورجحوا شوقيا على البحتري بهذه الآية، وذكروا ذلك فيما ذكروه من إطراء صاحبهم لمناسبة الاحتفال بتكريمه. ترى لو كان هؤلاء الشوقيون يعجبون بالبحتري إعجاب صدق وعلم أكانوا يقولون ذلك القول أو يغمطون حقه ويجهلون مزيته ذلك الجهل الذميم! فالبحتري واصف القصور والعمائر لا آية له في الشعر إن لم تكن له الآية الناطقة في هذه الصفات، ولا يحق لأحد أن يدعي عرفانه إذا هو لم يعرفه في هذا المجال الذي قل أن يلحقه فيه سواه، ودع عنك ذاك وانظر إلى الموقف الذي أنطق البحتري بقصيدته النادرة في وصف إيوان كسرى، تعرف نصيبه من الشاعرية ونصيب شوقي بالقياس إليه في هذا المضمار، فما الذي حدا بالبحتري إلى نظم القصيدة؟ أهي عصبية الدين؛ لا! فإن الإيوان من صنع المجوس، والبحتري مسلم ينكر المجوسية ، ولا يحن إلى عهد لها قديم أو جديد، أهي إذن عصبية الجنس؛ لا! فإن البحتري عربي والإيوان من صنع الفرس، والمنافسة بين الأمتين أقدم من الدول العربية والإسلام، والبحتري يذكر ذلك حين يقول:

حلل لم تكن لأطلال سعدى

في قفار من البسابس ملس

ومساع لولا المحاباة مني

لم تطفها مسعاة عنس وعبس

وحيث يقول:

ذاك مني وليست الدار داري

صفحة غير معروفة