فأقول إن هذا ذنبكن.. لماذا لا تبين لنا ماذا أنتن وكيف تفكرون ومن أية ناحية تنظرن إلى الأمور إذا كنتن تعتقدن أننا مخطئون فيما نرى فيكن؟ افعلن ذلك وأرحن واسترحن. فتقول إنما قصرنا في ذلك لأنكم معشر الرجال استعبدتم النساء وألزمتموهن حالة لا يقبلنها وقد شرعنا نتحرر من ربقتكم فانتظروا. فأقول أنا مع المنتظرين وخيرا إن شاء الله.
3
سأحاول أن أصف للقارئ يوما سعيدا قضيته ي الهواء الطلق مع الصديقة التي حدثته عنها وزوجتي الفاضلة وإحدى القريبات العزيزات وكلبها. وقد ذكرت الكلب في الآخر وأن كان حقه التقديم لأني أخشى إذا أن أنصفته أن أظلم أنا وكان الاتفاق أن تمر بنا القريبة العزيزة فنحملها إلى الصديقة التي تعهدت لنا من قبل أن تكون قد تهيأت للخروج ووقفت رشيقة أنيقة تطل من الشرفة فلا تكاد ترانا مقبلين حتى تهبط إلينا ولو بمظلة فلا تحوجنا إلى الصعود وإضاعة الوقت.
وبكرت في النوم في تلك الليلة وتركت لزوجتي الفاضلة إعداد القليل الذي عسى أن نحتاج إليه في نهارنا وكان المتفق عليه أن يتحرك الركب من منزلنا العامر في الساعة السابعة صباحا ولكن الزوجة بارك الله فيها تحسب لكل احتمال حسابه فقد تتعطل السيارة مثلا وتأبى أن (تسير) فيحتاج إصلاحها ساعة أو بعض ساعة وقد يورثني هذا نوبة عصبية تتطلب إفاقتي منها ساعة أخرى وهكذا فما لهذه الاحتمالات آخر كما ترى ومن أجل ذلك أيقظتني في الساعة الرابعة - أي الثالثة بحساب التوقيت في الشتاء - فقمت مذعورا وفي ظني أن الشمس قد ارتفعت وفركت عيني وأنا أتمتم بما حضرني من ألفاظ الاعتذار فابتسمت وقالت: «لا يزال في الوقت متسع» فمددت يدي إلى الساعة ونظرت فيها وصرخت. ألست معذورا يا ناس ... فنهرتني عن الصياح وقالت: «لا تصح هكذا لئلا تقلق الجيران» فهززت رأسي يائسا وقلت: «صحيح.. لا يجوز إقلاق الجيران.. الشهادة لله يا امرأة أنت أرفق الناس بالجيران وأحرص خلق الله على راحتهم.. ليتني كنت جارا لك» ولم تبق لي حيلة لأن النوم لا يواتيني بعد أن أستيقظ. ولكن ماذا بالله أصنع في ثلاث ساعات طويلات. واستبشرت خيرا بهذه البداية الحسنة والفاتحة السعيدة. ورحت أتباطأ وأتلكأ حتى مضى ربع قرن فيما أحس وإذا بالساعة لا تزال منتصف الخامسة ... نهايته من يدري بما كانت السيارة قد خرجت فلنخرج إليها ولنر ماذا أصابها. وذهبت إلى مكانها وبي خجل أن أزعجها في مثل هذه الساعة وأدرتها فدارت واستجابت لي كالجواد الأصيل وأعترف أنها خيبت أملي وغن كانت قد أفرحتني وخطر لي خاطر فصرفت خادم «الجراج» الذي كان قد أقبل عليها يمسحها وأسكت المحرك ودخلت في السيارة وقلت لنفسي اضطجع هنا وأحاول أن أنام إذا استطعت والبقاء هنا على كل حال خير من البيت وضجيجه.
ولكن الزوجة فاضلة ورقيقة القلب أيضا وقد أقلقها غيابي فجعلت تبعث إلي بالخادمة الصغيرة كل ربع ساعة لتطمئن على صحتي وصحة السيارة وكنت أقول للخادمة الصغيرة كلما جاءت أن بالسيارة خللا هينا وقد بعثنا في طلب رجل يصلحه. وكان إقلاق الخادمة لي أهون على كل حال مما قدرت أن يكون حظي في البيت. وأزفت الساعة أخيرا بعد أن كادت روحي تزهق فمضيت بالسيارة إلى رصيف البيت وما كدت غاصا بالحقائب، والسلال، والكراسي الصغيرة التي تطوى وما إلى ذلك من أدوات فما يستطيع السائر أن يجتزه ألا بدبابة. وأقبلت الزوجة والقريبة ومعها كلبها فقلت (انظرا ... هذا جار فقدناه فكن عساه يكون يا ترى) فقالت الزوجة - غفر الله لها - جار أي جار ... هذه أشياؤنا.. قلت أشياؤنا.. شيء جميل.. وماذا بقي في البيت.. ألا ترين أن الأصوب أن نأتي بالقليل الباقي ونضع الجملة في لوري يتبعنا.. قالت: كلام فارغ. في السيارة متسع وزيادة. فملت إلى السيارة وقلت لها (قواك الله وزادك صبرا اوسعة فإن بك اليوم حاجة إلى السعة لقد كنت أحسبك مجعولة للركوب بس. فإذا بك تصلحين أيضا أن تكوني (مخزن فراشة) للأفراح والليالي الملاح.
ولا أطيل ولا أقول كيف اجتمع الناس ووقفوا ينظرون ونسوا ما كانوا خارجين إليه من عمل أو غيره فإني أنا أيضا أحب أن أنسى ذلك الصباح الجميل ومضينا إلى الصديقة - بارك الله فيها أيضا - ووقفنا على رصيف بيتها وصعدنا بعيوننا إلى الشرفة فألفيناها عاطلة - أعني فارغة - فنفخنا في البوق مرة وأخرى وثالثة - عبثا كما لا أحتاج أن أقول - فاقترحت زوجتي أن أصعد إليها وأستعجلها فهززت رأسي غير موافق وقلت «تذكري يا امرأة أنه الدور الرابع وإن الدرجات أكثر من ستين واعتبري أني جار وترفقي بي وارحميني» قالت: «كلام فارغ.. مالك.. إنك كالحصان» قلت: «إذا جئتك بشهادة من طبيب بأن قلبي مسكين ضعيف وأن هذه السلالم تؤذيه وقد تودي به فهل تقتنعين..».
قالت «كلا..! ولا بألف شهادة». قلت «عن الجيران يحزنون جدا إذ أصابني مكروه فهل يرضيك أن ينزعج الجيران المساكين ويحزنوا ويلطموا ويندبوا وتقوم في بيوتهم القيامة» قالت: (لا فائدة. إذا لم تصعد أنت فمن يصعد؟ عيب يا شيخ) قلت «أصحيح.. إذن فلنصعد جميعا فالظلم الشامل ضرب من العدل» وقد أغراني بهذا الاقتراح أني أيقنت أننا سنصعد جميعا على كل حال. وقوبل الاقتراح بالموافقة وتوكلت على الله ورحت أصعد خلفهما - أو خلفهن إذا حسبنا الكلبة - فألفينا الصديقة العزيزة جالسة إلى مرآتها وشعرها يقطر ماء وفي يدها مشط تسرحه به وهي تبتسم لنا أو لصورتها لا أدري.
ووقفت في مدخل الباب أنظر إلى هؤلاء النسوة وهن يثرثرن ويلغطن - جميعا في وقت واحد حتى ليشق عليم أن تعرف أيهن التي تتكلم وأيهن التي تصغي ولم أسمع كلمة واحدة من كلمات العتاب على إخلاف الموعد، وكدت أطق حين سمعت الصديقة تقول أن النوم كان حلو جدا وتتساءل لماذا يكون النوم حلوا حين يكون على الإنسان أن يبكر في القيام، ولم تقتصر الزوجة في إسماعي عفوا لا عمدا بالطبع - ما يجعل انفلاقي أسرع وأتم فقد جعلت تشكو من أنها استيقظت قبل الفجر بساعة أو اثنتين وحياة صديقتها - بلهجة توقع في روع السامع أني أنا المسئول عن هذا التبكير.
وفكرت برهة وأنا واقف كالتمثال - وليتني كنت تمثالا.. إذن لما سمعت ولا انفلقت - فبدا لي أن خير ما يمكن أن أصنع هو أن أذهب إلى المطبخ لعلي أجد فيه ما يؤكل فما كنت ذقت شيئا في نهاري الأبيض. وكانت أدوات المطبخ من الطراز الحديث - كهرباء وغاز وما إلى ذلك فتذكرت «لوريل وهاردي» وكيف أن أحدهما - لوريل إذا لم تخني الذاكرة - ترك الغاز مفتوحا وذهب ليجيء بعود كبريت فلما عاد وأشعله حدث انفجار عظيم قذف به إلى غرفة مجاورة. وقلت لنفسي قد يكون هذا مبالغة ولكن الذي أعرفه أني في حياتي ما لمست كهرباء أو نقطة غاز خوفا من سوء العاقبة فيحسن أن أكتفي بقطعة من الجبن الطري وبيضة أو اثنتين كما باضتهما الدجاجة أو كسرة من الخبز ولو ناشفة فإن هذا أسلم ولكني لم أستطع العثور على شيء - حتى ولا كسرة من الخبز - في هذا المطبخ فتعجبت للصديقة ومطبخها أهو منظر يا ترى ليس إلا، وهل تعيش على الهواء، وبينما أنا أبحث ولا أجد نادتني الصديقة فذهبت إليها فقالت لي بابتسامة حلوة «مادمت لا تصنع شيئا فهل تصنع معروفا وتبشر لي هذه الصابونة لأرقد بها شعري» وهممت بالخروج لأفعل ما أمرت به فقالت الزوجة «وبعد أن تفرغ من هذا أرجو أن تنزل وتجيئني بقطرات من البنزين لأن بياض حذائي اتسخ ولابد من تنظيفه فما أستطيع أن أخرج به هكذا» وأرادت القريبة ألا تكون متخلفة فأدركتني قبل أن أخرج وقالت «ما دمت ستنزل على كل حال - تأمل - فاذهب إلى أقرب صيدلية وهات لي حق «كريم» فإني لم أجد وقتا لذلك في البيت والكريم الذي هنا لا أحبه.. أنت تعرف الصنف الذي أستعمله.. هيه».
وعدت بعد ساعة. وما داعي للعجلة إن النهار كله أمامي على ما أرى فألفيتهن جالسات إلى مائدة حافلة بألوان مغرية فوقفت أتعجب من أين جاء هذا كله. وجلست معهن في صمت وبعد أن تناولت قدرا يسرا من الطعام حمدت الله الذي لا يحمد على المكروه سواه وفركت كفي وقلت لهن ألا ترين أن الأوفق أن نبقى ونقضي النهار هنا بدلا من قضائه في الحر الذي بدأ يلفح؟ فصحن بي صيحة واحدة وقلن إن الجو بديع وأنهن قد رتبن كل شيء. سيقضين أولا بعض الحاجات البسيطة.. البسيطة جدا. وأمامهن بعد ذلك بقية النهار الطويل للفسحة والنزهة والسرور.
صفحة غير معروفة