القول في كيفية السياسة على وجه آخر سوى الوجوه التي ذكرناها وفيه بيان أنه ليس يجوز أن يقوم غيره إن لم يتقوم السائس أولا نفسه بالحجج البينة والواضحة
وأقول من أول ما يجب على السائس أن يفعله في حق السياسة أن يلتزم الطاعة للسنة التي يريد حمل الناس عليها في جميع متصرفاته وأن لا يرخص لنفسه خلافها في شيء من الأشياء البتة وإن خف أمره وهان خطره وذلك أنه إن أقدم على خلافها كان ساعيا بفعله إلى إبطالها ومقدما بخلافه لها إلى عض حرمتها ومسهلا على غيره سبيل الجرأة على تركها بل على إبطالها في الجملة وقال أفلاطن وجود أنه متى سوغ الرئيس للناس رفض سنة واحدة صار ذلك ذريعة لهم إلى إبطال السنن كلها قال أبو الحسن لأنه ليس الثاني بأحق في الحق من الأول
دليل آخر لما قلناه
أقول إنه لما كانت السياسة حمل الناس على طريقة السنة وفبضهم على العدول عنها فلا بد من أن يكون السائس قائدا فيها ومستتبعا من يسوسه أو سائقا فيقدمهم أمامه فمتى تولى السائس بنفسه عن طريقة السياسة وأخذ بفعله إلى خلاف جهتها فقد اضطر الناس إلى التولى عنها وإلى التوجه إلى حيث توجه هو إليها فإنه القائد وبيده الزمام أو السائق وبيده السوط
دليل آخر
و أقول إنه متى رغب رعيته في فعل شيء بلسانه ولم يرغب هو فيه ورهب من مواقعة شيء بلسانه ولم يحقق هو الرهبة منه بنفسه ولكنه أظهر الرغبة فيه كان لمكذب لقوله بفعله وكالمزهد بعمله لما رغب فيه بلسانه كالمرغب بفعله فيما زهد فيه بلسانه
دليل آخر وهو قوي
أقول من البين أن المنفعة بعلم النافع إنما هي لأن يرغب فيه فيقتنى والمنفعة بعلم الضار إنما هي لأن يزهد فيه ويتقى فمتى صار المفيد للعلم بالنافع وللعلم بالضار زاهدا فيما ذكر أنه نافع وراغبا فيما ذكر أنه ضار كان كأنه قد غر وخادع ودعا إلى ترك شيء ورفضه ليخلص له فيأخذه وإلى فعل شيء ليتخلص هو منه إذا اشتغل به غيره
دليل آخر وفيه بيان معرفة علوم الأعمال في الأول إنما تقع على سبيل حسن الظن بالقائل
وأقول السبيل إلى معرفة علوم الأعمال في الأول إنما هو التسليم للخير على سبيل حسن الظن قال أبو الحسن وذلك أن هذه العلوم إنما تحصل بالتجربة والتجربة إنما تحصل بالحس والنظر وذلك أن التجربة إنما تكون في الجزئيات والجزئيات إنما تدرك بالحس والحس فإنما يدرك منها اللذة والأذى وذلك إنما يكون من بعد التسليم للأول فإنه ما لم يسلم لم يتعلم منه وما لم يتعلم لم يمكنه أن يأخذ به في العمل وما لم يأخذ في العمل لم يحصل له علم التجربة والتعقل إنما هو في معرفة الضار والنافع والخير والشر وهذه إنما تدرك بالنطق والنظر وهو السبب فيه وقال أرسطوطيلس ينبغي للأحداث أن يسلموا للمشايخ وللمتعقلين من غير برهان ويجب عليهم أن يسلموا لظنونهم من غير برهان كما يجب عليهم أن يسلموا للبرهان وينبغي للمتعقل أن يعرف الأبر والأفضل والأنفع والأضر ولذلك نقول بأن المجرب يحتاج أن يكون بصيرا بمعرفة وجوه العبرة والمقايسة ويحتاج أن يكون سليما من الآفة والعاهة فإنه من البين أن الممرور لا يجد طعم الأشياء على الصحة لكن إنما يجدها على الصحة الصحيح وأيضا فإنه قد يلتذ الإنسان من جهة العادة بما ليس بلذيذ كنتف اللحية وكأكل الفحم والطين ويحتاج المجرب إلى زمان كثير فإن التجربة لا تحصل بمعرفة شيء واحد لكن بمعرفة جميع الأشياء التي يحتاج إليها السعيد في حايته وقد يحتاج إلى الزمان الكثير لمعنى آخر وهو أنه ليس يكفيه أن يجرب الشيء مرة واحدة ولكن يحتاج أن يجربه مرارا كثيرة فإنه يحتاج أن يجربه على الأوقات المختلفة وعلى الأحوال المختلفة وعلى الوجوه المختلفة وأقول القاصد إلى التعرف إن كان صيبا فإن الذي مضى عليه من الزمان قليل وإن كان مسنا وعرفان زمان يقظته قليل والمجرب يحتاج إلى زمان طويل مع اليقظة فقد بان بما قلنا أنه لا سبيل إلى معرفة هذه العلوم في الأول إلا من جهة التسليم للمعلم بحسن الظن ومن البين أنه ليس يجوز أن يحسن ظننا بمن نراه بحاله على خلاف ما إليه يدعونا وذلك بأن يكون زاهدا فيما يرغبنا فيه و راغبا فيما يزهدنا فيه وبعد فإن كان قد دعانا بلسانه إلى فعل شيء فقد دعانا بفعله إلى تركه ودعاء الفعل أبلغ وأقوى لأن الفعل أشرف من العلم الذي يراد لذلك الفعل
صفحة غير معروفة