وكان الترام قد ظهر في قلب المدينة، ولكني لم أره إلا بعد أن اجتزت مرحلة التعليم الابتدائي، ودخلت المدرسة التوفيقية الثانوية - أقول لم أره قبل ذلك، ويحسن أن أضيف أني لم أركبه إلا بعد ذلك بسنوات، لا لأنهم خوفوني منه - وقد حاولوا تخويفي فعلا - بل لأننا كنا افتقرنا بعد موت أبي، واستطاع قريب لي أن يحصل لي على «أبونيه» مجاني «لعربات سوارس»، وهي مركبات طويلة ضيقة تتسع لعشرة ركاب أو خمسة عشر، ويجرها بغلان أو ثلاثة بغال، وتستطيع أن تسبقها وأنت راجل!
وكانت الحمير والبغال، و«عربات الكارو»، التي لا تزال لها بقية لا يستهان بها، هي وسائل النقل والتنقل. فأما البغال فكان يركبها «الذوات» والموسرون من طلاب العلم في الأزهر.
وأما الحمير فيتخذها «أولاد البلد» وبعض أهل الوجاهة. وكانوا يعنون بتدريبها ويحرصون على أن يبدو الحمار في حفل من الزينة، فالسرج بديع الفرش واللجام محلى بالفضة. فإذا كان يوم الأحد، وهو يوم الزيارة الأسبوعية لمسجد السيدة نفيسة، أو يوم الخميس وهو يوم زيارة «المحمدي» بالعباسية، لبس أصحاب الحمير أفخر ما عندهم من الثياب الحريرية، وامتطرا هذه الحمير المضمرة المحلاة، وخرجوا في موكب باهر يتسابقون، ويعرضون مزايا دوابهم. ونقف نحن الصغار على جانبي الطريق نتفرج، ونعجب، ونتمنى على الله أن يرزقنا حميرا كهذه.
وكانت الحارات الواسعة - نسبيا - ملعبنا نحن الصغار. وكنا نعرف ونزاول من الألعاب أربعة ضروب. فأما الصغار جدا فيلعبون «البلي» - وهي كرات صغيرة في حجم الفولة إلا أنها مستديرة - وأما الأوساط فيلعبون «النطة» وهي القفز من فوق أحدهم وهو منحن، وأما الكبار فيلعبون الكرة أو يتسابقون وكانت الكرة هي «كرة الشراب» أما الكرة «الأمبوبة» أي المنفوخة، فما كانت لنا قدرة على اقتنائها، لأن «مصروف» الواحد منا كان لا يزيد على خمسة ملاليم، وكانت كافية للب، والحمص، والفول السوداني. ولم نكن قد سمعنا في ذلك الزمان بالشكولاتة!
والمهرة من الصغار كانوا يتبارون في الرماية، وسلاحهم «الرايقة» وهي حجر دقيق جدا ومستدير، كنا نجمعه من التلال المحيطة بحي الأزهر، فيقف الفريقان أحدهما في أول الحارة. والآخر في آخرها، وبينهما أكثر من ثلاثين مترا، لأن الإصابة بهذه «الرايقة» - كالإصابة بحد السيف - تقطع وتدمي!
وكان لكل حي «فتواته»، وكل جماعة من الفتوات تهاجم كل جماعة أخرى، أو تثأر لنفسها، وكنا نحن الصغار نستطيع أن نعرف سلفا أنباء الغارات المنوية، فنحذر فتوات حينا، ونخرج لنتفرج. أو نتفرج من النوافذ، على العصى وهي تهوي على الرؤوس، ونشترك في المعركة «بالرايقة» من النوافذ، والجريء منا ينزل إلى الشارع ويخوض القتال، على ألا يصيب إلا خصوم حيه.
على أن حياة الصغار لم تكن كلها لهوا، فقد كنا نصلي الفجر في مسجد الحسين، ونقيم الصلاة في مواقيتها في البيت، ونحضر الأذكار، ونحفظ الأوردة ونذكر مع الذاكرين، وفي الصيف - في الإجازة المدرسية - يرسلنا أهلنا إلى «الكتاب» في الأزهر لنحفظ القرآن الكريم.
وكانت على بعضنا واجبات عجيبة ، فكنت أنا - مثلا - مكلفا أن أعلف لجدي حماره، وكان - جدي لا الحمار - ضعيف النظر، فكنا نجئ له بالحمار مسرجا ملجما فيركبه ويتوكل على الله، ويخرج من جيب القفطان «التغييرة» أو الملزمة ويدنيها من وجهه ويقرأ، حتى يبلغ به الحمار باب «المزينين» وهو أحد أبواب الأزهر فيقف، فيعرف جدي أنه وصل، فيترجل، ويترك الحمار لمن يعني به، ويلقي درسه أو دروسه ثم يعود كما جاء!
فحدث ذات يوم أني أهملت إطعام الحمار، فجاع، فلما ركبه جدي لم يذهب به إلى الأزهر، بل كر به راجعا إلى الاسطبل، فلما ترجل جدي لم يجد ما ألف، ولم يدر أين هو؟ فما دخل الاسطبل قط!
وقد ضربت في ذلك اليوم علقة - لا من جدي، فقد كان أحنى علي من أن يضربني - بل من أخي الأكبر رحمه الله!
صفحة غير معروفة