ودارت الأيام وقامت الثورة، ونفي سعد زغلول، ثم أطلق سراحه وذهب إلى باريس ثم عاد إلى مصر، فأوفدتني جريدة «الأخبار» التي كان يصدرها المرحوم أمين الرافعي بك إلى الإسكندرية، لأكتب لها وصف استقبال سعد.. وعدت في القطار الخاص معه، واضطررت أن أحمل حقيبتي من محطة مصر إلى ميدان الفلكي، لأني ل أجد لا سيارة ولا مركبة خيل، ولا رجلا يجملها عني، لأن الدنيا كلها مضت وراء ركب سعد..
ومضى الليل، وطلع النهار فحدثت معجزة.!
ذلك أني كنت قبل ذلك بعام قد نزل بي مصاب رجني رجة شديدة، وأتلف أعصابي، فآثرت أن أتخذ مسكنا لي بين المقابر، وكان موقعه موحشا، والقبور حوله تقبض الصدر، وكانت لي قريبة كلما زارتني تقول لي: «يا ابني ما هذا؟ كلما نظرت من النافذة اضطررت أن أقرأ الفاتحة! ولكنني كنت أجد في هذه الوحشة أنسا، وكنت لا أكاد أطيق رؤية الناس، وبلغ من تلف أعصابي أني كنت إذا تناولت الصابون لغسل يدي مثلا، أشعر أن فيه «شعرا» فخفت على نفسي وطلبت الراحة والسكون، وأي سكون أتم من سكون الموت؟ وطبيعي أني كنت أعرف «التربية» - بضم التاء - وفي صبيحة اليوم التالي لعودة سعد، خرجت من بيتي في نحو الساعة العاشرة لأستقل الترام إلى جريدة «الأخبار» على عادتي كل يوم، ووقفت أنتظر الترام، وإذا بشيخ «التربية» المرحوم الشيخ عبد الخالق الطحاوي يخرج في سيارته مسرعا، فلما رآني تمهل وأخبرني أن سعد باشا آت لزيارة مقابر الشهداء وأنه ذاهب لاستقباله عند القلعة وان هذا الخبر سر لا ينبغي أن يذاع، وهذه رغبة سعد.
وتركت الترام وانتظرت، وبعد قليل أقبلت سيارات في الأولى سعد وواصف غالي باشا، وفي الثانية أمين بك يوسف والمرحوم سينوت بك حنا، فأشرت إليهما وركبت معهما، وزرنا مع سعد مقبرة المرحوم مصطفى باشا فهمي صهره ثم مقبرة الشهداء المسلمين. وفيها ألقى سعد خطبة وجيزة كتبتها على ركبتي، فما كان ثم مقعد أو حائط، ثم انطلق الجمع إلى مقبرة الشهداء الأقباط في شارع الملكة نازلي، وهناك خطب سعد أيضا مترحما على الشهداء، حاضا على الجهاد بالمال والنفس في سبيل الوطن، وهناك أيضا. سلم علي سعد، وشكرني ولم يزد، وعاد إلى سرادق مضروب بجوار بيت الأمة وخطب أيضا، ثم ذهبت إلى «الأخبار» ودخلت على المرحوم أمين بك الرافعي اعتذر من التأخر فضحك رحمه الله وقال: «لقد أبلغني سعد باشا أنك رافقته في زيارته لمقابر الشهداء، وهو يستغرب جدا أنك علمت بأمر هذه الزيارة مع أنه أخفاه حتى عمن رافقوه، وهو يثني عليك ويقول أنك أبرع صحفي، وإن ما كان منك يشبه السحر!».
وضحك أمين بك وقال: «طبعا لم أفضح السر، ولم أقل له إن بيتك بين المقابر!».
وهكذا فزت بثناء لا أستحقه، ولا فضل لي فيما استدعاه وإنما الفضل لمجاورتي يومئذ لأهل القبور!
وأذكر أن سعد قال لي فيما قال: إن الرقيب قد حذف من خطبة له في الإسكندرية بعض الكلام فقلت له: إن هذا غير صحيح، والحقيقة أني أنا الذي حذف العبارة التي ظهر في مكانها بياض، وذلك لأن «فلانا» - ولا داعي لذكر اسمه الآن - أخبرني أنك أنبته عنك في مراجعة خطبك لأنك ترتجل الكلام وقد تقول ما لا يحسن نشره الآن، أما الرقيب فقد أخبرني أن رئيس الوزراء - وكان عدلي باشا - أمره أن لا يقرأ خطبك أو أحاديثك أو تصريحاتك، قبل نشرها.
فقال سعد رحمه الله. لقد أحسنت إذ أنبأتني بهذا، لأنه يكون مستغربا أن يحذف موظف صغير من كلام سعد.
ودعينا إلى الغداء عند سعد باشا - أمين بك الرافعي والعبد لله - جزاء لي على براعتي في «سكني القبور»! فأدهشني وأنا جالس إلى المائدة أن يعود سعد باشا إلى سؤالي عما حذف الرقيب من كلامه! وخفت أن يكون قد شك في صدق ما رويته له فاضطررت أن أقص عليه الحكاية مرة أخرى، وأن أعيد أن «فلانا» - وكان حاضرا - طلب مني حذف ما حذف، لأنك - أي سعد - كلفته أن يراجع خطبك.
فالتفت سعد إلى «فلان» هذا، وقال له فيما قال «مجنون مثلك يكون رقيبا على عاقل!»
صفحة غير معروفة