فقلت له: أنا لا أقبض «عملة حكي» هذي بضاعتي، ولو كانت تجوز كنت أغنى البشر.
فقال: قال لي صاحبنا موسى إنهم خوفوك مني، لا تخف يا ابني، أنت لست ممن أطمع فيهم، كل ملوخيا، كل لا تستح.
فقلت: أخاف أن «تملخ» رقبة حسابي، فضحك وقال: خطيتك في رقبتي. احرق دين «الجاط». كله كله. حسابك رقبته غليظة لا تنملخ ...
وكان شاكر يتنادر حتى على أولاده، فلما دخل علينا ابن له طويل قال لي: تعرف ماذا انتقيت له وظيفة؟ فبهت. فقال: أن يضوي قناديل البلدية لأنه لا يحتاج إلى سلم. طول بلا غلة ...
وظللنا شهرين ثلاثة نقرأ ونتغدى، وقبضنا أجرتنا علاوة.
هو ذا حق خبزاتك أيها الرائد الذي لم يكذب أهله. فكتاب «مجمع المسرات» فارياق من طراز آخر. كشكول طريف، وصاحبه مطبوع على النكتة القارصة. كان يشتريها بالثمن الموجع كل من يتعرض له؛ ولذلك هابه معاصروه كما هابوا بشار بن برد. كان هجاء محترفا لا هاويا كالحاج عمر الأنسي، وقد أبقى هجاءه السخن لديوان سماه «مجمع الحشرات»، ولكنه لم يظهره في حياته، ولست أدري إذا كان «قبض» ممن هجاهم حين فتح باب الاشتراك بكتابه «مجمع المسرات» فعدل عن ذاك كما حذف الكثير من هذا. لقد كان الاشتراك بكتابه جزية أو ضريبة أداها الأغنياء عن يد، ليسلموا من لسانه ...
فكتاب «مجمع المسرات» ترجمة حياة، ومذكرات مكتوبة بأسلوب طرافته في بساطته. ليس يسأل صاحبه عن الخليل ولا الفراء، فيه صفحات من تاريخ لبنان ووصف للحياة في عصر مؤلفه، وفيه أشياء عن مصر وغيرها من الأمكنة التي حلتها ركابه. فالرجل بشاري فارياقي، ولو كان في عصر الشدياق، وقرأ ركاكته ورطانته ولحنه لشمرت الحرب عن ساقها. فهو من هذه الناحية فقير جدا جدا، وأما من ناحية الشخصية فغني. إلا أنه يظل في الحالين هجاء عصر النهضة، ولونا طريفا من ألوانه، فكل كتابه نكات ونوادر. والذي لابسه كما لابسته، ورآه في مباذله كما رأيته، يقول مثلي: إنه نكتة النكت.
والآن فلنعرض عليك نماذج بضاعته؛ لتحكم أنت بنفسك. وصف شاكر بك حياته من أولها إلى آخرها كما تذكرها، فهو يزعم لنا أنه لم يدون شيئا منها قبل أن فكر بتأليف كتابه هذا الذي يقع في سبعمائه صفحة من القطع الكبير والحرف الوسط. حدثنا شاكر عن «درسه العربي» في «المدرسة الوطنية» للمعلم بطرس قال: كان معلمنا الشيخ ناصيف الشهير، فكان يقول لنا - في الصف - أول موال عمله، ويبتدئ يعمل «مطلع» على المعنى، وكان يقول إنه هو الذي علم ذاته، وإن المعلم بطرس البستاني يعرض عليه تأليفه القاموس محيط المحيط، وكان يعطيني الكراس المصلح، لأعطيه إلى المعلم بطرس، وكان يقول لي عند ذلك: أنا «القاموس السيار».
وعند غيابه كان يوكل ولده الشيخ إبراهيم بالدرس. وكان لابسا - أي الشيخ ناصيف - عمامة سوداء مع قفطان وجبة وصرماية حمراء، يحلق لحيته وهو بسن الشيخوخة، وكان بيته قريبا من المدرسة وهو من المولعين بشرب القهوة والتدخين، وقد كان يعهد إلى بإشعال سيكارته أو غليونه، فكنت أذهب إلى خارج الدرس وأشعل له الغليون بعد أن أدخن فيه قليلا ... وكثيرا ما كنت أهمل دروسي، ولا أجيب على السؤالات، فكان يلتفت إلي المرحوم أخي خليل ويقول له:
أخوك أخو مكاسلة وجهل
صفحة غير معروفة