يصح أن نسمي القرن التاسع عشر قرن التأريخ شعرا، فكما اخترع الحريري معجزاته البهلوانية في نظم قصائد رقطاء وغير رقطاء، كذلك كان لرواد النهضة معجزة التأريخ في الشعر، فما هو هذا التاريخ إذن؟
إنه مجموعة كلمات منظومة يأتي رصيد حروفها الأبجدية دليلا على السنة التي يقصدها الناظم، وهكذا صار الحساب حساب في دفاتر شعرائنا.
أما الحروف «الأبجدية» لا الألفباء، فحسابها معروف. سماه القدماء حساب «الجمل»، ولكن ابن دريد يقول: وما أحسبه عربيا. أما الزمخشري فاعترف به في «أساس بلاغته» وقال: وأجمل الحساب والكلام تعلم الجمل. فحروف كلمات «أبجد هوز حطي» يعتبر بها في عرفهم عن الآحاد، من الواحد حتى العشرة. ولفظتا «كلمن سعفص» تعبر عن العقود، من العشرين إلى التسعين. وحروف «قرشت ثخذ ضظغ» تعبر عن المئات فالألف.
أخذ السريان هذا الحساب عن العبرانيين، وهم لا يزالون عليه حتى اليوم. ولعله أبو الرقم الروماني الذي لا يزال يستعمله الفرنجة في بعض الأماكن؛ ولهذا أزعم أن نواة «التأريخ الشعري» سريانية، لا كما زعم المير حيدر في تاريخه: إن السيد عبد الرحمن شاكر النحلاوي - تلميذ الشيخ عبد الغني النابلسي - هو الذي اخترع التاريخ على حساب الجمل
1
أما الذي يحملني على هذا الزعم فهو أن السريان لم يستعملوا قط في حسابهم غير الحروف، ولا يزالون على هذا حتى اليوم. وقد لامهم المطران يوسف دريان مؤلف كتاب نحوهم وصرفهم؛ لأنهم لم يستعملوا الرقم العربي الذي عده يدا من أيادي العرب البيضاء على العلوم الرياضية، ونعى على قدمائنا تسميته بالرقم الهندي، ونفى معرفته عن الهنود.
2
وإذا قيل: ولكن أبجدية السريان لا تفي بهذا الغرض؛ لأن أرقامها لا تتجاوز الأربعمائة. فالجواب على ذلك عند القس نعمة الله الكفري أحد علماء النهضة في السريانية، قال في غراماطيقه:
لما كان السريان لا يستطيعون أن يعدوا بهذه الحروف - الأبجدية - إلا الأربعمائة، أوجد الأولون نوعا يعدون به المئات، والألوف والربوات، فيضعون علامة المائة نقطة من فوق أحرف العشرات - كلمن سعفص - وإذا أرادوا أن يبينوا الآلاف يضعون خطا منحرفا من تحت أحرف الآحاد، أما الربوات فيوضع لها خط مستقيم تحت الحرف.
3
صفحة غير معروفة