والذي يقال هنا عن رينان قد قيل كثيرا عن غيره من الكتاب والأدباء، فليس بالقليل بين الشعراء ورجال الفنون من وصفوا بهذه الصفة، وقيل في نقدهم إنهم يؤثرون الجمال على الحقيقة. هذه كلمة شائعة خرج بها بعضهم عن معناها، وأعجبتهم رنتها فوضعوها في غير موضعها.
لقد خيل إلى بعض القراء أن الجمال شيء يناقض الحق ويضحي به أحيانا في سبيل ظهوره، وهذا من تحريف الكلم الذي نود أن نوضح مكان الزيغ منه، ونحرر نصيب الصدق فيه.
إننا نشك كل الشك في وجود ذوق فني مطبوع على حب الجمال الصحيح يضحي بالحق في سبيل الجمال، فإن تعمد التضحية بالحق غش أثيم تنبو عنه طبيعة الذوق السليم، والرجل الذي يعلم أنه عثر على المعنى الصحيح، ثم ينبذه مختارا ليخلفه بعبارة تبرق في النظر، أو تظن في السمع يزيف على نفسه تزييفا لا ترضاه السليقة الجميلة، ولا الذوق المستقيم، فالقول بأن كاتبا يضحي بالعبارة المحكمة عند الضرورة؛ من أجل العبارة الجميلة - وهو عالم بذلك - فيه تجوز يدل على سوء فهم للحق أو سوء فهم للجمال، وفيه مبالغة كمبالغة الصور الهزلية التي قد تغتفر أحيانا للدلالة على نظرة خاصة يقصدها المصور، لا للدلالة على الصدق والإحكام.
قد يضحي الكاتب بالحق في سبيل البهرج الكاذب؛ لأنه لا يتذوق جمال الحق، ولا بساطة الجمال، أما التضحية العامدة بالحق في سبيل الجمال فأمر لا يتفق، ولا ندري كيف يسيغه طبع قويم.
والبهرج كما لا يخفى غير الجمال وإن ظن أنه منه، أو خيل أن البهرج هو إفراط في الجمال وتزيد منه إلى فوق المحمود. بل نحن نقول: إن البهرج يناقض الجمال، وإن الإعجاب به دليل على ضلال مشوه عن الذوق الجميل ، فهو شيء سطحي إذا لفتك فقد بلغ الغاية، وأعطاك كل ما عنده ولم يبق لديه من سر غير ذلك السر الذي يقف عنده الحس، ويجمد عنده الخيال، وهو صورة تلقي بكل ذخيرتها لأول نظرة تجتذبها من عين الناظر، أو أول لفتة تسترعيها من أذن السامع، فهو عقبة تستوقف الناظرين والسامعين، وقيد يغل الحس والتفكير، أما الجمال فنقيض ذلك؛ لأن ما يبدو منه لأول وهلة هو أقل ما فيه، أو هو رائده الذي يسعى أمامه ليدل على وصوله، وهو لا يستوقف الحس ولا يعطل التفكير والخيال، ولكنه يطلق النفس في هوادة ورفق، ويسلس في الطبع شعور السماحة والاسترسال.
وإذا أردت أن تعرف منتهى ما يبلغ إليه البهرج، فلك أن تقول: إنه هو وهج في النظر، وقرقعة في الأذن، ولذع في الحس، وتهييج في الشعور، ومتى انتهى إلى ذلك فقد افتضحت طبيعته المادية، ووصل إلى حد المضايقة والإرهاق، أما الجمال فلا يزيد في «المادية» كلما زاد في الحسن والظهور، ولا يتمادى إلى إعنات الحواس بالغا ما بلغ في السمو والكمال، ولكنه يتجه إلى النشوة الروحية، والنعيم الذي لا يشوبه حس منزعج، ولا جسد منهوك، فأنت تقول هذا بهرج ويثقل على النظر إذا زاد على حده، ولا تقول هذا جمال يثقل على حاسة من الحواس إذا أعجبك سموه وكماله؛ لأن الجمال لا يعلو في الدرجة كلما ضعفت أعصاب الوظائف الحسية عن احتماله، وإنما تقاس درجاته بما يوليه النفس من نشوة وطلاقة وارتياح.
فمعقول أن يترك الكاتب الحق ليلهي قارئه بالبهرج الزائف؛ لأن الحق لا يثير الحس بطبيعته فهو لا يغني عند القارئ الساذج غناء البهرج الذي يسترعيه من هذه الناحية، ويلذه كما يلذ الطفل البريق والطنين، ولكن غير معقول أن يترك الكاتب الحق ليلهيك بالجمال؛ لأن استمتاعك بالحق لا ينفي استمتاعك بالجمال، وكلاهما يسعيان في طريق واحدة ويلطفان النفس بلذة متشابهة، فإذا بلغ الجمال أقصى أثره في النفس لم يصرفها عن الحق، وإذا بلغ الحق أقصى أثره في النفس لم يصرفها عن الجمال ، ولا موجب لترك أحدهما من أجل صاحبه، أو للتفريق بينهما في ذوق الفنان القدير والقارئ الخبير.
ولزيادة الإيضاح نسأل من يزعمون هذا الزعم: لماذا يترك الكاتب المعنى الصادق إيثارا لجمال الأسلوب؟
إن ذلك لا يعدو أن يرجع إلى سبب من سببين: فإما أن يكون التعبير عن ذلك المعنى الصادق بأسلوب جميل مستحيلا كل الاستحالة؛ أي أن يكون ذلك المعنى الصادق مقضيا عليه ألا يبرز أبدا إلا في قالب دميم من اللغة والأسلوب، وهذا ما لا يقوله أحد ولا يستطيع أن يفرضه عاقل، إذ لكل معنى حظه من الصياغة الجميلة يلهمه في الكتابة من هو قادر عليه، ولم يوجد بعد ذلك المعنى الذي تضيق به الأساليب، إلا ما كان معيبا مشروطا فيه النقص والتشويه.
وإما أن يكون السبب الذي يحمل الكاتب على ترك معناه الصادق إيثارا للأسلوب الجميل هو إحساسه بالعجز عن إفراغ ذلك المعنى في قالب البلاغة والجمال، فليس يصح إذن أن نقول: إنه قد ترك الحق لأجل الجمال إذ كان الجمال ها هنا ميسورا لو استطاعه، ولم يكن ثمة تناقض بينه وبين الحق على وجه من الوجوه، ولكنما نقول: إنه ترك معنى صادقا إلى معنى آخر له نصيبه عنده من الجمال والصدق، أو البهرج والبهتان.
صفحة غير معروفة