لماذا نشترط البعد في الزمان والمكان لظهور الشخصين المتماثلين كل التماثل! لماذا يتحتم أن يكون أحدهما في هذا الزمن والآخر على مسافة ملايين السنين أو ملايين الأميال؟ إن المقتضي للتماثل هو أن الأشكال تتناهى والجواهر لا تتناهى في قول أصحاب الدور والتسلسل. حسن، فلا داعي إذن لاشتراط التباعد بين الشخصين المتماثلين في الزمان والمكان، بل يجب أن نرى أناسا كثيرين يتماثلون على سطح هذه الأرض في المدينة الواحدة وفي الوقت الواحد وإلا كان رأي أصحاب الدور والتسلسل باطلا يستند إلى دليل مشكوك فيه. أم تراهم يشترطون التباعد ليقولوا لنا إذا أنكرنا دعواهم : اذهبوا فطوفوا الفضاء الذي لا حد له، وجوسوا في جوانب الزمان الذي لا بداية له ولا نهاية، فإن لم تجدوا أناسا يتماثلون وأجراما تتماثل فنحن إذن المخطئون وأنتم المصيبون، إن وجدتم فعودوا إلينا إذن بالنبأ اليقين؟!
إن اللحظة الحاضرة من الزمان تشمل أشياء مختلفة، مضت عليها أزمنة مختلفة، وأوضاع مختلفة، فهي بهذه المثابة ككل لحظة من الماضي أو المستقبل، وإن هذا الوضع من المكان هو ككل موضع غيره في اقتضاء التماثل إن كان له اقتضاء؛ فإذا وجب أن نرى شخصين أو أكثر من شخصين يتماثلون كل التماثل على كوكبين بعيدين في زمنين بعيدين فيجب - لهذا السبب عينه - ألا يمتنع ظهور مثل هذين الشخصين في هذا المكان في الزمن الحاضر، وإلا فما هو المانع إن كان أصحاب الدور والتسلسل يمنعونه فيما يزعمون؟
نرجو الأستاذ أن يسأل نفسه هذه الأسئلة ، ونحن نرجح أنه لا يجيب عنها أجوبة يسهل التوفيق بينها وبين القول بالدور والتسلسل، وليعلم حفظه الله أنني لا أجد عزاء لنفسي في تكرار «العقاد» إلى غير نهاية بين أجواز الفضاء وأبديات الزمان، فإذا ثبت له ثبوت اليقين أن في هذه اللحظة عقادين لا عداد لهم يكتبون مقالاتهم في بلاغاتهم الأسبوعية التي تصدر في قواهرهم وأفريقاتهم للرد على الزهاويين الذين لا أول لهم يعرف ولا آخر لهم يوصف، فرجائي إليه أن يكتم عني هذه الحقيقة، فما في علمها إلا الشقاء بتضاعف الأشغال وتراكم الأحمال، وما في ذلك ترفيه ولا عزاء!
شكسبير (1)1
سيان أن نكتب عن شكسبير، أو عن الطبيعة البشرية، وحقيقة الشاعرية، فشكسبير عنوان كلا عنوان، وموضوع كلا موضوع؛ لأنه هو موضوع يمس حياة الإنسان وكل شيء يعنينا من خلائق النفوس، إذ أي شيء «إنساني» ليس شكسبير؟ وأي شيء يعنينا في هذه الدنيا ليس بالإنساني في بعض نواحيه؟
في روايات شكسبير وأشعاره رجال كثيرون، يعملون ويتكلمون ويتفكرون بما تعرب عنه الكلمات، وبما تنطق به المواقف ولا يلفظه اللسان. هم على اختلاف في المراتب فمنهم الملوك والوزراء والقادة والتجار والصناع والمتسولون ومن لا مرتبة لهم ولا عمل، وهم على اختلاف في الطبائع والأخلاق، فمنهم الكريم واللئيم، وذو النجدة والأريحية، وصاحب الدسيسة والخديعة، والحكيم الأريب والأبله المغرور، والعليم والجهول، والقوي المستضعف وأولو الكفاية في كل فن من فنون الحياة، ومن لا كفاية لهم في شيء من الأشياء، وهم على اختلاف في الحالات والأطوار فمنهم الظافر والمخفق، والراضي والغاضب، والمستبشر والقانط، والمحب والسالي، والطامع والزاهد، ومن هو مزيج من هذه الحالات ومن ليس له في حالة منها نصيب معدود، وهم على اختلاف في الأسنان فمنهم الشيوخ الفانون، والفتيان في مقتبل الحياة، والكهول والصبيان، وكل هؤلاء يعرضهم شكسبير عليك فإذا هم يعملون كما ينبغي أن يعمل، ويقولون كما ينبغي أن يقال، ويفكرون كما ينبغي أن يعهد فيهم التفكير، ويسيرون في حياتهم وبين أصحابهم وعشرائهم كما ينبغي أن تكون السيرة لكل سن، ولكل حالة ولكل خليقة ولكل مقام، وإذا بهذا الشاعر في علمه الذي لم يأخذه عن الأساتذة، وفي مرتبته التي لم تعد يسار الفقراء، وفي وظيفته التي تقلب فيها بين الفلاحة والتمثيل، يصور لك الملك في حالاته وكلماته فلا يخطئ التصوير، ويمثل لك كل إنسان فلا يخالف الحقيقة ويجيء لك بروايات كأنما هي خريطة الدنيا وضعت لتنشأ الدنيا على خطوطها من جديد إن أدركها البوار.
أعجب من هذا في العجب نساء رواياته وهن متباينات في السن، والمزاج، والفكر، والخليقة، والبيئة، والمقام. محبات على اختلاف في اللهو، وطيبات على اختلاف في الطيبة، وداهيات على اختلاف في الدهاء. كلهن صنعة كاملة لا أمت فيهن ولا عوج، ولا مبالغة ولا تفريط، فلو قيل: إن شكسبير رجل ولا يخفى عليه ما في طبيعة الرجال عظموا أو صغروا، وطابوا أو خبثوا، فماذا يقال في تصويره للنساء إلا أنه إلهام نافذ وبصيرة صادقة، تنطبع عليها مشاهد الحياة فإذا هي كلها على حد سواء في الجلاء والإتقان؟
بل أعجب من هذا في العجب أن يدخل شكسبير في رواياته أناسا مرضى العقول أو مصابين بضروب الهوس، فيقول عنهم أو يجعلهم يقولون ما لم يعرفه أطباء عصره، وما لم يعرفه الطب الحديث إلا منذ عهد قريب، ثم يأتي الأطباء المتفرغون لهذه الأمراض، فيأخذون أعراضها من رواياته كما يأخذونها من كل تجارب المستشفيات، ويستعرضون دلائلها في أبطاله كما يستعرضونها في بدوات المرض وفي كتب «التشخيص». وتلك آية لا مثال لها على استقامة القريحة في الملاحظة والاستيعاب، فكأنما هي خلايا الجسم الصحيح يأخذ كل منها حظه من الغذاء، ويقوم بقسطه من العمل بلا إملاء ولا تدبر ولا اكتراث.
وربما كان أعجب من كل هذا علمه بعادات الجماهير، والتفاته إلى أطوار الجماعات، وأساليب الدعاة في تقليب شعورها من السكون إلى الهياج، ومن المودة إلى العداء، ومن الشكر والإعجاب إلى الذم والانتقام، فمذ كم من السنين بدأ العلماء يكتبون في «نفسية الجماعات» ويدرسون طبائع الجماهير، ويدونون الحقائق والآراء عن هذا الباب الجديد من أبواب النفسيات؟ منذ سنين لا تتجاوز الخمسين، ولم تكن في عصر شكسبير حكومات شعبية كالتي نعرفها اليوم، فكنا نقول: إنه نقل عما سمع ورسم على ما رأى، ولم يصل إليه من أنباء الرومان واليونان إلا ما وصل إلى كل قارئ بين عامة القراء في زمانه، فما استخرج منه أحد «علما» لأهواء الجماعات، ولا وصفا لأساليب الدعاة، ومع هذا أي أستاذ في النفسيات يفطن إلى دقائق هذه المعاني كما فطن إليها صاحب رواية «يوليوس قيصر»، وواضع الموقف الذي انقلب فيه «الجمهور» من موالاة قاتليه إلى ملاحقتهم بالمسبة والتعزير، واشتداد الطلب في أثرهم بالقتل والتدمير؟ أي خطيب يعرف من أسلوب الدعوة ما عرفه ملقن «مارك أنطوني»، ذلك الخطاب الذي بدأ بالبكاء وانتهى بالفتنة العمياء.
لقد بلغ من إغراب شكسبير في ابتداع الصدق أنك لا تقف فيه عند غريب، وصار في هذا الوصف كالأيام «كله عجائب حتى ليس فيه عجائب.» فأنت تمر بشخوصه وأقوال رجاله ونسائه، كما تمر بمدينة قد ألفتها عشرين سنة لا يخفى عليك خاف من مناظرها ولا بديع مستغرب من مظاهرها، وتكاد لا تحس ببصرك وسمعك وأنت عابر في أحيائها. كل هذا مألوف معروف صادق مشاهد ، لا شك فيه ولا شبهة في وجوده، فأين يقف الإنسان ليتأمل وأين يشعر بحسه لينظر ويسمع ويتدبر؟ هذه هي غرابة شكسبير التي بذت الغرائب، وتلك هي معجزته التي تعنو لها المعجزات، فأنت لا ترى فيه إلا صدقا وحقا ولا تفاجئك الدهشة، حتى فيما يخيله إليك من مناظر الجنة والعفاريت والأرواح والأطياف؛ لأنك تراها هناك كأنك تعهدها على هذه الصفة بما أفرغه عليها الشاعر من حلة الصدق، وبما خلقه لها من شخوص تلائم ما يروي لها من صفات وأعمال، وقد أصاب الفيلسوف شلجل في بيان هذه الحقيقة فقال: «إن هذا البرومثيوس
صفحة غير معروفة