يعبر الشارع وكان يرتدي قميصا ملونا أسفل معطفه وقد وضع قبعة على رأسه. أخذت المترو إلى منزل أخي. كانت هناك إحدى قريباتنا وزوجها وأولادها. تعشينا وجلسنا أمام التليفزيون، واستغرقت زوجة أخي في متابعة أحد المسلسلات. وقال أخي إن صديقا له أحضر من الخارج أسطوانة جديدة لموسيقى فيلم «الخروج» الذي منع عرضه في
مصر . وضعنا الأسطوانة فوق جهاز الأسطوانات وأدرناه، وعاد أخي إلى مجلسه أمام التليفزيون، وسمعته يضحك بصوت عال، وطلبت قريبتنا من زوجة أخي أن ترفع من صوت التليفزيون لأن سمعها ثقيل. أوقفت الأسطوانة وأغلقت الجهاز وجلست معهم بعض الوقت، ثم ودعتهم وخرجت. مشيت إلى منزل
رمزي ، وجدته يقرأ في حجرته وسألني عن الأخبار. قلت: لا جديد. مضيت إلى الصالة وخلعت ثيابي. أطفأت النور واستلقيت على الأريكة. تغطيت جيدا ونمت. حلمت أني في الشارع وأن امرأة شقراء بأصباغ كثيرة تتجه نحوي في تصميم وتمسك بذراعي، حاولت أن أعض يديها الرقيقتين الصغيرتين، وقالت لي إنهم سلخوا فخذيها، ثم وجدتني أمام دولاب صغير وفوقه عنكبوت أسود. حاولت أن أضربه بالشبشب ووجدت أني أصبت حذاء نسائيا أسود، ولمحت العنكبوت يقفز في الهواء وتحول إلى فرقع لوز، ثم ضربناه وسقط في ركن يتلوى، وأردت أن أرى وسطه وهل هو مستدير، وإذا به يقفز عدة مرات وهو يصرخ وبجواره جزء منفصل منه عبارة عن أفخاذ مسلوخة، وأدركت أن ما قالته السيدة حقيقي. ثم وجدتني في ممر وشعرت بشيء في ظهري، وفكرت أنه لا بد أن يكون عنكبوتا كبيرا وهو على وشك أن يلدغني. حاولت أن أتذكر أين يكمن خطره، وكنت عاجزا عن خلع سترتي، ودرت بها أمام الجالسين، وأنا أتمنى أن يساعدني أحد لكن أحدا لم يفعل.
الفصل الثاني عشر
قالت إنصاف : كلكم ذاهبون ولن يبقى أحد بجواري. وقالت إن هذه هي قصة حياتها فقد قضتها جالسة تشهد الآخرين وهم يذهبون إلى السجن أو الخارج أو الحياة الأخرى. كانت مستقرة في المقعد الفوتيل، وكانت ترتدي ثوبا من الصوف الأسود، وأختها ترتدي رداء مماثلا وقد لفت قدميها بقطع من الصوف الأسود، وانهمكت في الحياكة. وكانت عجوز الكرات الملونة موجودة ولم تكن تضع شيئا من الأصباغ التي غطت وجهها في أول العام، وترتدي معطفا أسود من طراز قديم. تطلعت إلى ساعتي وقلت إني لا بد أن أمضي، ونهضت واقفا. انحنيت فوق
إنصاف
وقبلت رأسها. صافحت السيدتين الأخريين ووضعت معطفي على كتفي. غادرت
إنصاف
مقعدها بصعوبة ورافقتني إلى الباب، وكان الجو باردا في الطريق فارتديت المعطف. تعثرت في الظلام فمشيت وسط الشارع وأخذت تاكسيا إلى منزل رمزي، وصعدت إلى المسكن الغارق في الظلام. فتحت الباب ودخلت وأضأت نور الصالة. خلعت معطفي وألقيت به فوق الأريكة، ثم رفعته عن الأريكة ووضعته على مقعد، وجلست على المقعد المواجه للأريكة وأشعلت سيجارة، وعندما انتهت أشعلت واحدة أخرى. بعد مدة دق جرس الباب وقمت أفتح لزوجة أخي وكانت مجهدة، وارتمت على المقعد تلهث، وقالت إنها تأخرت لأن أخي كان بالمنزل، وقالت إنها تشعر بالبرد. ذهبت إلى المطبخ وأعددت فنجانين من الشاي، وعندما عدت كانت تخلع حذاءها وشربنا الشاي. لمحت حقيبتي فسألتني إن كنت أعددت كل شيء. قلت: أجل. وخلعنا ملابسنا. طوت جوربها بعناية ووضعته على المائدة بعيدا عنا. رقدنا فوق الأريكة، وكانت هناك طبقة خفيفة من المساحيق على وجهها أحسست بها عندما قبلتها. قالت إنها لم تضع شيئا على وجهها. كان جسمها جافا وسألتني أن أترفق، وأغمضت عينيها وهي تركز تفكيرها، وبعد قليل أخذ جسمها يلين. وفكرت وأنا أتحرك فوقها في أن أنقل كراستي إلى الحقيبة الأصغر لأنها أحكم إغلاقا من الأخرى. بعد لحظة رقدت بجوارها أدخن. قالت إنها يجب أن تذهب الآن قبل أن يشك أخي في غيابها، ونهضت فارتدت ملابسها. جلست على المقعد أدخن، وقالت وهي ترتدي حذاءها إنها تشعر بأنها لن تراني مرة أخرى. بحثت عن المطفأة وأطفأت سيجارتي بها وقلت إنها مخطئة. قامت واقفة وقالت: ألن تنزل معي؟ قلت إنه يحسن أن تنزل بمفردها فربما رآنا أحد. أوصلتها إلى الباب وانتظرت حتى هبطت السلم، فأغلقت الباب وعدت إلى الداخل، وقفت وسط الصالة، ثم تقدمت من ملابسي وارتديتها، تناولت المعطف في يدي وأطفأت النور، توقفت أمام الباب فارتديت المعطف، ثم غادرت المنزل إلى الشارع. تطلعت في أنحائه فلم أجد لها أثرا . انحرفت في الشارع الجانبي ولمحتها تسير على مبعدة وسط الشارع محنية الرأس. تبعتها على مهل فوق الرصيف. تجاوزت الواجهة الزجاجية وكانت عارية، ويبدو أن صاحبة المنزل العجوز نسيت أن تسدل بابها المعدني، وكان مصباح الشارع يبدد ظلامها ويضيء بعض محتوياتها، كاشفا عن المقعد الخالي أمام المكتب وبعض التماثيل القديمة. تابعت السير إلى نهاية الشارع، وكانت زوجة أخي قد وقفت تنتظر تاكسيا دون أن تتطلع خلفها. اتجهت نحوها ووقفت بجوارها وأخذت يدها في يدي، وتوقفت أمامنا سيارة تاكسي فتركت يدها وفتحت لها الباب، ثم أغلقته خلفها، وانتظرت حتى اختفى التاكسي في نهاية الطريق فاستدرت، وعدت أدراجي إلى المنزل.
بيروت 19 أغسطس 1968م
صفحة غير معروفة