100

ساعات بين الكتب

تصانيف

كان إيكاروس مع أبيه «ديدالوس» في جزيرة إقريطش يتعلم عليه الصناعة والحكمة، وكل ما يعرفه الإنسان، فقد كان ديدالوس هذا لقمانا يونانيا لا تفوته صناعة، ولا تخفى عليه خافية، وكان عند ملك الجزيرة «مينوس» فأمره أن يبتني له تيها لا يهتدي الداخل فيه إلى مخرج منه، فصنع الحكيم التيه وأنجز مشيئة الملك حتى لقد ضل هو وابنه فيه حين ألقى بهما الملك في غيابته، ثم نجوا بتدبير الملكة، ولم يشأ مينوس أن يبرحا الجزيرة فوضع يديه على السفن كلها وتركهما بين الماء والسماء يستهدفان للموت إن هربا، ويستهدفان له إن آثرا البقاء، ولكن ديدالوس حول مزيال لا يعيا بحيلة ولا يقف عند عقبة، فإن كان «مينوس» قد حكم على الماء فهو لا يحكم على السماء، وإن كان قد أوصد عليه منافذ الجزيرة فهو لا يوصد عليه منافذ الفضاء، ومينوس يستطيع أن يسجن ولكن ديدالوس يستطيع أن يطير، فهو يستخبر سر الطير وينسج جناحين من الريش يركبهما فتعلوان به وتغنيانه عن المطية والشراع، ولكنه يقدم ابنه على نفسه ويرسله قبله ريثما يصنع له جناحين آخرين فيلحق به بعد قليل، ويخشى أن يزهى الولد بنشوة الطيران فيوصيه أن يتوسط ويتئد لئلا يهجم على الشمس فيلهبه شعاعها، ويذيب لحام الريش فلا يمسكه في المطار، أو يسف إلى الماء فيناله رشاشه ويثقل على جناحيه إلى القرار، ولكن من لهذا الفتى بالتوسط والاتئاد؟ إن جناحيه ليحملانه وإن السماء لمفتوحة أمامه، وإن للتحليق لسكرة تطيش معها العقول ويخاف على صاحبها ما لا يخاف عليه من سراديب التيه! فإلى السماء، إلى الشمس بلا توقف ولا احتراس فأما رشاش الماء فلا خطر عليه منه؛ لأن طماح تلك السكرة يأبى عليه النزول والإسفاف؛ وأما السماء فلا شيء يذوده عنها، ولا شبح الموت بحائل بينه وبينها، وفي أي شيء تهون الحياة على الشباب إن لم تهن عليه في سبيل السماء! فما هو إلا أن استقل ريشه وضرب بيمينه وشماله حتى نسي وصية أبيه، ومضى في الجو صعدا كأنما يبتغي الشمس ، ولا يبتغي المآب إلى أرض يونان، غير أن الشمس لا تدرك والشعاع لا ينسى وصيته الأبدية إذا نسي الشباب وصية الآباء؛ فقد ذاب اللحام، وفكك أوصال الجناحين، فهبط الفتى على صخرة في اليم جسما بلا روح، وأطلت بنات الماء من مساربهن يبكين عليه ويندبن ذلك الطماح المنكوس والشاب المضيع، فهن باكيات عليه في ذلك المكان إلى اليوم.

الحب والحياة.

لا نعلم ماذا أراد وضاع الأساطير بهذه الخرافة الكاذبة الصادقة، ولا إلى أي شيء رمزوا بهذا التاريخ الطويل العريض الذي لا يذكر التاريخ أساسه من الحقيقة، ولكن ألا ترى أن قصة إيكاروس هي قصة كل شاب طموح في غمرة من غمرات الحياة؟ أليس كل من يعالج أزمات السريرة يضل في تيه يبتنيه بيديه، ثم يلقي نفسه بين الماء والسماء. الخطر من أمامه والخطر من خلفه وهو حائر بين المأزقين يقتحم سبيل الخلاص، وإنما ينشد الرفعة حين يخيل إليه أنه يطلب الخلاص؛ ثم ألا ينسى السلامة التي خيل إليه أنه طالبها حين يستقل الجناح، ويستغويه لألاء الشمس وتستخفه نشوة الصعود؟ ثم ألا يرتقي به المطار آخر الأمر إلى الأوج الذي تتخاذل فيه الأجنحة، وتنحل العزائم، ويرتد الإمعان في العلو إمعانا في التدهور والهبوط، ثم ألا تحتويه اللجة غريقا في جانب من جوانب نفسه فلا يبقى بعده إلا اسم على صفحات الماء ودمعة كريمة في جفن جميل؟ أليس إيكاروس على هذا المعنى حيا خالدا في إهاب كل إيكاروس لا تفتأ لجته مواراة في «جغرافية» كل إنسان؟ إن هذه الأسطورة لتقرب بين عالم الخرافة وعالم الحياة، فترينا أن الخرافة ليست بأعجب من الحياة، وأن دنيا الحياة ليست بأضيق من دنيا الخرافة، وهذه إحدى فوائد الرموز إذا حسن التعبير بها عن الوقائع والمألوفات. •••

وأنظر الآن إلى صورة رمزية أخرى لجورج واطس أشهر الرامزين من مصوري الإنجليز، هذه الصورة هي صورة الحب والحياة على قمة شاهقة تحف بها المزالق والظلمات، الحياة هزيلة عجفاء لا طاقة لها بالصعود إلى تلك القمة، لو لم يأخذ بيدها الحب المجنح المسكين، فهي تنظر إليه في ثقة كثقة الأطفال وضراعة كضراعة الاستسلام، وهو يحنو عليها ويظلها بجناحه ويخطو بها على الصخور القاسية فينبت الزهر حين يخطوان، فإذا نظرت إلى هذه الصورة فلديك رسم محسوس لكل معنى يدور بين الحب والحياة، فضعف الحياة ممثل في الفتاة النحيلة التي تكاد تهتز من الوجل والوهن، لولا المعونة من تلك اليد الآخذة بيمينها والجناح الحادب عليها، وقوة الحب ممثلة لك في ذلك الفتى الأمون الصليب الذي يعرف طريقه، وإن لم ينظر أمامه ولم يتلفت حوله، والذي يأمن السقوط لأنه يطير بالحياة إذا زلت به قدماه، ومصاعب العيش ممثلة لك في الصخر الأصم يدمي الأقدام، ويطبق حوله الظلام، ومناعم الحياة ممثلة لك في الزهر ينبت في الحجر الصلد والأحلام تسمو إلى ذلك العلو المخيف، فكل ما يقوله القائلون في الحب والحياة ملخص أمامك في صفحة تستوعبها اللمحة، وتتزيا فيها الفلسفة بزي المشاهد الملموسة، وقد يكون هذا الرمز انتصارا للحس على الفلسفة، ولكنه على التحقيق انتصار له في سبيل الفكرة العظيمة لا في سبيل اللمحة العاجلة والتجسيد الكثيف. •••

وإذا ذكر واطس وذكرت الصور الرمزية، فصورة الأمل الخالدة المعروفة لا تنسى في هذا المقام، فقد لخص فيها المصور فلسفة الأمل، كما لخص هناك فلسفة الحب والحياة، فالسماء قاتمة ليس فيها إلا كوكب واجف ينشره الظلام ويطويه، والقيثارة مقطعة الأوتار إلا وترا واحدا يهمس بلحنه لمن يستمع إليه، والعين معصوبة، تزيد الليل ظلاما على ظلام، والعازف يكب على القيثار عسى أن يسمع ذلك الصوت الخافت الذي يجريه هو على الوتر الأعزل الفريد، والأرض تدلج في غياهب المجهول إلى حيث يحدوها الرجاء؛ وهذه صورة الأمل الذي يبقى لنا حين يذهب كل شيء منا، فهو الأمل في الصميم، أو هو غاية ما تنتهي إليه الآمال.

على أنني أقابل بين الرمزين رمز الحب والحياة، ورمز الأمل فيعن لي أن أسأل: ألم يكن الأحرى بالصورة الأولى أن تسمى الأمل والحياة؟ لأن الأمل هو قائد الحياة وهو يرتفع إلى فوق شأوها، ويسندها إذا حاق بها الخور، وشارفت مزالق القنوط؟ فإن كان في الحياة شيء هو أكبر منها فذاك هو الأمل؛ لأنه هو الذي يكبرها ويعلو بها أوجا بعد أوج، ويفرق بين الحقير والعظيم من أنواع الحياة، فأحرى بالقائد في صورة واطس أن يكون هو الأمل لا الحب الذي لا يعيش بغير أمل، أليس كذلك؟ ثم أعود فأقول: إن الحب من الرجاء لقريب، وإنهما في أكثر النفوس لكلمتان لمعنى واحد، فلا رجاء بغير حب ولا حب بغير رجاء.

آراء لسعد في الأدب1

في هذا الأسبوع - أسبوع سعد - لا حديث إلا عنه، ولا بحث إلا في سيرته وأعماله، وعبرة حياته ومماته، وليست مقالة هي ألصق بموضوع هذه المقالات من كلام نخصه بسعد وبطائفة من آرائه وأقواله، فإن العظماء أيا كانت مناحي عظمتهم، ومواطن تفكيرهم هم موضوع قديم للأدب والتاريخ، ومادة لا تنفد للنقد والدراسة، وإن سعدا كان الكاتب البليغ والخطيب المبين كما كان السائس الخبير، والزعيم الكبير، فالأدب بعض جوانبه وإحدى مشاركاته، وله فيه آراء صائبة ونظرات نافذة قلما يهتدي إليها أدباؤنا المتفرغون للكتابة أو المتخذون منها صناعة ورياضة، وربما جهل بعض الذين بهرتهم جوانب سعد السياسية أن له يدا في إصلاح الكتابة من أسبق الأيادي بالتجديد في الآداب العربية، فقد كان هو وصديقه الشيخ محمد عبده يقومان على تحرير «الوقائع المصرية» وتصحيحها قبل سبع وأربعين سنة، وكانت هذه الصحيفة يومئذ مفتوحة لأقلام الأدباء والمنشئين غير مقصورة على القوانين والأنباء الحكومية كما هي اليوم، فعملا فيها على تحرير العبارات، وتقويم الأساليب وإدخال القصد والدقة في المعاني والألفاظ، فأفادا في هذا الباب أحسن ما يفيد كاتبان في ذلك الزمان، وبدءا عهد للكتابة العربية لم يسبقهما إليه سابق في هذه الديار. يعرف لهما هذا الفضل من اطلع على مقالات سعد الأولى التي أعاد البلاغ نشرها من سنتين مضتا، فإن الأسلوب الذي كتبت به تلك المقالات يقارب أسلوب العصر في العلم والأدب، ويخلو من عيوب ذلك العصر الذي كان التكلف والتلفيق ديدن كتابه ومنشئيه، فكأن سعدا سبق الكتابة العصرية بجيل كامل، وكان طليعة التجديد من خمسين سنة، وليس هذا السبق على الآداب العربية بقليل.

ونحن لم نرد بهذا المقال أن نفصل الكلام في مكان سعد من البيان والأدب، فإن لهذا البحث مادة لم نستجمعها وسيجيئ أوانها وأوان الكتابة من كل ناحية من نواحي هذا الفقيد العظيم. إنما أردنا أن نروي عن الفقيد آراء مسموعة في البيان وما إليه، تشف عما أوتيه رحمه الله من حصافة الذهن، وقرب المتجه، إلى الحقيقة بغير تعسف ولا إجهاد، فما كان يدور كلامه على الأدب مرة إلا سمعنا منه قولا أصيلا، ونقدا مسددا، يحصر فيه غرضه أوجز حصر وأوفاه، وكان من عادته رحمه الله أن يخاطب كل فريق فيما يألفون وما يعرفون، فربما جلس إليه الفلاحون السذج فيحادثهم عن الزرع والقلع وصناعة الألبان، وغلات الحبوب كأنه واحد من صغار الأكارين، طلاب القوت من هذه الصناعة، ويلوح عليه الاغتباط بعلم هذه الأشياء كأنه مطالب بعلمها وعملها مأجور على حذقها وإتقانها، وربما جلس إليه التجار فيسألهم عن الرواج والكساد والغلاء والرخاء، ويأخذ من خبرتهم ويعطيهم من نفيس الرأي ما هو عازب عنهم، وعلى هذه السنة كان يخالطنا في الأدب، وما إليه كلما اجتمع لديه فئة من أهل الأدب أو الصحافة، ويبدي في توجيه كل بحث يتولاه تلك المهارة التي تسايرت بها الأمثال في مجلس النواب. •••

كان يوم عيد، وكان في مجلسه رهط من الأدباء والمعنيين بالأدب، أذكر منهم جعفر ولي باشا وزير الحربية، وهو كثير الاطلاع على منظوم العرب ومنثورها، والشيخ المنفلوطي وأساتذة لا أعرفهم، وجرى الحديث في أساليب بعض الكتاب فقال رحمه الله: إنني أتناول أسلوب هؤلاء الكتاب جملة جملة، فإذا هي جمل مفهومة لا بأس بها في الصياغة، ولكني أتتبع هذه الجمل إلى نهايتها فلا أخرج منها على نتيجة، ولا أعرف مكان إحداها مما تقدمها أو لحق بها! فلعل هؤلاء الكتاب يبيعون ب «المفرق» ولا يبيعون بالجملة!

صفحة غير معروفة