ما هذه مقدمة
قبل المعركة
الرواد العتاق
شعراء الأمير
الشعراء العلماء
فجر التجديد
شعراء متفلسفون
الرائدات
الرواد الكتاب
رواد الصحافة
كتاب النضال
ما هذه مقدمة
قبل المعركة
الرواد العتاق
شعراء الأمير
الشعراء العلماء
فجر التجديد
شعراء متفلسفون
الرائدات
الرواد الكتاب
رواد الصحافة
كتاب النضال
رواد النهضة الحديثة
رواد النهضة الحديثة
تأليف
مارون عبود
ما هذه مقدمة
يا سبحان الله! قلما خلت عادة من فائدة، فالمرحوم والدي - رحم الله موتاكم جميعا - كان يجبرنا على الصلاة الجمهورية كل مساء، فلا ينساها ليلة، ولا يخرم منها حرفا. أذكر أنه ساقنا كلنا مرة، وركعنا بجانب فراش أمي الممغوصة، وقال لها: «يا أم مارون، صلي معنا تصحي.» حاولت المسكينة أن تضحك فكشرت، وقالت: «أهي فنجان بابونج أم كأس عرق؟» فضحك، وقال: «صلي، بعد الصلاة يكون ألذ وأطيب.»
كانت أمي - نيح الله نفسها - من القانتات؛ تحب الصلاة كثيرا، كيف لا وهي بنت الخوري موسى الذي كان يتوسل إلى ربه بصلاة أطول من يوم الجوع، ليرفض عنه الشباب الذين يسهرون عند بناته الكثيرات ... وقد سماهن كلهن على وزن واحد، وإليك اسم المرحومة الوالدة «كاترينا»؛ لتعلمه، وتقيس عليه ... ولكنها - أي أمي - كانت تهوم متى قامت الصلاة، فتأخذ بالسجود اللاشعوري، ثم لا تنفك تفعل ذلك حتى يرفع الوالد عقيرته مرتلا «طلبة السيدة». وكثيرا ما كان ينكعها إذا لم توقظها أول كيرياليسون ... ثم يمضي غردا كفعل الشارب المترنم على ما في صوته من بحة وصحل. وإذا استعجلنا نحن أخذ يتمطط هو على هواه، فنسير الهوينا اتقاء لشره، ثم لا نتنفس إلا حين يناجي العذراء، ويضعنا «تحت ذيل حمايتها» ... ولكنه يعود فيستأنف الصلاة من جديد، فتكون كذنب الطاووس في الكبر لا في الجمال، فيقول خمس مرات: أبانا وسلام لأجل راحة نفس جدكم؛ ليعامله الله بالرحمة. ويفرض مثلها لجدنا الآخر، ولجدتنا الأخرى، ومثلها لأقاربنا أجمعين، ومثلها لجميع الموتى المؤمنين، ومثلها لأجل ارتفاع شأن الكنيسة المقدسة، ومثلها لكل من آجر في بناء كنيسة الضيعة، ثم لأجل من له علينا فضل وتعب، وأخيرا لأجل «المنقطعين».
قد لا تكون جنابك من «شعب الله الخاص» فلا تفهم ما يراد «بالمنقطعين»، وقد لا تستطيع الوصول إلى الصديق الأستاذ الغلبوني؛ ليشرح لك من هم، فقد ورث الاهتمام بأمرهم عن المرحوم أبيه الفاضل. والأستاذ الغلبوني مفضل على أبي؛ لأنه قام مقامي، وقدس لأجل خلاص نفسه أربعين قداسا ... كان الأستاذ قد ظن أن والدي من «المنقطعين»، وعد وجودي كالعدم ... فهنيئا لوالدي. أما كافأه الله حالا، على ذكره المنقطعين بصلاته طول العمر!
إخالك فهمت من حديثي من هم «المنقطعون»، إنهم أولئك الذين ليس لهم عقب يصلي لأجلهم ويقدس، أظنني أفهمتك، ولكن بعد ما فلقتك، فقل: صبر جميل، واسمع أيضا.
ولما كبرنا أخذنا نتشاغل عن الصلاة، وأمسى والدنا يصلي ووالدتنا، ولما صار أرمل مثلي - ومن يشابه أبه فما ظلم إلا في الصلاة - أخذ يصلي وحده، وظل على ذلك حتى آخر ساعة.
ففي ليلة من ليالي صيف سنة 1930 سهر معنا كعادته، وأطربنا بنكاته البريئة، وأخباره الطريفة، وقبل أن يتدهور الليل قال: يا الله، علينا صلاة، فشق علينا ذهابه؛ لأنه برغم الخمسة والسبعين كان فتي الروح، فركع على تخته قبالتنا، في بيتنا المناوح بيتي، وشرع في صلاته ينبر نبرا، ويرسل الجمل متقطعة كأنه الحجاج يخطب في الكوفة، وظل يفعل هذا أكثر من ساعة، وضيفي الأستاذ جبرايل كان يسمع ويطرب؛ لأنه مصل كوالدي.
وأخيرا صلى الوالد صلاة «المنقطعين»، وتمدد في فراشه وهو يقول: «حطيت راسي عافراشي، سبع صلبان فوق راسي ... مار مخايل يا ملاك، تعينني وقت الهلاك ... إلخ»، ثم تلحف، وهو يقول: يا رضا الوالدين، يا رضا الرب.
فقلت لجبرايل: انتهت المعركة بسلام، وتصالح الوالد مع الله، ونال رضاه ورضاهما، وسينام على سكين ظهره حتى الصبح.
ولما أصبحنا جاء والدنا يسأل جبرايل عن نومته، وكيف وجد مناخ عين كفاع، أهو مثل مناخ «مار ماما» أم أحسن؟ فأحسن جبرايل الرد، ولم يزد على الواقع، أما أنا فقلت: النومة هنيئة، لا برغش، ولا بق، ولا ناموس، فقال: لا تقل ولا ناموس ... فضحكت لاستدراكه، وأعجب به صديقي الأستاذ .
ثم عدت وقلت: ولكن صلاتك كانت عياطا، كأنك تقاتل ربك، طولتها يا شيخ بومارون! فأجاب بغلظة: اسكت يا معتوه، أصلي عني وعنك، وتقول طولتها؟! يا ويلك متى مات بو مارون.
أجل، لقد بعد العهد بيننا وبين تلك الصلوات، ولكنني فطنت في هذه الأيام إلى أن الصلاة «للمنقطعين» نفعتني جدا، إن لم يكن في الدين ففي الأدب، وكم للدين عند العلم والأدب من يد. إني ميال جدا إلى «منقطعي» الأدب، وكثيرا ما أفكر بهم، ولهذا دعوت الأمة العربية منذ خمسة عشر عاما إلى الاحتفال بذكرى الخمسين لأحمد فارس الشدياق أعظم نوابغنا في القرن التاسع عشر، ولكن كلامي ذهب كصرخة في واد.
وها أنا ذا أعود اليوم إلى هؤلاء «المنقطعين» جميعا، وإذا ذكرت معهم من لم يحرموا من يذكر الناس بهم، ويطري آثارهم، فلأن سياق الكتاب يقضي بذلك، ثم لأنهم جاهدوا جهادا حسنا في بناء النهضة التي نفاخر بها، وإذا طالت المدة ولم تقتلنا شدة، فسوف نكتب كتاب «رجال النهضة» أحياء وأمواتا.
والآن ألتمس منك أيها القارئ أن تقرأ جيدا، أو أن لا تقرأ، اترك كتابي في ذقني إذا رأيتني أقول فيه ما لا توافقني أنت عليه، فالناس تناضل اليوم لأجل حرية القول، وها أنا أهبك حرية القراءة، فهب لي من لدنك ما التمست منك.
نصيحة لا حاشية: إذا كنت لم تقرأني بعد، فنصيحتي لك ألا تفتش عن شيء، بل اقرأ كل شيء لتجد ذلك الشيء ... وقد أعذر من أنذر.
قبل المعركة
(1) سنديانة الضيعة
إذا جاز لنا أن نصنف الأشجار أوابد ودواجن، فالأرزة آبدة، والسنديانة داجنة.
الأرزة بادية، والسنديانة حاضرة. السنديانة أم لبنان. في ظلها تعقد الضيعة مجلس الشورى، وتحت جناحيها يستريح الفلاح المنهوك.
هناك في فيئها ينفض الغبار عن حذائه، وهناك يستريح ريثما يجف العرق على جبينه كالرب.
في ظلها الظليل يلعب الصبية ويمرحون، فلا دنانير تفر من البنان، كما تراءى للمتنبي في شعب بوان.
في ظلها كنا نحصب الدوري عندما يغيب عنا الخوري، ومتى طلعت علينا لحيته البحترية من خلف الجدار انكببنا على الكتاب، وأمنا بهذه الحيلة هول الحساب. •••
أيتها الحبيبة، هل تذكرين تلك القلوب الصغيرة؟! فكم تكومت في حشاك الأجوف متوارية عن نظر المعلم، وكم نبضت فيه ودقت، فكانت لك فؤادا يحب ويحب.
في أحشائك الصابرة توارينا صبايا وشبابا، فما ردت عنك حرارة قلوبنا برودة الشيخوخة، وصقيع الهرم.
كم شاهدت من آباء وأجداد يتجادلون ويعبثون، وأنت معبسة لا تفارقك المهابة. تمدين فوق رءوسهم أغصانا كأنها أصابع تداعبهم محسنين، وتنكزهم مسيئين.
يا أم الضيعة، أي سر من أسرارها تجهلين؟ أخفي عليك شيء من نزواتهم ساعة يجهلون؟! أما كنت لهم دائما أما حنونا تستر على بنيها؟!
السلام عليك أيتها الأم، الممتلئة نعمة، مباركة أنت بين الشجر، ومبارك ثمرة بطنك العقل اللبناني.
كأني بالرئيس اللبناني
1
حين قال: «اللبناني والشجرة رفيقا جهاد»، قد فكر ببنتك المعرفة، ثم بابنك المجذاف. أما كنت حياة لهذا البلد منذ كان، ولما عري منك فقد الرجولة والطاقة.
يا أم أعمدة خيامنا مصيفين، ويا أم جذوع بيوتنا مشتين، إليك نرفع أبصارنا خاشعين مبتهلين.
إن مسنا القر دفأتنا جذوعك وأروماتك، وإن لفحنا الحر بردتنا غصونك، وإن شخنا فمنك لنا السند والعضد، منك العصي التي توكأ عليها الجدود، ومنك الخشب الذي يحنو علينا في اللحود.
أيتها الأم الحنون.
كما كنا نرشقك بالحجارة الطائشة فيتساقط بلوطك رطبا جنيا. يا كستناء القدامى، ونقلهم الشهي في ليالي كانون المعربدة، ما أسماك مرتفعة عن الأحقاد!
أيتها الشجرة المقدسة، قدوسة أنت!
لأخينا العربي جمر الغضا، ولنا فحم السنديان، وأكرم بناره من نار خالدة! منك تعلمنا الحزم والعزم والثبات؛ فصبرنا على الزوابع العابرة، مقتدين بك يا أمنا الصابرة.
يا بنت لبنان، يا جامعة الفطرة والزمان، كم هبط الوحي من أعالي سمواتك على الرءوس الحانية على الكتاب.
أتخصين الدفاتر التي حبرتها أيدي من كان جذعك المنخور لهم مسندا؟! كم نظرت بألف عين إلى من سودوا الأوراق فبيضوا وجه لبنان.
ألست قابلة الحرف يوم وضعته أمه؟ ألست مرضعة الكتاب التي لا تعق؟ مرحى يا سنديانة الضيعة الحبيبة، يا جارة الهيكل ما أنت جارة!
أنت أم، أنت أخت، أنت عروس يتجدد كالنسر شبابها. كلك جميلة يا حبيبتنا السمراء!
يقولون مدرسة تحت السنديانة، وما أحلى هذا الاسم الخالد، لقد أنصفك من سماك هكذا؛ ففي ظلك ترعرع العبقريون، ومن عودك استمدت يدهم الصلابة.
ما أحسب كنانة عبد الملك بن مروان، حين كبها، ورأى الحجاج أصلبها عودا، إلا من خشبك، وكيف يكون ذلك الرجل غير سنديان؟! أما كان معلم صبية ... إذا ضاق عنا صدر الهيكل ضممتنا كما تضم الدجاجة فراخها.
وإذا أطلت أمنا الأخرى القاسية، تلذعنا أسواط أشعتها، تخبأنا تحت أذيالك. ما أحلى القمر يغمزنا من بين ثناياك كالأخ الأصغر!
يا جبارة بلا مجن، يا فارسا جواده الجبل، وسرجه الجلاميد، ما أصبرك على الحر والقر! إن من أبدعك لا يضيع أجر الصابرين.
يا طويلة العمر، هاتي قصي علينا حديث جهابذتنا، لقد طال صمتك يا حبيبة القلب! أجولييت ما هذا السكوت ...
دمع جرى فقضى في الربع ما وجبا، أقسم بك لا بغيرك إن دمعتي تفر كلما تذكرتك. لعلي أبكي على الصبا المولي، وإن كان المولي ما له صاحب ... •••
إن جذورك تقتات من رفاتنا، فأي الأعماق تبلغ يا أم المعرفة.
تعدين الأجيال كما نعد السنين، وورقك النخاس يثير همة الأيدي المخشوشنة، وجذعك المشقق القشور كوجوه مشايخنا المجعدة، كلاكما صابر يضحك من الظواهر الجوية، فكلما ازدادت اهتياجا ازداد استهزاء، متسمدا من رجائه حياة.
إن عند العواصف علم ما لا يعرفه النسيم. في صوتها الجهوري رعب دونه حلاوة صوت النسيم الرخيم. شاهدك «رنان» فقال لجدي: عندكم سنديانة شاعرنا لامرتين. فهز كتفيه؛ لأنه لم يكن يعدل بمار أفرام وأبي العتاهية أحدا من شعراء العالم.
لقد أدرك ذاك الجد شيئا من عزك، وترنم بشعر «الملافنة» حول جذعك، وعلم بني ضيعتك الشعر السرياني، وما ينبغي لإقامة صلاة البيعة، والنثر العربي لعمل الدنيار حوائجها.
أما شبعت صلاة يا ستي! كم جيلا طويت من رجال الهيكل المترنمين، الذاكرين الله هازجين.
استظلوا بظلك أحياء، وناموا تحت جناحك على رجاء القيامة.
ترى بماذا كنت تفكرين؟ حين كانوا يتمتمون صلاتهم متمشين تحت ظلك: قاديشات الوهو إلخ، أي قدوس الله، قدوس القوي، قدوس الذي لا يموت.
هل كنت تحسبين أنك قوية فغرتك عينك، وحلمت بالألوهية كبعض الناس! هل ظننت يوما أنك لا تشيخين؟!
رأت أوائلنا شبابك الغض، وأبصرت جدودنا اكتهالك المجتمع الأشد، ورأى الآباء ورأيت أنا طلائع شيخوختك، وسترى أحفاد الأحفاد هرمك، والله يعلم من الذي يشهد احتضارك.
إنه لبعيد، أيتها الجبارة التي لا تريد أن تموت.
أيها البرج المعلقة على جدرانه مجنات جبابرة الذكريات. ما أجل شيخوختك، وأروع وقارك!
هاتي الحديث، أعندك خبر هذا الهيكل الذي دكه الزلزال؟ لم يبق منه غير بضع حجارة ضخمة، فبقيتما كلاكما تتناظران ضاحكين من خفة عقل الطبيعة.
أيرن في آذان جذوعك ما يرن في أذني من ذكريات الماضي؟ ترى ماذا تقولين لها إذا خطرت على بالك ...
هل تذكرين فتوة أوائلنا؟ أما كركرت في الضحك حين رأيت بنيك يشيخون في التسعين وأنت يا أم التسعينات لم ينحن رأسك ولم تحدودبي ...
كم تسار وتناجى أبناء القرية وبناتها في ظلك، فلم تفشي لهم سرا! كم استعادوا بظلك من ضوء القمر الفضاح، فكنت أبر من أم تستر على بنيها، وإن آلمها سلوكهم!
أيتها الناسكة الأزلية، يا بنت الغابة، كيف عشت وحيدة كل هذا العمر؟
يا طويلة العمر، السلام عليك.
يا ناسكة الدهر، أحسن الله جزاءك والأجر! (2) مدرسة «تحت السنديانة»
مديرسة ضاهت الجامعات بمن خرجت. لم أقل بمن أخرجت لأنها قائمة في العراء، ولا باب لها فيخرج منه. فحد الهيكل، في ظل السنديانة، كنا نقعد نتعلم. وإذا ما انهل المطر هرولنا إلى صحن الكنيسة، نقيم الدروس فيها إذا خلا «بيت الجسد» من القربان. أما إذا كان القربان «مصمودا»، وكم كنا نتمنى ذلك، فنكر إلى بيوتنا راكضين، كما تكر إلى أوطانها البقر ... وتسقط عنا كلفة المشي على الدرب مكتفين. كان يأمرنا المعلم ألا نلتفت يمينا وشمالا، فنسير وكأن كل واحد منا حصان عربة مكدون. علينا أن نمسي ونصبح كل من نراه على رمية حجر، ليقال إنا «تلاميذ مدرسة». أما تحية الظهر فكانت: المجد لله. وجوابها: دائما لله. وكثيرون كانوا يختزلون الرد فيكون «دائما» فقط ... ليستطيعوا رد سهامنا المتلاحقة، أما بوس يد الأب والأم والخال والعم، وكل نسيب حتى الدرجة الخامسة فكان من أقدس الواجبات ...
وأما مقاعدنا فكانت فروة شتاء، وعلى الأرض أو الحجارة صيفا، وللمعلم كرسي الكنيسة الدهري، وهو من خشب التوت المعمر، كان المعلم يجعل تلاميذه خطا مستقيما، حسب مرتبتهم العلمية، لكيما يصحح المتقدم خطأ المتأخر، ولا يعود إلى المعلم إلا كبش الكتيبة ...
وقبل أن نصف المدرسة وطلابها علينا أن نعرفك بالمعلم سيدها الجبار المسيطر، السحنة معروفة، فلا نستطيع تحديد الشخصية وتصويرها لأننا لا نتكلم عن واحد بعينه. فالمعلم يكون غالبا من أصحاب السمت، لباسه غنباز قاتم اللون، يشد وسطه بزنار يختلف عن الغنباز لونا، ولكنه يظل أميل إلى السواد محافظة على الأبهة والوقار. وإذا لم يكن المعلم ملتحيا فهو لا يحلق ذقنه إلا نادرا. عليه أن يظل معبسا ليدب الرعب في قلوب تلاميذه، فيحول تجهمه دون شيطنتهم. وكان يزيد في أبهته تلك، ذلك الطربوش المدور الأحمر - المغربي - الملفوفة عليه شملة سوداء من الحرير الخالص، ذات خطوط متواضعة اللون. أما «شرابة» طربوشه فحريرية زرقاء، خيطانها أنعم من صوف الهررة، وكثيرا ما كان يقترض منها الليقة لدواته النحاسية المشكوكة في زناره، تلك كانت سمة «المعلم» ولعل شرابة قبعة الجامعيين اليوم مأخوذة من هاتيك «الشرابة» ... ولا فرق بينهما إلا أن شرابة هؤلاء من قدام، وشرابة جامعة تحت السنديانة كانت من خلف.
كان بعض المعلمين يختنون تلك الشرابة، ومنهم من كان يجور عليها فيستأصل دابرها ... ولا يبقى إلا تلك الهناة التي تعلق بها، فتنتصب فوق قلة رأسه كأنها أصبع يشير إلى السماء موحدا المعلم ... الله أكبر.
يجلس على عرش غضبه، ومن حوله قضبان رمان، إذا مات منها سيد قام سيد ... فالرمانة حد الكنيسة، والسعيد منا من كان يكلفه المعلم قطع القضبان منها، متى استهلك ما عنده. أما «الفلق»، وهو شر ما خلق، فلا يلجأ إليه إلا في الجنايات الكبرى. أما الخيانة العظمى فتكون حين نضحك من المعلم إذا كان معوها، وكثيرا ما يكون ذا عاهة. كنا نصطف خطا مستقيما حد حيط الكنيسة، كما مر: في اليمين المدل، وفي اليسرى ورقة الألفباء، أو الأبجد، أو القدوس، مكتوبة بخط يد المعلم الطاهرة، مشكوكة بعود مفروض، له مسند تنكئ الورقة عليه. أما حملة الكتب، أي المتقدمون في الإخوة، فهؤلاء يقرأون بلا مدل؛ لأنهم «لقطوا» الحرف، ويقرءون كرجا.
يبدأ الدرس دائما بالصلاة، وإن كنا خرجنا إليه من القداس توا، ثم علينا أن نقرأ جميعا بحرارة، ومن كان صوته جهوريا أكثر كان أشدنا اجتهادا. ما على المعلم إلا أن يراقب أفواهنا ليرى إذا كان فينا من لا يقرأ، بينما نحن نرميه بطرفنا مزورين، وإذا ضحك أحدنا، ولو في عبه، جاءه قضيب الرمان يخط في بدنه الرخص أثلاما ...
ذاك كان أول واجبات معلمنا، فهو يعرف الكلمة المأثورة: من ضحكك بكاك، ومن بكاك ضحكك. فكثيرا ما كان يحدثنا بنعمة قضيب العز، مرصعا خطبته التربوية بقول ابن سيراخ - كما يزعم: من أحب ابنه فليهيئ له القضبان حزما حزما، وإذا تجاسر ولد وأفلت من براثنه ساعة التأديب؛ أرسلنا جميعا خلفه لنعود به إليه محمولا على الأكتاف والأعناق، كأنه أحد زعماء هذا الزمان ... وهذا ما كان يطلق عليه اسم «الزياح».
أما القصاص فكان يختلف باختلاف الجرائم، فمن ضرب بالقضيب أو المخفقة - الطبشة - على بطن الراحة، أو على رءوس الأنامل مجموعة ... إلى الركوع على الحصى. وكما أن آخر الدواء الكي كذلك كان آخر القصاص «الفلق».
وهناك قصاص أمر، وهو تزيين صدر المقصر بورقة مكتوب عليها «حمار الصف». وإذا قصر أحد، عند الامتحان، في قراءة كلمة أمر المعلم من فوقه أن يضربه كفا، أو يفرك أذنه إلخ.
أما ما كان يتقاضاه المعلم - عدا المرتب الذي يتناوله من الوقف - فهو «سمحة نفس»: بضعة أرغفة من الخبز، وبضع بيضات ... إلى آخر ما هنالك، مما تجود به عليه الأم الحنون ليرأف بابنها العزيز، ويشمله بالنظر السامي، فكأن كل الأمهات كن يعرفن قول الشاعر:
إن المعلم والطبيب كليهما
لا يخلصان النصح ما لم يكرما
وكانوا يعزمون عليه متى كان عند ذوي الطالب أكلة طيبة فيأكل هنيئا مريئا ... كثيرا ما كانت تلبينا «أوركسترا» العصافير الدورية حين تعزف، فيكشها المعلم إما مصفقا وأما مطبطبا، ثم يعدو إذا لم تطر، فنضحك حين ينفجر ثغر غنبازه، ويبدو سرواله الأزرق المفتوق، فيظن ذلك استحسانا، ثم يتهالك على كرسيه بعد أن أدى واجبه، وعند الفطور كان يهيب بنا: يا الله، «هوشة الترويقة». فيعلو صياحنا ويشتد، فيقصر لنا الوقت بقدر عياطنا ... وكذلك كان يفعل عند بعثة الغذاء. أما «الهوشة الكبرى» فتكون عند إخلاء السبيل قرب الدغيشة.
بقي أمر خطير لم أخبرك عنه، إلا وهو الخروج لقضاء الحاجة ... كان علينا أن نستأذن قائلين: دستور يا معلمي. فيتناول جلالته - قبل إعلان الدستور - صولجان الرمان، ثم يقول: افتح يدك. ويضرب السائل إما قضيبا أو قضيبين قائلا: إن تعوقت «تأكلها» ... قهقهنا مرة جميعا، فطار إلينا بجناحي غنبازه المهيضين، فعثر بهما ووقع، فكركرنا في الضحك، فانشق من الغيظ وسقانا كأس قضيبه دورين.
وكان بعض الكسالى يطيلون الإقامة في ذلك الموضع ... عندما يمنحون «الدستور»؛ فلكي يستعجلهم كان يبزق على حجر، والموعد قبل أن تجف تلك البصقة، والويل لمن لا يسبقها. أما الجبناء من التلاميذ، فكانوا «يقضونها» في ثيابهم، ولا يجرءون على طلب «الدستور» فيمسي شغل أمهم الشاغل إعداد الثياب وشراء الصابون.
يا ليتك رأيت التلميذ ماثلا أمام المعلم، فاتحا يده ليسلم عليه القضيب سلام الأحباب. التلميذ يقدمها ويؤخرها، وجوارحه تنضح خوفا وذعرا، والمعلم يتهيأ؛ كيلا يخطئ الهدف. التلميذ يتوجع ويبكي سلفا، مادا يده نصف مد، والمعلم يكز ويصرخ: افتح يدك!
أما الرفاق فيتفرجون، حتى إذا ما انتهت تلك المعركة عادت مياه المدرسة إلى مجاريها، وقال المعلم بعد النصر المبين: العصا علمت الدب يرقص، ادرسوا يا أولادي.
هذا حديث عام، أما حديث عبدك الحقير فهو هذا: أرسلت إلى مدرسة تحت السنديانة ابن خمس، فكنت ذنب الصف طبعا. قعدت أول يوم ولا شغل لي إلا كش الذبان، وتأمل رفاقي، وسؤال الله أن يفك أسري. ومر اليوم الثاني كالأول، وكذلك راح الثالث ... رآني ابن عمي على تلك الحال فضحك، أما أنا فأجهشت، وقلت بانكسار: يا فارس ابن عمي. قل لأمي، مارون «بدو» ياكل.
وبلغ الخبر الوالدة فصاحت: تقبر المدارس ... يا جرستنا، يه، يه، يه!
وصبر جدي الخوري علي أياما، ولما رآني مصرا بعناد على البقاء حيث أنا؛ أي ذنب الصف، لم يرض بها حالة؛ أيكون حفيده في هذا التأخر المخزي! جرب أولاده، ولم يوفق إلى من يخلفه، وها إن بوارق إخفاق تلوح في جو الخيبة من جديد فما عساه يعمل؟ - قم يا مارون احمل ورقتك والحقني.
فقال المعلم: لأ يا جدي الخوري، اصبر علينا.
فأجاب جدي، وهو ممتعض: آخذه جمعة وأرده. اتركني.
وقعد جدي على المصطبة، وقرفصت أنا أمامه، فشرع يعلمني الألف باء، فضحك والدي وقال لأبيه: الصبي راضع حليب بقر ... لا تتعب قلبك.
وقرصت تلك الكلمة والدتي - لأنها لم تكن التي يقال لها: لله درها - فاستعبرت. أما جدي فهز لوالدي العوجا - اسم عصاه الموسوية - وقال له: أنتم ما تعلم أحد منكم، اترك الصبي يتعلم!
وما أصبحنا وأمسينا حتى كنت تعلمت: الألف والأبجد والقدوس. فتهلل جدي للفتح الجليل ... فجاء بالمزامير، وشرع يعلمني «الطوبى» و«لماذا». وبعد جمعة صرت في المزمور الثامن: «أيها الرب، ربنا ما أعجب اسمك في كل الأرض»، فشكر جدي الله، وأخذ بيدي كما يأخذ الراعي بأذن شاته، وما بلغنا سنديانة الكنيسة حتى دفعني دفعا فوقعت في حضن المعلم، فقال له جدي: افحصه. ولما رآني جدي، عند الامتحان، كما يعهد قال للأولاد: وسعوا له.
فأجاب المعلم طنوس: لا توسيع يا جدي، محله فوق ...
وشاء الوالد أن يختبرني في إحدى الأمسيات فقعد على عتبة «برطاش» الباب، وأقعدني أمامه، وقال: أين صرت؟ ففتحت مزاميري، وقلت: هنا، في المزمور التاسع عشر. فقال: اقرأ. فقرأت: يا رب بقوتك. قرأت «بقوتك» كأنها كلمتان، فاستضحك الوالد، وقال: قم عني. المزامير ما فيه تكوك
2
فخجلت، ونمت تلك الليلة حزينا، وأظنني لم أتعش.
وانتهت القراءة العربية وجاء دور السريانية، فكان التنافس بين الآباء. كان جدي يعلمني السريانية في الليل، ويعاونه علي والدي وعماي، حتى حسبتني «خروف مور» يعلف للمرافع ... وهكذا ظللت محافظا على الأولية الضارية، وطابت نفس جدي.
وكنا نلحن ذات مساء أحد ميامر مار أفرام، فقال جدي: ستكون أنا على «الخورس» ولا ينقصك إلا صوتي. غير أن ذلك الحلم لم يصح ...
ثم انتقلنا إلى الفرنسية، وكان المرحوم لا يعرفها، فخاف علي، ولكنه اطمأن حين درى أنها ليست في حساب الأولية. كنت أنا أكرهها؛ لأني كنت أتعلمها وحدي دون أولاد القرية، ولكن الله - سبحانه وتعالى - فك تلك العقدة، وقع خلاف في الضيعة، فأخذ أحدهم كتبنا خلسة ورماها في بئر الكنيسة، ولم يدع منها غير كتبي الإفرنسية: الغراماطيق وديالوغ حرفوش. فأخفيتهما أنا خلف المذبح الصغير، واسترحت منهما حينا ...
وصرت الاختصاصي في خدمة القداس، فكنت أزهو حين تعجب الناس قراءتي «الرسائل» و«السنكسار»، وترتيل «الفراميات»، ثم صرت أنافس الكهنة على «القراية» حتى في صلاة الحاش - جمعة الآلام - وأخيرا صرت أجاحش في كل ميدان ...
وهاجر المعلم طنوس، فحل محله غيره، ثم مات هذا فكان موته عيدا كبيرا عندنا. وفتشوا عن آخر، فما اتفقت كلمتهم على واحد؛ لأنهم كانوا حزبين، فكان ذلك عيدا أكبر.
وظلت الضيعة بلا معلم، فقال جدي لوالدي: رح دبر مدرسة للصبي. وانتقلت من مدرسة تحت السنديانة إلى مدرسة حولها سنديانات، ومنها إلى مدرسة في غابة من هذا الشجر المبارك - مار يوحنا مارون، ثم كانت خاتمة المطاف في مدرسة الحكمة.
ما صعب علي شيء في مدرسة غير بري القلم، ومع ذلك قلت في وصفه حين نظمت الشعر: تعلم بطش الأسد في ضفة النهر.
هذه الصورة من صور مدرسة تحت السنديانة، التي يتحدثون عنها في لبنان، وغير لبنان، حتى أن آنسة في باريس كتبت إلى صديقي الأستاذ جبور عبد النور تسأله أن أصفها لها؛ لأنها تحتاج إليها في أطروحة الدكتوراه، فما فعلت إلا الآن، وإن كنت لم أتعد جهد المقل ولقطة العجلان.
أليس كلامنا في كتابنا هذا عن «رواد النهضة»؟ وهل هؤلاء الرواد غير تلاميذ مثل هذه المدرسة؟ إذن لا بأس علينا إن تكلمنا عن السنديانة ومدرستها، قبل أن نتكلم عن خريجيها، وخريجي أمثالها من ذوي الآثار الجليلة. (3) بين الكهف والدار «نسخ وطبع، ترجمة وتأليف»
في أعماق الديورة، وجوار الجوامع بقي للعلم قبس كنار المجوس الدائمة. أجل، في ثنايا كهوف الجبل كانت تذكى تلك النار بالقلمين: العربي والكرشوني، فظل الكهف، في زمن الرعب، مستودعا للمعرفة، ومعجنا لخميرة العلم، فتخت وفاضت على حفافيه. ففي غرفة ذات ثلاثة أذرع عرضا، في أربعة طولا، كان يحتبي راهب يابس من الصوم أو يقرفص، أمامه مصباح من الزيت، بلا زجاجة، يرسم نوره المترجرج خيالات وأشباحا كأنه الفانوس السحري، يحنو على كتابه حنو المرضعات على الفطيم، يقرأ بإمعان ريثما تستريح أنامله، ويزول خدر رجله، ثم يعود إلى عمله بعدما يتبسط جلده وتمحي الأثلام التي شقها فيه قش الحصير.
أما الدواة النحاسية ذات الأنبوب الطويل فهي أمامه على «سكملة» والمرملة حدها، يتكئ قلم «الغزار» على صدرها كما ينام الطفل على عنق أمه. إن له في أحشاء الدواة إخوة يحلون محله متى كل، والسكين مشحوذة دائما لقط رأسه، أو بري سواه. وعن يمين الناسخ - كاهنا كان أو شدياقا - لوحة مشبوحة بالخيوط شبحا متناسقا مستقيما، يصلب الناسخ عليها الورق لتستقيم له السطور.
ذاك كان عمل رجال الدين من كل ملة، وخصوصا رهبان لبنان المنزوين المنقطعين في أشداق الجبال وحناجرها، لا عمل للقارئ الكاتب منهم غير التعليم ونسخ الكتب، أو ترميم ما رث منها، كما قال جرير في وصف قبر أم حزرة:
وكأن منزلة لها بجلاجل
وحي الزبور تجده الأحبار
أو كقول ابن أبي ربيعة:
لمن دمن بخيف منى قفور
كأن عراص مغناها الزبور
أجل إن الزبور كان أكبر حظا من غيره عند النساخ، ثم كان أول ما طبع، وسبب ذلك تلك الشاعرية والصوفية التي كانت تستأثر بهوى نفوس الناس يوم لم يكن للمادة هذا الطغيان، ويوم كان الناس يؤمنون، ويخشون الخطيئة فيتشبهون بصاحب الزبور خاطئا، ويستغيثون بمزاميره تائبا، إن الله لتواب رحيم.
أما الأميون من هؤلاء النساك فكانوا للحراثة، والحياكة، والسكافة، والنجارة، وكل ما يقتضيه أسلوب حياتهم، وهكذا حفظوا العلم من الضياع قبل أن انبرت له المطبعة. فمن قلم الغزار، إلى المطبعة الخشبية، فالحجرية، فالرصاصية الحديثة السريعة الخطى، كل هذه المواكب الثقافية أزجاها - أولا - الدين ورجاله. فجل هؤلاء بل كلهم قد نشروا العلم إحياء للدين، ولكن العلم كان عقوقا فصح فيه القول: اتق شر من أحسنت إليه.
أما تاريخ المطبعة فقديم العهد عندنا. استهلت أول مطبعة في المشرق سنة 1610 أهدتها رومة إلى الرهبانية اللبنانية في دير قزحيا. وما دير قزحيا غير ذلك الكهف الذي أسمع جبال لبنان أول شعر عربي فصيح، بعدما كان يقال زجلا. وما ذاك الشاعر اللبناني الأول، غير الراهب جبريل، الذي صار، فيما بعد، المطران جرمانوس فرحات أول رواد الفصحى، ثم أنشأت هذه الرهبانية مطبعة أخرى في دير طاميش.
وفي حلب الشهباء أنشئت أول مطبعة عربية عام 1698، ثم كانت مطبعة الشوير سنة 1732، ثم مطبعة القديس جاورجيوس سنة 1753، ثم مطبعة بولاق عام 1821.
وعمت المطبعة هذه الربوع وكان أكبرها وأعمها فائدة مطبعة الأمير كان ومطبعة اليسوعيين، والمطبعة الأدبية لخليل سركيس، فطبعت كتب كثيرة ساعدت على نمو النهضة واشتداد ساعدها. وأنشأ الرواد المهاجرون - الشدياق وغيره - المطابع العربية في الأستانة وباريس وغيرهما من عواصم الدنيا؛ فانتشرت لغة الضاد، وذاعت حيث حلت ركاب أبنائها.
وعرف الشرق الصحافة فكانت «حديقة الأخبار» أول جريدة أهلية لا تشوب لغتها تلك الركاكة التي كانت تشوب لغة الجرائد الحكومية «الرسمية»، وولدت بعدها جريدة مرآة الأحوال لرزق الله حسون، ثم جريدة «الجوائب» لأحمد فارس التي استقام معها لسان العرب.
أما المدارس، فأقدمها عين ورقة، التي أنشئت في القرن الثامن عشر، وفيها نشأ كبار الرواد كالشدياق والبستاني والدحداح إلخ. أما أوفرها فضلا على هذه النهضة المباركة - وإن كان الفضل للمتقدم - فالكليتان اليسوعية والأميركية، إنهما منبع التجديد والتطعيم، بعد أولئك المهاجرين الذين سبقوا مولد هذه الكليات في الشرق.
وقد أدى نشوء مثل هذه المدارس الكبرى إلى إنشاء جمعيات أدبية كثيرة، فتعاضدت عناصر عديدة كالتمشرق والتمغرب، فخلقت هذه النهضة الميمونة فكان لنا أدب جديد. ولسنا نعدو الحق إذا قلنا إن كتب الأب لويس شيخو اليسوعي نحلة، والسرياني نبعة، والعربي لسانا، قد كان لها أبيض يد على هذا التوجيه، فهو واضع أول دفتر من روائع الأستاذ فؤاد أفرام البستاني، وعلى أثره تمشى، وشيخو - أيضا - هو واضع مجاني الأدب، أول مجموعة من المختارات الأدبية، على النسق الغربي، مع المحافظة على التبويب العربي. وسيأتي الكلام عن هذا الرجل وآثاره الجليلة النفيسة.
لقد كان التنافس الديني الأجنبي في لبنان من أهم بواعث هذه النهضة الحديثة، وحسبك دليلا عليها تلك الكلمة المأثورة عن فنديك: «رايح أفتح مدرستين.» يعني أنه متى أنشأ مدرسة بروتستانتية ينشئ اليسوعيون مدرسة كاثوليكية، كما أنشئوا البشير قبالة النشرة الأسبوعية، والمطبعة الكاثوليكية بإزاء المطبعة الأميركية. كل هذا كان يجري والمسلمون جامدون، ينظرون إلى هذه المدارس الأجنبية بحذر، وإلى هذا التجديد في التفكير والتعبير بتحفظ، ولكنهم لم يلبثوا أن جروا - أخيرا - في الميدان، مقتدين بالغزالي حين بل يده بقائم سيف المنطق، وانبرى للمعتزلة.
ولا ننسى معرفة اللغات الأجنبية فهي النبع الأغزر الذي روى تربة النهضة فنمت فروعها، ونضرت غصونها. عرف قدماء «الرواد» الطليانية التي خلقت النهضة الأدبية الفرنسية، ولكنهم كانوا منصرفين عن الأدب إلى ما هو ديني، فعربوا ما يتصل بالدين دون غيره، ثم ترجموا إلى اللغات الأجنبية بعض الآثار العربية.
إن معرفة اللغات الأجنبية والتضلع من السريانية كان لهما هذا الأثر الأبعد في تعبير هؤلاء، فجاء مميزا من تعبير أصحاب اللغة الواحدة. كان هؤلاء كما قال النابغة في مدح الغساسنة: عصائب طير تهتدي بعصائب، فما وقفوا عند حد، بل تنافسوا في كل فن ومطلب، ولم يتركوا بابا من أبواب العلم إلا طرقوه. لقد فعلوا كما فعل مشايخنا الخوازنة في زمن الإقطاع، فملئوا كسروان ديورة لمختلف الأمم والنحل. كان إذا وقف شيخ منهم عقارا على رهبان طائفة، وقف شيخ آخر شطرا مما يملك على رهبان طائفة أخرى، وهكذا صارت المقاطعة الكسروانية كعلية صهيون، حين فاجأ البارقليط التلاميذ فيها، فنطقوا بألسن عديدة ...
أما النسخ، وقد كان مدرسة ثانية للناسخين، فلم ينقطع؛ إذ لا يزال عندنا كتب لم تطبع، كالسنكسار - سير القديسين - ففي نسخ هذا الكتاب كان يتبارى النساخ في إضافة عجائب ومعجزات إلى قديسين يحبونهم. خذ مثلا، مار روحانا - شفيع قريتنا - فهذا القديس لا يعرف بهذا الاسم في السنكسار العام، ولكنه لم يعدم من كتب له سنكسارا خاصا، فضمنه من العجائب أبعدها مدى، ومن المعجزات أغربها؛ زعم الناسخ أن قديسنا المكرم أنقذ غلامين من أسد كاد يفترسهما، وجاء المصور - فيما بعد - فرسم نهرا كبيرا بين الغلامين، وصور الأسد مقعيا عبر النهر، ينظر إلى فريستيه بعين محمرة ... فعل المصور ذلك؛ لتستسيغ معد المؤمنين العجيبة، ولكن تعليله لها زاد في الطين بلة. أما كان في مكنة القديس المعظم - وهو صاحب القدرة - أن يكم فم الأسد، مثلا، ولا يصدع خاطره في إجراء نهر لا بد أن يكون كنهر العاصي؛ كيلا يقطعه ذاك الأسد. إذا كان في استطاعة أولياء الله أن يشفوا المريض بوضع اليد، فأية حاجة إلى الدمل الاصطناعي ... ثم شاءت العاصفة، بعد سنين، فحطت الصورة من عل، فصورت ثانية مستعيدة بساطتها.
هذه بعض آفات النسخ، ولا ننس الأخطاء والتحريف والتصحيف. لقد انبرى اليوم للتصحيح والتمحيص علماء مختصون فأصلحوا ما أفسدته يد النساخ، ولكن النسخ - في كل حال - قد كان من عناصر النهضة الحاضرة، شارك في إنمائها مشاركة مثلى؛ فحفظ آثارا كثيرة من الضياع، كما طبع الكثيرين من الرواد على غرار البلغاء الذين كانوا ينسخون كتبهم.
وقصارى القول أن الضعيف المقهور يلجأ إما إلى بيت مهجور، أو إلى كهف، وهذا ما أصاب اللغة العربية في بدء نهضتنا، هربت من وجه طغيان التركية، فآووها في الديورة، فصح فيها مثل جريح أريحا ...
ونحن في الشرق مطبوعون على التشبه وتوارث المهن، ولهذا ترى أن العلم يكاد ينحصر في بيوت وأسر دون سواها. وفي كلمة قالها صروف عن منافسته للشميل: «وكان كل واحد منا يتشبه بابن بلده؛ أي الشدياق واليازجي»؛ أصدق برهان على ما قلت، أما الآن فقد حان أن نعرفك بالرواد «المنقطعين» واحدا فواحدا.
الرواد العتاق
شعراء نساك ومتصوفون
بلا عنوان
لقد احترت في تبويب هذا الكتاب؛ لم أستطع فصل الشعراء عن الكتاب، لأن كل من حمل قلما قال شعرا ... فمن يدريني، بعدما قرأت قصيدة لفرح أنطون قال إنها «بيضة الديك»، أن ليس لكتابنا الآخرين بيوض ديكة، ولكنهم آثروا أن يكنوها، كما كن الحجاج أهل الشام ...
وإني لأخرج من هذا - بعد هذا - مصدقا قول من زعم: أن الأندلسيين جميعا، نساء ورجالا، قالوا الشعر، ومؤيدا قول الآخر: أن الشعر أسبق من النثر في آداب الشعوب. وأخيرا خرجت من ظلمات هذه الحيرة، فأحصيت كل «رائد» حيث وجدته أبعد أثرا، وأخطر شأنا ...
وإني أنذرك - منذ الآن - بألا تنتظر مني ذاك النقد المر الصارم؛ لأن عيوب الأوائل منهم كثيرة.
وإقرارا بفضل هؤلاء أزيد: أن الأدباء كمنارة الشاطئ، فهي تضيء أبدا، ولا يقر جيرانها بفضلها الذي يعرفه القادم من بعيد ... (1) القافلة الأولى (1-1) المطران والخوري
المطران جرمانوس فرحات
هو أول رائد أعجبته خضرة الدمن، وإذا ما تحدثنا عن فجر النهضة الأدبية فلسنا نعني البلاغة العربية، فالعالم العربي لم يخل قط من الفصحاء، بل ممن هم أفصح وأبلغ من أكثر هؤلاء الذين نسميهم الرواد العتاق، فعندما يتكلمون في الأدب عن أثر النصارى في نهضتنا الأدبية فما يعنون ولا نعني نحن إلا هذا العنصر الجديد، الذي أحدثه فيها نصارى الأمس، كما أحدثه من قبل نصارى العصر العباسي، وبخاصة السريان منهم، فأوضح آثار أولئك كان بما نقلوه إلى اللغة العربية، وها إن هؤلاء ينحون نحوهم؛ فأول من ترجم كتابي هوميروس كان من أولئك، وهو تاوفيل بن توما الرهاوي الماروني رأس منجمي الخليفة المهدي، وقد كتب عنه صديقي البحاثة الأديب نور الدين بيهم.
فأولية جرمانوس فرحات - إذن - ليست في شعره؛ فقد كان في زمنه شعراء مسلمون أبلغ منه قولا، وأصح كلاما. ولكن كونه أول شاعر من مستعربي لبنان، قال الشعر معربا بعدما كان زجلا سرياني الوزن أحله هذا المحل. فالشعر ابتدأ في لبنان من حيث انتهى في الأندلس، نشأ في الأندلس شعرا رصينا بليغا؛ ثم صار موشحات، وصارت الموشحات مهلهلات؛ ثم أخذت تنحط رويدا رويدا حتى أمست أزجالا، بل كلاما باردا.
إن لهذا الأسقف المولود في القرن السابع عشر؛ فضل التأليف في النحو؛ فهو أول نصراني ألف فيه، بعدما أخذ هذا العلم عن الشيخ سليمان النحوي المسلم في حلب.
1
وله أيضا فضل أكبر وأعم؛ إذ صحح الترجمة العربية للمزامير والأناجيل، وسائر كتب الموارنة الكنائسية، فعرفت الكنيسة فصاحة العرب، وحب المطران العربية حمله على تعريب الإنجيل مسجوعا، وهذا التعريب محفوظ حتى الآن بمكتبة حلب المارونية.
ولم يقف المطران عند حد التأليف في النحو بل تصدى - قبل كل رجال النهضة الحاضرة - إلى وضع معجم صغير، ولكنه صحيح، سماه: «الإعراب عن لسان الأعراب».
الترجمة:
إن دور النصارى في الأدب العربي كان ينحصر في الترجمة، قبل أن استقام لسانهم العربي، ففي النهضة العباسية كانوا تراجمة الخلفاء، فنقلوا لهم كتب القوم، وها إن التاريخ يعيد نفسه في فجر هذه النهضة. فها هو هذا المطران يؤلف في حلب «مجمعا علميا» يعنى أعضاؤه بالترجمة، ومن هنا جاء التجديد. فهم لم يتفوقوا بالكلام العربي الذي لا غبار عليه، بل بما ترجموه من كتب وغيرها. كانت هذه الترجمة أولا دينية، ولما صدرت كتب الشدياق و«جوائبه» أصبحت أدبية وسياسية، ثم أضحت في «جنان» و«دائرة معارف» المعلم بطرس البستاني تاريخية وقصصية وعلمية، ولما أنشأ صروف المقتطف صارت علمية صرفا؛ فكانت مجلته ولا تزال سجلا للاكتشافات الحديثة والمذاهب العلمية، وهكذا مشت الترجمة في مدارج زمن النهضة الأدبية، حتى بلغت اليوم ما بلغت مع أدباء وقتنا الحاضر.
إن سير الأمور قلما يختلف، فلو لم نترجم فلسفة اليونان إلى العربية لم يكن للعرب فلاسفة كالفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن رشد، الذين استعان علماء الغرب بكتبهم على تفسير كتب أرسطو، وتفهم معانيها.
2
إن هذا الأسقف كان المترجم والمصحح لما يترجم. شغفته اللغة العربية وكل ما يتصل بها؛ فخاطر بنفسه وأم الأندلس، راكبا البحر، يوم كان المركب لا يزال لبنانيا؛ ليمتع نظره بآثار العرب الخالدة فيها، ويقرأ في مكتباتها ما لا تقع عينه عليه في الأقطار العربية.
كتبه:
له - عظم الله أجره - مائة وأربعة كتب، بين مؤلف ومعرب ومصحح ومختصر. بعضها أدبي ولغوي وشعري؛ وأكثرها ديني على هوى ذلك الزمان. فهو واضع أول حجر في صرح النهضة في لبنان.
نعم قد سبقه مترجمون آخرون في القرون الوسطى، ولكن تعبيرهم كان ركيكا جدا، وهذا ما حمل أحمد فارس الشدياق، حين آلت إليه زعامة النهضة، على التهكم بلغة رجال الدين، والتنادر عليهم في فارياقه، ولم يحترم منهم أحدا غير هذا الحبر فقط.
الشاعر:
كان هذا العلامة يعرف أربع لغات على حقها: العربية، والسريانية، والطليانية، واللاتينية، فهو في تفكيره متأثر بما عرف، وقد استغل هذا في شعره حين قال:
أحاول في عمري من الدهر راحة
وهل تطلبن العقل والظرف من زنجي
فأصبح دهري عاجزا عن سعادتي
كأني حرف الحلق والدهر إفرنجي
وتضلعه من العربية حمله على نظم «المثلثات الدرية»، فقال قصيدة طويلة من طراز مثلثات قطرب ... وهاك هذين البيتين منها:
طوباك يا رامي السلام
وقيت من رمي السلام
احفظ يمينك والسلام
من حر نار الغضب
وجد يوم السبت
وشد نعل السبت
وكل حشيش السبت
تقشفا للذهب
أما أغراض شعره الأخرى، ففي مدحه تعالى، والسيد المسيح، وأمه، والرسل، والرهبانية، وغير ذلك، فكأنه صوفي من طراز آخر حين يقول:
الله الله أنت الفوز والوطر
في العاشقين وأنت الفوز والوطر
هويتكم والهوى مني على صغر
يا حبذا واله قد زانه الصغر
الذكر صورتكم، والقلب مركزه
والحب دائرة شعاعها الفكر
كان وجهك مغناطيس أنفسنا
فحيثما درت دارت نحوه الصور
خسرت في عشقكم دمعي وأسعدني
يا ربح قوم بكم بالربح قد خسروا
أروم رؤيتكم، والدمع يمنعني
إذا تزاحم عندي الدمع والنظر
أما في مريم، حبيبة الموارنة التي لا تخلو قرية من قراهم من كنيسة على اسمها، فيقول قصيدة غراء هذا مطلعها:
لو كان للأفلاك نطق أو فم
لترنمت بمديحك يا مريم
ويقول في مكان آخر:
سموت يا بتولة في العذارى
على كل الأنام على وفقت
خلقت درة لا عيب فيها
كأنك مثلما شئت خلقت
وعندما انتدب رئيسا عاما على الرهبان وصف أعباء الرئاسة في قصيدة قال منها:
أرى أحدا بل طور سينا ويذبلا
أدق وأخفى بل أخف ثبيرها
إن أثر التقليد باد في شعر الرائد الأول، وإلا فما شأن ثبير، بل ما شأن طور سينا وأحد في جنب الجبل القاعد في أحشائه هذا الشاعر؟ والتقليد أيضا هو الذي حمل المطران على شن غارات عديدة على الأولين، ففي قصيدته «اللبنانية» وقد مرت أبيات متقطعة منها، يقول في الله:
إن تهجروني أجد في وصلكم طمعا
كالشمس ترجى وجنح الليل معتكر
فهذا المعنى أخذه أبو تمام عن مخنث، وها هو «سيدنا» يأخذه عن آخذه، ثم لا يتورع سيادته عن أن يقول مثل الصوفيين المتطرفين فيخاطب الله بلهجتهم:
كن في حيا، وإني فيك أنت أنا
كالشمس ليس لها في برجها كدر
أما توبيخ الرهبان ووعظهم وإرشادهم فشائع في ديوانه الضخم، وهو لا يحرم اليهود من التقريع فيقول:
دع اليهود فلا ينفك مكرهم
يبدي لدينا دخان الكفر والكذب
ولا عجب في هذا فسب هؤلاء لا يزال قائما عند الموارنة على المذابح منذ خمسة عشر جيلا، وخصوصا في سبة الآلام.
وللشاعر هذان البيتان الطريفان، وقد حاول فيهما القول بالموجب:
قال الحبيب: رغبت، قلت: عن السوى
وعشقت، قلت: جمال وجهك في الورى
وسلوت، قلت: رغيد عيشي والهنا
وهجرت، قلت: لذيذ غمضي والكرى
وله إلى جانبهما بيتان رائعان يصور فيهما حرب «التجربة»:
إني بليت بأربع لم يخلقوا
إلا لشدة بلوتي وعنائي
إبليس، والدنيا، ونفسي، والهوى
كيف الخلاص وكلهم أعدائي!
أما ما لي على ديوانه من مآخذ فكثير، فالمطران يسكن، ويحرك، ويخفف، ويشدد، ويقصر ويمد، على هواه، ويشبع ويختلس ولا يبالي، ولكن شارح ديوانه، معلمنا الشيخ سعيد الشرتوني، مستعد دائما لتبرئة ذمة الشاعر كما فعل عند بيته هذا:
إن كنت تجهل مربعي فاعشو إلى
نار تشب بزفرة الصعداء
قال شيخي رحمة الله: وأثبت الواو في «اعشو» للوزن على حد قول الشاعر:
وتضحك مني شيخة عبشمية
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
أما الأخطاء اللغوية والجوازات فكثيرة لا تعد، وما إعجابنا به - في شعره فقط - إلا كإعجابنا بالأطفال الحديثي العهد بالنطق، أما ميله القوي إلى التسكين فأظن أنه جاءه من السريانية. وإذا ما غفرنا له كل هذه الهفوات فما هذا بكثير منا؛ فهو أول شاعر من ملة قيلت لأجلها هذه الكلمة: أبت العربية أن تتنصر. ولكن شاعرنا الأول نصرها، وجعلها سيدة في الكنيسة، أجلسها عن يمين مذبح البخور، فحلت محل السريانية التي أجهز عليها سيادته، كما قلت في «صقر لبنان».
الخوري نيقولاوس الصائغ
عندما كنا طلابا في المدارس، وكلها إكليريكية، أو يرأسها إكليريكي، كنا نقول: ديوان المطران، وديوان الخوري. أما الخوري؛ فهو نيقولاوس الصائغ تلميذ المطران جرمانوس، ومن قافلة رواد النهضة الأولى. فذاك المطران وهذا الخوري، هما شنفرى نهضتنا ومهلهلها. ولا بأس علينا إذا عرفنا القارئ بالرواد الذين قادهم فرحات، وهم: الفيلسوف التولاوي، وميخائيل حكيم، وعبد الله زاخر، أبو الحرف المطبعي العربي، وعبد الله قرألي، ونعمة بن الخوري توما، ومكرديج الكسيح، وأصغرهم وآخرهم في مقياس الزمن الخوري نيقولاوس الصائغ. وكل هؤلاء كهنة وشمامسة وأساقفة وبطاركة، وهذا ما دفع أستاذي خير الله خير الله إلى الإشادة بفضل الإكليروس الأدبي، في كتابه «سوريا».
ليس للخوري نيقولاوس الصائغ ما لفرحات من آثار، فأشهر ما ترك ديوانه. أصلح الشيخ إبراهيم اليازجي كثيرا من عيوبه، حين وقف عليه، ومع ذلك لا يزال لنا فيه مرتع خصب، ولكننا لا نعنى بهذا، فما قيل في «ديوان المطران» يصح أن يقال في «ديوان الخوري»، وحسب التلميذ أن يكون مثل معلمه الذي قال في رثائه:
إمامي وذخري، بل غنائي ومغنمي
غنمت به غنما تجل غنائمه
وإن يكفر الإحسان من ليس شاكرا
فأشبه بالكفران من هو كاتمه
حلبت به وسع الإناء معارفا
يلازمني جنح الدجى وألازمه
تغلب في ديوان الخوري قصائد المديح والرثاء والتهاني والتواريخ، فهو أكثر تقليدا في أغراضه من معلمه المطران. نظم بديعية على طراز بديعية الحموي، ومن وزنها وقافيتها، أما الموضوع فمتقارب؛ بديعية الحموي في مدح النبي الكريم
صلى الله عليه وسلم
وبديعية الخوري في مدح السيد المسيح - له المجد - وحوارييه سلام الله على اسمهم، ولعله نحا في بديعيته نحو أستاذه حين ألف بحث المطالب. هذاك جعل الكثير من أمثلة كتابه آيات إنجيلية مضارعا في ذلك ألفية ابن مالك، وشارحها ابن عقيل. وهذا عارض الحموي جاعلا موضوعه مدح سيده ورسله.
أما ما أعجبني من مواضيع المطران والخوري فهو وضعهم النقاط على الحروف، وتأنيبهم وتوبيخهم الإكليريكيين؛ علمانيين وقانونيين، وهاك شيئا من قصيدة هي أولى قصائد ديوان الخوري قالها في بعض هؤلاء:
كثر العثار بعثرة الرؤساء
وغوى الصغار بغرة الكبراء
لما رأيت الرأس وهو مهشم
أيقنت منه تهشم الأعضاء
وإذا الطبيب تضاعفت أسقامه
أنى ينال أولو الضنا بشفاء
أما الروح الدينية فشائعة في ديوانه كما تشيع في ديوان فرحات، ولا بدع فكلاهما راهب يترجى أن يكون له مكان يسند إليه رأسه في ملكوت الله، ولهذا نراه يعمل بقول القديس بولس: عظ ووبخ بكل سلطان ولا يستهن بك أحد.
وللخوري في آخر ديوانه رسالة تأنق فيها، كتبها نثرا وشعرا مجيبا بها الشماس مكرديج الكسيح أحد أفراد هذه القافلة، ونحا في أسلوبها نحو المتصنعين فملأها تشابيه واستعارات وكنايات وأفكارا تدل على معارف ذاك الزمان وثقافته؛ فمن أمثلة الصنعة فيها قوله: «وصار عقلي تابعا لمعناها «كالأربع التوابع»، والعقل غدا «مرتفعا» نحو «عامل معنوي» حسنها «رفع المبتدأ»، وليس عجبا أن يرفع التجرد والابتداء.» ثم يقول: «ومع ذلك فالفكر أبدته «بالاشتغال»، والجسم أذبته بالاشتعال.» ولعل الخوري نهج في هذا نهج معلمه المطران الذي قال قبله:
خذ حبهم «يا ضمير الرفع» ملتزما «فعلا ووصلا» فلا يخلو ولو هجروا
كأنني «الفعل» والمحبوب «فاعله»
سيان «متصل» فيه «ومستتر»
وفي آخر هذا الديوان أحجيات كثيرة، أنقل لك واحدة منها، قال محاجيا في لفظة «رحبعام»:
يا راقدا في علمه
نبه سناك من السنه
ماذا اسم ملك مثله «سعة » تضاف إلى «سنه»
فسعة بمعنى رحب، وسنة بمعنى عام، فتفهم إن كنت لبيبا، وكفى الله الناس مئونة الكلام ...
والخوري أشد ميلا إلى صناعة البديع من معلمه الذي كان يقول الشعر عفو الطبع. وها هو قرن «التاريخ» الشعري يذر في ديوان الخوري، فنقرأ فيه تواريخ للموت والولادة، والكنائس والدور، والخانات والسبل «الينابيع»، ثم يتعاظم شأن «التاريخ» في القرن التاسع عشر حتى يمسي معجزا ومضحكا في وقت معا، كما سترى. إنا نسأل لهذين الرائدين الجزاء بالمد، فقد غفرت لهما، كالمجدلية، خطاياهما الكثيرة؛ لأنهما أحبا لغة الضاد كثيرا. (1-2) النابلسي والحر والنحلاوي
قلنا إنه كان في لبنان والأقطار العربية شعراء، قبل فرحات وفي عهده، فإقطاعيو لبنان - وقد كانوا عربا خلصا - قالوا الشعر، كما قاله الخاضعون لسلطتهم مديحا فيهم، ولكنه كان من طراز شعر القافلة الأولى، وبعضه ضعيف التركيب جدا.
أما أصح معاصري فرحات كلاما فكان القطب الصوفي الشيخ عبد الغني النابلسي، وهاك شيئا من شعره الصوفي المتطرف الذي قاله في ذاته:
وعلمي ليس يدركه
سوى من لم يزل مثلي
وعلم الجفر من علمي
وموسى رشحة البل
وإني هدهد الأخبار
للقوم الأولى قبلي
وإني لست مخلوقا
ولا شربي ولا أكلي
ولا إني أنا الخلاق
ذو صنع وذو فعل
ولا من أبناء الله
إني، أو من الرسل
وإني ما أنا عيسى
ولا المهدي إلى السبل
أنا بي حارت الأفهام
ما يدرون من أصلي
أنا الشامي، أنا الهندي
أنا الرومي، أنا الصقلي
أنا المعروف في الدنيا
وفي الأخرى بذي الفضل
وإني لست إنسانا
ولا من ذلك النسل
وما عبد الغني اسمي
وهذا مقتضى شكلي
فيا من رام في الدنيا
يراني طالبا وصلي
تجرد وانتزح واخرج
عن الأكوان بالعقل
وكن خمرا بلا كأس
وكن شمسا بلا ظل
وسد الباب عن غيري
وعالج وافتتح قفلي
فرد عليه معاصره الشيخ إبراهيم الحر الصوري فقال:
رويدا يا أخا الفضل
مزجت الشهد بالخل
أذعت السر يا هذا
شريت الجور بالعدل
فتحت القفل يا شامي
فقدت العلم بالجهل
أيا عبد الغني مهلا
فليس القول كالفعل
لقد أكثرت من هذر
يضاهي صبوة الطفل
فما المشكاة يا رومي!
وما المصباح يا صقلي!
وما الزيتون يا هندي!
فقل يا فاتح القفل
ألا يا هدهد الأخبا
ر خبر بالورى واجل
فكم من هدهد أضحى
كفرخ اليوم يا خلي
وكان للشيخ عبد الغني النابلسي تلاميذ أشهرهم السيد عبد الرحمن النحلاوي، وقد ردد في مدحه ما قيل فيه:
لله در همام جهبذ وطئت
أقدامه شرفا هام السموات
وسيأتي ذكر هذا التلميذ الطاهر وشعره في مولاه عبد الغني، صاحب المقام الأقدس السني، حين نتكلم عن «التاريخ الشعري»، وهو إحدى الظواهر الفنية في جو هذه النهضة، كان التأريخ الشعري نجمة سديمية قبل الرواد فصيروه نجمة قطب تأتم به سفينتهم الأدبية.
وكما عني المطران فرحات المتصوف المسيحي بتحليل أسرار البيعة شعرا، ونثرا، انصرف الشيخ النابلسي، قدس الله سره، إلى تحليل رموز الصوفية، شعرا ونثرا، ولكثرة ما لعبد الغني من تآليف وتصانيف شعرية ونثرية قد سماه المطران يوسف الدبس في تاريخه جهبذ الجهابذة، وأستاذ الأساتذة.
ويضارع هذا الشيخ المطران في الرحلات؛ رحل المطران إلى رومة، وزار الأندلس، وارتحل الشيخ إلى دار الخلافة، وزار القدس ومصر والحجاز ولبنان، وكتب كتابا في كل رحلة. (2) القافلة الثانية (2-1) أحمد البربير
القرن الثامن عشر في الآداب المشرقية هو «قرن السماعلة» الذين حفظوا آثار العرب القلمية. فهم الذين أذاعوا الآداب المشرقية في أوروبا، وصانوا كنوز الفلسفة في مكتبة الفاتيكان وغيرها. أما في الشرق فكان أدب هذا العصر أدب رسائل ديوانية، كما ابتدأ الأدب العربي في جميع عصوره. كان كتاب الدواوين هؤلاء يقولون الشعر متملقين به أسيادهم كالجزار وسواه، فمن هؤلاء الكتاب الأولين أبناء الصباغ، وأبناء البحري، وإلياس إده.
وقام إلى جانب هؤلاء متمشرقون كثيرون، عنوا بالآداب العربية وغيرها من المشرقيات، حتى أنشئوا جمعيات سموها الأسيوية، فأفضلوا على لغة الضاد بإذاعة الكثير من كتبنا مصححة.
ثم طلع في صباح القرن التاسع عشر الشهاب الثاقب محمد علي الكبير، فمشت النهضة قدما بخطى ثابتة وسريعة، أنشأ مطبعة بولاق، ومدرستها، وجريدة الوقائع. وظل الإنشاء في ذلك العهد ثرثرة عامية ممزوجة بالتركية تضحك من يقرؤها، حتى جاء شيخنا الشدياق، فصحح لغة «الوقائع»، وهذب عبارتها العربية، أما من يعنينا أن نقف عندهم هنيهة فشاعران: أحمد عبد اللطيف البربير، وابن الإفرنجية.
ولد الشيخ البربير سنة 1747، ومات سنة 1811، ولهذا الأديب مقامات طريفة، وبديعية نحا فيها كغيره نحو الحموي، وله أيضا كتاب «الشرح الجلي على بيتي الموصلي»، وهو شرح استوعب كثيرا من فنون الآداب والعلوم، وتناول تحليل الكثير من الرموز والأحوال الصوفية.
والبربير هذا شاعر بليغ إذا قسناه بشعراء عصره والذين سبقوه، وقد قال فيه مخائيل البحري - أحد رواد هذه القافلة - من قصيدة طويلة نشرتها مجلة المشرق:
أحمد البربير من أنشأ الأدب
وعلوما بين عجم وعرب
وحوى فخرا سما أسمى الرتب
قدره، ثم السماكين ارتقى
فرد البربير له التحية بأحسن منها، قائلا:
كم بيان من معانيه بديع
قد رفعناه على نظم البديع
في مبان مثل أزهار الربيع
ناظرا تسبيك أو منتشقا
فطن من بعده «العاصي» بكى
وبأصوات النواعير شكا
ودجت حمص وكانت فلكا
لمحياه فعادت غسقا
لم يبتدئ تقارض الشعراء المدح والثناء بالبحري والبربير، بل ولد مع شعراء القافلة الأولى، وبلغ أقصى مداه مع الذين أتوا بعد هؤلاء حتى صار شغل الشعراء الشاغل. ولم ينطفئ نور هذا الغرض من الشعر إلا في هذا الوقت، ولكنه أمسى يقال في حفلات التكريم - وما أكثرها عندنا - بدلا من الرسائل.
أما شعر البربير فلم نقف إلا على نتف منه في مجلة المشرق، ولكنها تدل على مخيلة شاعر أصيل، قال - رحمه الله - يصف العنب الشامي:
دمشق حازت عنبا
يضرب فيه المثل
كأنه لآلئ
يصان فيها العسل
وقال في الشيب:
نذير شيب منذر بالذهاب
فجدد التوبة قبل الحساب
واحذر سطى جارح باز هوى
من هوله طار غراب الشباب
وقال في الليل:
ليلة كالغراب قص جناحا
ليس يرجو الكئيب فيه صباحا
خافها أعزل السماكين حتى
صار ذا رعدة وألقى السلاحا
وقال في الدينار، وهو من باب حسن التعليل:
لما رأى الدينار أن مقره
في ملكه مقدار طرفة عين
لاحت على خديه صفرة وجهه
جزعا وأصبح وهو ذو وجهين
وقال، وهو من التلاعب بأسماء أبواب النحو، كما فعل المطران والخوري قبله، فأجاد أكثر منهما:
وعجبت من راياته الحمر التي
شربت مرارا من دم الأعداء «رفعت» «فجرت» بحر جيش خلفها
وتولعت «بالنصب للإغراء»
وقال ناصحا حاضا على الكرم:
إن رمت نيل المعالي
فأكرم الأخيارا
فليس يكبر إلا
من صغر الدينارا
وقال متزهدا:
تبا لصورة دنيا
شبيهة بالخمره
من ذاق منها رآها
مع اللذاذة مره
إياك والسكر منها
وحسبك الموت سكره
وقال هاجيا:
كم سبكنا الذهبان فيه مديحا
فاستحالت كمطرق الحداد
والذي يغرس الثنا في سباخ
فكثير عليه شوك القتاد
وقال يصف مجلس أنس:
نحن والله في نعيم مقيم
بين سجع وبين صوت رخيم
لم نجد عندنا إليك رسولا
غير ما هب من لطيف النسيم
قد قضى غمنا فناح عليه
كل صوت من الحمام نظيم
إننا نرى ديباجة البربير متماسكة وعبارته لم تشنها تلك الركاكة، وشعره يدل على شاعر يعمل فكرته ورويته؛ ليقول ما لم يقل. فالبربير خير أبناء جيله شعرا، صحيح التركيب، فلا أثر للرطانة التي رأيناها في شعر من سبقوه، ولا بدع في هذا فهو بلا شك من حملة القرآن الكريم. (2-2) ابن إفرنجية
شاعر متأثر بالقافلة الأولى، نقب عنه الأب شيخو فأحيا ذكره، وقد ذكر لنا في «مشرقه» إن لهذا الشاعر كتابا خطيا في لندره عنوانه: «المجموع المنتظم من فرائد الكلم». في هذا الكتاب كثير من النوادر والنكت، وبعض قصائد وأبيات من نظمه، ونظم والده وبعض شعراء عصره. قال - على عادة ذلك الزمان - بيتين في وصف مجموعته هذه:
مجموعنا هذا له رونق
كرونق اللؤلؤ في عقده
كادت مجاميع الورى دونه
تنسى لديه من سنا مجده
أما الخطأ فقد كفانا الشاعر مئونة الإشارة إليه حين قال في كتابه هذا:
كتبته مجتهدا
وليس يخلو من غلط
فقل لمن يلومني
من ذا الذي ما ساء قط
وقد بدأ هؤلاء الرواد يصنعون المعجزات الأدبية في شعرهم، وها إن ابن الإفرنجية ينظم دائرتين في المديح. أما أقواله الطريفة، فمنها أبيات قالها بلسان قهوة الخمرة تهجو قهوة البن:
سمعت لسان الحال في قهوة الطلا
تقول هلموا واسمعوا نص أخباري
فباسمي تسمت قهوة البن في الملا
ولكنها لم تحك بالفضل أخماري
فمن كذبها قد سود الله وجهها
وعذبها بعد الإهانة بالنار
ومن «معجزاته» الشعرية أيضا هذان البيتان اللذان يقرآن طردا فيكونان مدحا، وإذا قرئا عكسا استحالا هجاء. قال:
عدلوا فما ظلمت بهم دول
سعدوا فما زلت بهم قدم
بذلوا فما شحت لهم شيم
رشدوا فلا زالت لهم نعم
ما عكسها فهذا هو:
قدم بهم زلت فما سعدوا
دول بهم ظلمت فما عدلوا
نعم لهم زالت فلا رشدوا
شيم لهم شحت فما بذلوا
وإذا قالوا في أبي تمام: إنه كان في انتقاء شعر حماسته أشعر منه في ديوانه، ليدلوا على سلامة ذوقه، فمثل هذا القول يصح - أيضا - في مجموعة ابن إفرنجية الحافلة بالطرائف، وها نحن ننقل منها شيئا. قال شاعر في وصف ليل:
وليل بته رهن اكتئاب
ألاقي فيه أنواع العذاب
إذا شرب البعوض دمي وغنى
فللبرغوث رقص في ثيابي
وقال آخر:
ثلاث باءات بلينا بها
البق والبرغوث والبرغش
ثلاثة أوحش ما في الورى
ولست أدري أيها أوحش
وقال غيره في صابغ لحيته:
قل للذي يطمع في صبغته
برد ما قد فات من صبوته
هب أنه أنكر ما لم يكن
يكفيه أن يكذب في لحيته
شعراء الأمير
(1) اختراع الرواد (1-1) التأريخ الشعري
يصح أن نسمي القرن التاسع عشر قرن التأريخ شعرا، فكما اخترع الحريري معجزاته البهلوانية في نظم قصائد رقطاء وغير رقطاء، كذلك كان لرواد النهضة معجزة التأريخ في الشعر، فما هو هذا التاريخ إذن؟
إنه مجموعة كلمات منظومة يأتي رصيد حروفها الأبجدية دليلا على السنة التي يقصدها الناظم، وهكذا صار الحساب حساب في دفاتر شعرائنا.
أما الحروف «الأبجدية» لا الألفباء، فحسابها معروف. سماه القدماء حساب «الجمل»، ولكن ابن دريد يقول: وما أحسبه عربيا. أما الزمخشري فاعترف به في «أساس بلاغته» وقال: وأجمل الحساب والكلام تعلم الجمل. فحروف كلمات «أبجد هوز حطي» يعتبر بها في عرفهم عن الآحاد، من الواحد حتى العشرة. ولفظتا «كلمن سعفص» تعبر عن العقود، من العشرين إلى التسعين. وحروف «قرشت ثخذ ضظغ» تعبر عن المئات فالألف.
أخذ السريان هذا الحساب عن العبرانيين، وهم لا يزالون عليه حتى اليوم. ولعله أبو الرقم الروماني الذي لا يزال يستعمله الفرنجة في بعض الأماكن؛ ولهذا أزعم أن نواة «التأريخ الشعري» سريانية، لا كما زعم المير حيدر في تاريخه: إن السيد عبد الرحمن شاكر النحلاوي - تلميذ الشيخ عبد الغني النابلسي - هو الذي اخترع التاريخ على حساب الجمل
1
أما الذي يحملني على هذا الزعم فهو أن السريان لم يستعملوا قط في حسابهم غير الحروف، ولا يزالون على هذا حتى اليوم. وقد لامهم المطران يوسف دريان مؤلف كتاب نحوهم وصرفهم؛ لأنهم لم يستعملوا الرقم العربي الذي عده يدا من أيادي العرب البيضاء على العلوم الرياضية، ونعى على قدمائنا تسميته بالرقم الهندي، ونفى معرفته عن الهنود.
2
وإذا قيل: ولكن أبجدية السريان لا تفي بهذا الغرض؛ لأن أرقامها لا تتجاوز الأربعمائة. فالجواب على ذلك عند القس نعمة الله الكفري أحد علماء النهضة في السريانية، قال في غراماطيقه:
لما كان السريان لا يستطيعون أن يعدوا بهذه الحروف - الأبجدية - إلا الأربعمائة، أوجد الأولون نوعا يعدون به المئات، والألوف والربوات، فيضعون علامة المائة نقطة من فوق أحرف العشرات - كلمن سعفص - وإذا أرادوا أن يبينوا الآلاف يضعون خطا منحرفا من تحت أحرف الآحاد، أما الربوات فيوضع لها خط مستقيم تحت الحرف.
3
وهناك شيء غير هذا سأذكره لك، يجعلنا نشك بزعم المير حيدر في القصيدة التي قال إنها أدهشت أهل عصر النحلاوي حتى قال بعضهم: إن الجن لقنه إياها. والمشهور عند الجمهور أن روح الشيخ عبد الغني حلت عليه؛ فاستفاد بها ذلك.
4
ورحت أبحث هنا وهناك في الكتب السريانية على غير جدوى، وأخيرا استعنت ببطريركية السريان فأفادتني أن ابن العبري استعمل شكلا من التأريخ الشعري، فذكر السنة بحروف الجمل في سياق الشعر، وتفضلت علي بنص البيتين، ثم رأيت ابن الشبيب من شعراء القرن السادس للهجرة ينحو نحو ابن العبري - تقريبا - فيقول في الخليفة المستنجد بالله، وهو الثاني والثلاثون من العباسيين، دالا على ذلك بلفظة «لب» فاستقامت له تورية لطيفة:
أصبحت «لب» بني العباس كلهم
إن عددت بحروف الجمل الخلفا
وعلى هذا المنوال نسج شاعر آخر، فقال في كهل مزواج:
من كان «آدم» جملا في سنه
هجرته «حواء» السنين من الدمى
أي أن ابن «45» سنة، وهي جمل آدم، تهجره ابنة خمسة عشر، وهي جمل حواء.
وقرأت لصلاح الدين الصفدي، وهو من شعراء القرن الثامن الهجري بيتين في وصف قلم ممدوحه بدر الدين نفاع ألم فيهما بشيء من حساب الجمل، فقال:
لصفات بدر الدين فضل شائع
تصبو له الأفكار والأسماع
انظر إلى «القلم» الذي يحوي فقد
صح الحساب بأنه «نفاع»
5
أي أن كلمتي القلم ونفاع تتفقان في حساب الجمل، فتكون كل منهما 201، ثم رحت استقصي تاريخ حساب الجمل، فاهتديت إلى بلاطة عمرها 386 سنة - العمر كله - لا تزال حتى الساعة في عاليه، فوق عين، تعرف بعين الضيعة، وهي تقع جنوبي الجامعة الوطنية على مسافة مائتي متر، كتبت عليها هذه الكلمات:
بسم الله الرحمن الرحيم، أنشأ هذا السبيل المبارك العبد الفقير صالح بن محمد الحلبي الشهير نسبته، ثبت الله حسنته، وجزاه جزاء الآخرة، وبخلود دولة مولانا السلطان مراد حفظه الله كل حفظ. وكتب في شهر شعبان المبارك سنة «هفظ»، أي سنة 985 بحساب الجمل.
ويأتي بعد ذلك ما يحسبه الناظم شعرا:
يا واردا للعين قصدك لا يخيب
اشرب وطهر جسمك من ماء صبيب
اشرب وقول الحمد للمولى على
أنعامه هنيئا يا من قد شرب
حتى هنا لم نصل إلى التاريخ الشعري بالصورة المعروفة اليوم، أي بوضع كلمة «تاريخ» وما يشتق منها من لفظ، قبل الألفاظ التي تنظم لتجمع فتدل على العام الذي يقصده الشاعر، ولعل أقدم هذا الطراز هو قول أحدهم في وفاة الشيخ تاج الدين بن بخشي المتوفى عام 872ه:
انتقل الشيخ وتاريخه
قدسك الله بسر رفيع
ثم يليه قول ابن المبلط مؤرخا جلوس السلطان سليم العثماني:
تولى مليك العصر، وابن مليكه
بعز وتأييد ونصر وسلطان
ودولة ملك قلت فيها مؤرخا
سليم تولى الملك بعد سليمان
وقال شاعر، وهو لا شك إمام عالم، يؤرخ ظهور التبغ في البلاد، وما أحسب هذا الشاعر إلا حديث العهد، وإن كان الزمن الذي يؤرخه يرجع إلى سنة 999ه، وهذا هو تاريخه كما ورد في كتاب علم النبات للدكتور بوست الأميركي:
سألوني عن «الدخان» وقالوا
هل له في كتابنا إيماء
قلت ما فرط الكتاب بشيء
ثم أرخت يوم تأتي السماء
فهذا التاريخ مجتمعة فيه جميع شروط التاريخ الشعري الفنية، فهو يشير إلى الآية الكريمة:
يوم تأتي السماء بدخان ، فالتاريخ متى كان رصف ألفاظ يجيء بشعا، ومن أصوله أن يحتوي إما على نكتة طريفة، كتورية جميلة، أو على آية كريمة، أو كلمة مأثورة توافق المقام، كما فعل شاعر حين أرخ موت شاب قتل خطأ، فأخذ شطر الفارض القائل: أنا القتيل بلا إثم ولا حرج، وعمل منه تاريخه.
ثم يجيء بعد هذا تاريخ آخر لمقتل السلطان عثمان بن أحمد سنة 1031ه:
مات سلطان البرايا
فهو في الأخرى سعيد
قال لي الهاتف أرخ
إن عثمان شهيد
فالتورية هنا هي في قوله: إن عثمان شهيد، حيث يشير إلى ابن عفان.
وأذكر تاريخا قيل قبل هذا، جاء فيه:
بنى سلطاننا برقوق جسرا
ومن تغدو الأنام له مطيعة
مجاز بالحقيقة أرخوه
وأمر بالسلوك على «الشريعة»
أي نهر الأردن الذي يسمى نهر الشريعة. وقال الشيخ عبد الرحمان التاجي مؤرخا بناء قصر الأمير عمر الحرفوش سنة 1077ه:
أبديت فيه للعيون بدائعا
في الحسن تصدر عن علاك وتورد
ولذاك ثغر السعد قال مؤرخا
قصر زهي للأمير مشيد
ويحبو التاريخ الشعري نحو التطور، فنرى الشيخ أحمد بن ناصر الدين الحنفي يؤرخ فتح الموره على يد علي باشا المعروف بابن الحكيم في بيتين؛ كل منهما برمته تاريخ لذاك الفتح الذي كان عام 1127:
قد صاغ بيتين في كل يؤرخه
من بعد هذا كعقد زان ذا عطل
في كل حرب دهي الإسلام من نوب
قد أيد الله فيها أحمدا بعلي
لا زال بين الورى إعلاء عدلهما
ما دام عزهما في السهل والجبل
والآن يأتي دور الشيخ عبد الغني النابلسي الذي استعمل التواريخ في البديعيات،
6
وعنه أخذ تلميذه النحلاوي صاحب الأعجوبة التي أدهشت الناس.
وبعد هؤلاء أرخ الخوري نيقولاوس الصائغ شعرا، ثم كان أحمد البربير أول المتفننين في التاريخ؛ فجعل الحروف المهملة في البيت كله تاريخا، وكذلك الحروف المعجمة.
أما أول من أرخ في السريانية على الطريقة الحديثة فهو المطران يوسف اسطفان الغسطاوي المتوفى عام 1822 نظم قصيدة سريانية بليغة في رثاء عمه البطرك يوسف اسطفان، افتتحها واختتمها ببيت فيه تاريخ وفاته عام 1793، وهو منشور في كتاب بصائر الزمان للأب بولس عبود.
والآن فلنعد إلى ذاك الذي أملاه الجن على النحلاوي، كما روى لنا المير حيدر في تاريخه - كما مر، فهما بيتان تضمن كل بيت منهما أربعة تواريخ، وهذان هما:
أهديك مدحا بليغا. يا سني غدا
بحر الفتوحات. باهي الفضل والمنن
ألفاظه كنجوم، فهي تشرق ما
بدا سنا بدرها. أرخه عبد غني [أهديك مدحا بليغا = 1136، يا سني غدا = 1136، بحر الفتوحات = 1136، باهي الفضل والمنن = 1136]، [ألفاظه كنجوم = 1136، فهي تشرق ما = 1136، بدا سنا بدرها = 1136، أرخه عبد غني = 1136]
ثم بنى على حروفهما قصيدة يتضمن كل شطر منها تاريخا. فأدهش الناس كما قال المير.
ثم كان ناصيف اليازجي - بعد النحلاوي - أول من حاول محاولة «تاريخية» أخرى جديدة، فنظم تلبية لاقتراح مولاه الأمير بشير الشهابي تاريخا لفتح عكاء في بيتين ضمنهما ثمانية وعشرين تاريخا، وذلك يحصل من كل شطر منهما متى جمع، ثم من مهمل كل بيت منهما ومن معجمه، ومن مهمل كل شطر مع معجم كل شطر فيهما، وبالعكس صدرا لصدر، وعجزا لعجز، وبالخلاف سوى التاريخ الناطق لفظا، أما البيتان فهذان هما:
في فتح عكا برد نار معاطب
دار الخليل، وللديار به البكا
رأس الثمان وأربعين بطيه
مئتان مع ألف، فبارك ربكا [مئتان مع ألف، فبارك ربكا = 1248]
ولما قرأ إبراهيم باشا البيتين أرسل يطلب قصيدة على نسق قصيدة النحلاوي، فنظم ناصيف القصيدة وجعل كل شطر منها تاريخا، وصدرها ببيتين ضمن كل شطر منهما تاريخين، ووزع - مثل النحلاوي - حروف البيت الأول على أوائل بيوت الغزل من القصيدة، وحروف البيت الثاني على أبيات المديح منها، أما البيتان فهذان هما:
7
أنت الخليل وفي. الأطلال برد لظى
أطلال عكا ورفض. الرعب والحذر
كن بالغا أوج سعد. ما به ضرر
أو غالبا لم يزل في. أول الظفر [أنت الخليل وفي = 1248، الأطلال برد لظى = 1248، أطلال عكا ورفض = 1248، الرعب والحذر = 1248]، [كن بالغا أوج سعد = 1248، ما به ضرر = 1248، أو غالبا لم يزل في = 1248، أول الظفر = 1248]
ثم نظم ناصيف لجاوس السلطان عبد العزيز بيتين كبيتي فتح عكا، ضمنهما ثمانية وعشرين تاريخا، ونظم قصيدة أخرى في مدح هذا السلطان على نسق القصيدة النحلاوية.
ولليازجي تواريخ مفردة عديدة جدا، جمعت في آخر النبذة الثالثة من ديوانه المسماة «ثالث القمرين».
وحذا اليازجي الابن حذو والده فنظم تواريخ جمة، ولكنها ذات طلق واحد، وليست ذات طلقات من نوع التومغان، ولا من نوع المترليوزات كما سترى ...
وظل اليازجي بعد النحلاوي سيد الموقف حتى نظم أستاذنا المعلم عبد الله البستاني عند غياب شمس القرن التاسع عشر؛ قصيدة في مدح المطران إلياس الحويك عند انتخابه بطريركا.
عنوان هذه القصيدة «فتاة الأناة». وقد أتم السجعة جامع كتاب «لهجة الحق»، فقال: وهي آية في المعجزات، ثم راح يعرفنا عليها بقوله: وهي قصيدة «تاريخية» تتضمن 6216 تاريخا، وذلك أن كل مصراع من مصاريعها يتضمن تاريخا للسنة 1899، ثم إن مهمل كل مصراع إذا ضم إليه معجم أي مصراع أردته، كان تاريخا للسنة المومأ إليها، ومعجم كل مصراع إذا ضم إليه مهمل أي مصراع أردته كان تاريخا أيضا للسنة نفسها، فتكون التواريخ بمقتضى ذلك 6216 تاريخا.
8
إني أنقل لك - أيها القارئ العزيز، بعض أبيات منها لتجرب وتتسلى، افترضها سؤالا من تلك المسائل التي تطلب بعض الصحف حلها، وامتحنها في ساعة فراغك، فالعلم بالشيء خير من الجهل به. قال الشيخ عبد الله:
يا بطريرك الشرق رفتك النهى
رتبا وقفت لها السرور مع اللها
مرحت بك الأقمار مسفرة ولم
تؤثر سواك فسر أو سر بالسها
ومنها:
وسهرت للفقراء تعكل كربهم
ترفوا وأمرك قد أبار الترها
وافخر ومر، وابشر وسد، واسلم ودم
ترع المكارم فاحرسن متنبها
أما هذه القصيدة، وهي معجزة حقا، فهي ثمانية وعشرون بيتا، فاعمل حسابك ... ثم احمد الله على أننا لسنا في عصر المير حيدر لننسبها لإبليس وجنوده ...
وهكذا «كسر» المعلم عبد الله البستاني «ركورد» اليازجي والنحلاوي، واستولى على الأمد ولا يزال.
تذكرني هذه «الآيات» بذاك الأمير الذي وقف بحضرته بهلواني وفي يده مائة إبرة، فجعل يرميها من فمه جاعلا رأس كل إبرة بخرم الأخرى، ثم لم يخطئ أبدا؛ فأجازه الأمير بمائة «كرباج» لأنه أضاع مهارته فيما لا فائدة فيه، وأعطاه مائة دينار جزاء تعبه ونصبه.
عفوك أستاذنا، تحت التراب. لقد كنت نافعا، بل كنت الجسر الذي عبر عليه رجال النهضة من ضفة الركاكة والرطانة إلى ضفة الفصحى وواحتها.
ولعل قارئي العزيز يقول في قلبه: ما دام هذا لا ينفع فما لك تحدثنا عنه؟!
إن الأمانة الأدبية تقضي بهذا؛ لقد تعب الجماعة فلنذكرهم بما عملوا، وقد تكلمت عن هذا قبل التحدث عن شعراء الأمير؛ لأنهم ومن جاءوا بعدهم - حتى الشدياق وهو عدو التقليد - قد نظموا جميعا تواريخ، ولا يزال في عهدنا من ينظم منها حتى الداعي.
أما التراسل بالشعر
9
أو التراشق به، فهو أيضا من ابتداع هؤلاء الرواد. فكأن سوق الشعر قد بارت فأمسى لا ينفق عند أحد، فأخذ شعراء هذا القرن يمدح بعضهم فيما سموه رسائل، فصح فيهم قول المثل: حك لي أحك لك.
ولا يزال أدباء اليوم على هذا، فيتقارضون الثناء على كتبهم وغير ذلك، وقد صدق من قال: حب الثناء طبيعة الإنسان. فالطفل إذا ما امتدحته تبدو على وجهه غبطة دونها الغبطة التي تعروه ساعة أكله قطعة حلوى يحبها.
صحتين، كلوا حتى تشبعوا ... ولأم الناقد الهبل ... (1-2) نقولا الترك
كان الشاعر اللبناني الأول، الأسقف جبرائيل بن القلاعي، زجالا فنظم حوادث بلاده زجلا، منذ خمسمائة سنة ، ثم استحال ذلك الزجل شعرا فصيحا - بمقدار - لما تضلع اللبناني من لغته. وكما كان الزجال الأول أسقفا كذلك كان الشاعر الأول أسقفا أيضا.
كانت قيثارة المطران جرمانوس فرحات تملأ حنايا كهوف لبنان وتلافيف أوديته ترانيم وتهاليل روحية. يرتفع الضباب بخورا قدسيا نحو الأعالي، فترتفع معه روح الشاعر الزاهد، ويحدو نهر قديشا موكب عرسه الخالد، فيتبعه قلب الشاعر المتصوف منفسا عن عاطفته المكبوتة بذلك الغزل الإلهي ... وكأن حرب ميوله لم تضع أوزارها حتى هتف؛ معترفا لنا: إني بليت بأربع لم يخلقوا.
وبعد قرن كان للبنان أمير كالملوك؛ له بلاط، وله شعراء يكدون قرائحهم ليعملوا شعرا يليق بسعادته، فيهزونه هز الكماة عوالي المران، فتتدفق الصلات في قصر بتدين العامر.
يدور كثيرا على الألسنة في هذه الأيام ذكر البشير الشهابي أمير لبنان، وتذكر كثيرا بيت الدين حيث عاش الأمير العظيم سيدا تراوده الدول العظمى، فيستقبل في «قاعة العمود» السفراء والوزراء، والقواد والقصاد، وعليه أبهة الملوك، وسيماء الأسود.
كثيرا ما يذكرون هذا الأسد اللبناني وعرينه الذي جدد «عهد» الشيخ بشاره خليل الخوري شبابه، وأعاد صاحبه إليه رفاتا لا عليه ولا له، بعد مائة عام ونيف يذكر الناس أعمال الأمير ونضاله وبطشه، وينسون أنه كان له شعراء، وأنه كان سيف دولة زمانه، لم يجتمع بباب ملك من ملوك عصره أكثر مما التف حوله من أمراء الكلام في زمانهم، ولكل دولة رجال.
أجل لكل دولة رجال فلا يطلب من نقولا الترك، وبطرس كرامة، وناصيف اليازجي، وأمين الجندي؛ أكثر مما عملوا في خدمة الأدب، فهم والشدياق والبستاني والأحدب والأسير وخليل الحوري وغيرهم قد بنوا هذه النهضة فأعلوها، والقلم يقرع القلم ...
أنعش الأمير العظيم الأدب العربي في عهده؛ مدفوعا إلى ذلك من نفسه المطبوعة على الأريحية، ومن طموحه إلى تأييد إمارته وإذاعة صيتها. رأى أن لا بد لها من شعراء يؤيدونها بأقلامهم، ويدعون لها بألسنتهم الفصيحة، كما كانت الحال في جميع الأدوار العربية، فقربهم وأدناهم من السرير فسمعنا شاعره الأول نقولا الترك يمدح مولاه بعد وقعة غلب فيها :
سواك إلى المعالي ليس يدعى
لأن الله أحسن فيك بدعا
أمير، لا أمير سواه يرجى
مليك كامل خلقا وطبعا
بشير خول الدنياء بشرا
به طاب الورى قلبا وسمعا
شهاب أوعب الآفاق نورا
على نور الثريا فاق سطعا
إذا أعددته يوما بفرد
من الأفراد كنت تراه «سبعا»
ندى كفيه جل عن انكفاف
كأن الله أجرى فيه نبعا
فما الفضل بن يحيى، وابن طي
وهل معنى «لمعن» بعد يدعى
بصارم عدله كم بت جورا
وأحيا لانتصار الحق شرعا
ولست أشك في أن سعادة الأمير استطاب هذا الثناء، وأجزل لقائله العطاء، فحركت مواهبه قريحة شاعره، فراح يفتش عن نول آخر ينتج عليه فتطاول إلى الحريري وبديع الزمان؛ فدبج لسيده المقامات، كما نظم القصائد، ليريه أن في دولته على صغرها من يعنو لهم النثر كما يطيعهم الشعر. كتب مقامات، بلغة ضعيفة طبعا، ولكن فيها جدا وهزلا هما من طبع هذا الشاعر، وأشهر مقاماته تلك التي سماها «المقامة الديرية» كتبها طالبا من الأمير دارا يسكنها؛ فراح يتخيل فيها ما استطاع حتى أخرجها بصورة حلم أبصره في نومه، ثم عبره في ختام تلك المقامة الطويلة كما يأتي: فقال المعبر:
أما حدوث الزلزال، وقلقلة الجبال، وهياج الرياح، وقيام الصياح، فهذا دليل على ما بك من البلوى، لعدم المأوى، وأما ارتفاعك في اللجج، وقطع الآمال من الفرج، فهذا دليل نهاية النحوس، واضمحلال البئوس، ورؤياك لذلك النير الساطع، ذي السيف القاطع، هو عبارة عن ذلك الملاذ المفخم، والأمير المعظم، بشير السلام، وشهاب الأنام، أما ما أصبت منه من المنزلة، والهبة الجليلة المكملة، فدليل على حلولك في قطره الزاهر، وحماه الباهر، المعروف بدير القمر، المنظوم في سلك عدله الذي اشتهر. وستعطى أرضا خلية، تبني لك بها دارا سنية، وبالقرب من قبة الشربين، فهذا ما رأيته باليقين.
بهذه البراعة الفنية تملك الشاعر دارا كما اشتهى، وكان كلما ازداد من مولاه قربا ازداد براعة طلب، فاسمع كيف يطلب منه شروالا وعمامة:
وشروال شكا عتقا وأمسى
يراودني العتاق فما عتقت
وكم قد قال لي: بالله قلني
وهبني كنت عبدا وانطلقت
أما تدري بأني صرت هرما
وزاد علي أني قد فتقت
فدعني حيث قل النفع مني
وعاد من المحال ولو رتقت
ولا تعبأ بتقليبي، لأني
بعمر أبيك نوح قد لحقت
ولم يبرح يجدد كل يوم
علي النعي حتى قد قلقت
فقلت له عتقت اليوم مني
لأني في سواك قد اعتقلت
فأشعرت العمامة في مقالي
له فاستحسنت ما قد نطقت
فراحت، وهي تشدو فوق رأسي
لي البشرى إذن وأنا عتقت
أشهد أني أستنشق من شروال الشاعر العتيق رائحة الأمير وشعراء بلاطه، فعبقرية شاعره الظريف فواحة العبير، فهو، وإن لم يؤزر بالبلاغة، طافح بالشخصية الظريفة والخيال الفاره.
كان الترك عند أميره شاعرا ونديما وكاتبا. يقول له ما يرضيه، ويجيب على كل اقتراح يصدر عن سعادته، ومن يطلع على ديوان نقولا - هكذا قالوا حين «لزموه» - يقرأ صفحة من تاريخ لبنان الحديث. وقيل لي - أيضا - إنه طبع ولكني لم أحصل على نسخة رغم السعي وراء ذلك.
رووا لنا من شعر الترك، يوم كنا على مقاعد المدرسة، هذا المطلع:
عجب عجب عجب عجب
قطط سود ولها ذنب
تصطاد الفار من الأوكار
وتطيح الحيط فتنقلب
وكان لنا رفيق في مدرسة الحكمة اسمه سعيد جوهر من «وادي الست»، فكان معلمنا الخوري يوسف أبي صعب يمازحه بهذا البيت الذي ينسب إلى شاعرنا:
ورحت تحط بوادي الست
وغرك فيها الشيطان
ونقل الأب شيخو مناظرة شعرية أجراها الشاعر بين الزيت واللحم، ولعلها اقتراح من سعادة المير، وهاك بعض ما نظمه الشاعر في هذا الموضوع:
أنا الزيت الذي كل إليه
بمحتاج ووصفي قد تنوع
فنوري شاهد في عظم فضلي
إذا ما في ظلام الليل لعلع
وكم قومت من عرج وكم قد
أقمت مكشحا وشفيت أكتع
ومني يكسب الصابون عرفا
زكيا يشبه المسك المضوع
به قد نغسل الأدران طرا
عن الأبدان والملبوس أجمع
وكم لي من مزيات تناهت
فضاق بوصفها الشرح الموسع
فقال اللحم مفتخرا عليه
لقد وسعت ذا الشدق المخلع
فشحمي في الليالي عنك يغني
ضياه، بل وفي الأشراق يسطع
فريحك كيفما حاولت تردي
ودهنك أينما قد حل بقع
وأكلك منكر عند الأطبا
لأنك محرق للكبد تلذع
وإما أن تسل عني فإني
أنا اللحم الذي قدري ترفع
ومطبوخي لذيذ مستطاب
شهي الأكل طاب لكل مبلغ
كذلك طعم أمراقي شفاء
يقوي كل من منه تجرع
وأنواع البقول وكل بنت
نما للأكل لي خدم وتبع
ولي دسم يذكي كل نوع
من الطبخ الذي لي فيه إصبع
لذاك ترى ملوك الأرض طرا
لهم في مأكلي ولع ومطمع
فعد يا زيت عما أنت فيه
ومن هذا الجدال الشاذ دع دع
وإلى جانب هذا الهزل نرى للشاعر شعرا آخر رصينا يقوله حسب مقتضى الحال. فمن يدخل قاعة الأمير في بتدين ير قصيدة، من عمل شاعره هذا مكتوبة على عالي جدرانها وهذه هي:
الله الله أنت الواحد الأحد
والسرمد الأزلي الدائم الصمد
حي، عزيز، قدير، خالق، وله
من في السماء ومن في أرضنا سجدوا
لا رب غيرك يا مولاي نعبده
ولا سواك إلها فيه نعتقد
أنت الغنى والمنى والفوز أجمعه
والعون والغوث والإنجاء والمدد
ما لي سواك غياث لي أطالبه
كلا وغيرك ما لي في الورى سند
خولتني يا إلهي خير تسمية
فكنت فيك بشيرا، أنت لي عضد
فاللب والروح كل فيك مشهده
والفكر والقلب والأحشاء والكبد
بل كل جارحة مني وعاطفة
تصبو إليك، ونار الحب تتقد
إذ أنت علة نفسي، أنت مركزها
يا رب كل ومنه الخلق قد وجدوا
يا ربي امنن بعفو منك لي كرما
واغفر جنايات عبد منك يرتعد
وجد بخاتمة يا رب يعقبها
ذاك النعيم السعيد الثابت الوطد
ولكن الخاتمة، وا أسفاه، لم تكن في هذه الدنيا كما اشتهى الشاعر لأميره، أما الآخرة فلا أعلم عنها شيئا.
هذا هو شاعر الأمير الأول، وهو الذي قرب المعلم بطرس كرامة من مولاه، فصار شاعره الأكبر، ونجيه، ومستشاره.
كان نقولا طيب القلب، دمث الأخلاق، مرحا طروبا حسن البديهة، وهو أبرز معاصريه شخصية في شعره، وإن قاله ركيكا كما ترى. فنان طمح إلى التجديد والأدب الرفيع، فأدرك ما قدر عليه، ولهذا ترى الطرافة عنده في كل مقام ومقال، وإذا قصر في ميدان الفصاحة والبلاغة فهو معذور؛ لأنه ابن نفسه. (2) الشاعر والمدبر (2-1) بطرس كرامة
إمارتي من سيفي هذا.
هكذا أجاب الأمير بشير حين سأله شريف باشا: إمارتك من أين؟ لم يبال بطل «المزة» بما أحدثته كلمته في نفس محدثه ساعتئذ، إلا أنه - بلا شك - قد تذكرها في إحدى ليلات مالطة، كما تذكر نابليون في جزيرة القديسة هيلانة كلمات كهذه.
صدق الأمير، أعلى الممالك ما يبنى على الأسل، كما قال المتنبي منذ ألف وأكثر، الأسد يمنع عرينه الصغير، أما سطوته فتحمي الغاب كله، ولهذا تطاول الأمير بشير إلى جميع آلات الملك فاصطنعها كلها؛ فللبلاط بروتوكول، وللديوان مراسيم، يجري عليها في مخاطبة العظماء، ومناصب البلاد، وللدخول على المير، والجلوس بحضرته أصول تطبق وتراعى، أما السيطرة وما يتبعها من بطش فسعادته أمها وأبوها. كانت مهابته كما قال المتنبي في سيف الدولة:
قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت
لك المهابة ما لا تصنع البهم
كان الأمير عادلا بلا رحمة، يدعم عرشه بهدم كل ما يراه خطرا عليه سيان عنده في ذلك ما بناه الله، وما بناه الإنسان. إذا رجع من «شر»، وقعد يستجم في بلاطه، بين ندمائه وشعرائه، فكأنه يضرب أخماسا لأسداس؛ لأن «الثغر» دائما خلف الباب. يجلس سعادته في قاعة العمود جاثيا، فتخاله القمة الماثلة. ينسيه ثناء شعرائه تعب أمسه ومشاكل السياسة وعقدها حينا، فيستأنس بالشعر والأدب. كان سعادته يضرب في الشعر بسهم ككل أمير عربي فيساجل شعراءه، ويأمر بالقول ارتجالا، تخميسا وتشطيرا، وقد رويت له هذه الأبيات التي قالها متغزلا في عاصمة دولته بيت الدين:
سرى النسيم بيت الدين ذكرني
حديث من كنت أهوى، والزمان صبا
وقد شفى كبدي الحرى بروضتها
جري «الصفاء» الذي في سفحها انسكبا
أهدى لنا نسمات من نوافحه
مبسامها، فأزال الهم والكربا
وبث عرف الأقاحي والخزام ضحى
وادي الجنان فأحيا قلبي الوصبا
وفي سنة 1813 دخل نقولا الترك على أميره مقدما له المعلم بطرس كرامة ، فعهد إليه الأمير في تعليم ولده أمين، وبعد فترة قصيرة أضحى هذا المعلم شاعر الأمير، ثم صار كاتبا للشئون الخارجية؛ لإجادته التركية، ثم أمسى مدبر الأمير وقهرمانه يستسفره إلى الأبواب العالية في الخطوب الجسام، ويدير مالية الإمارة، وهكذا أمست شئون لبنان كلها في يده، وظل كذلك حتى مغيب الشهاب عن سماء لبنان، فرافقه شاعره ومدبره إلى منفاه، ثم كان في الأستانة العلية شأن آخر.
لست ممن تعنيهم السياسة إلا بمقدار ما تلابس الأدب، فهمي هنا أن أصف عهدا نتغنى به؛ لنفهمه على حقه.
كان هم بطرس كرامة أن يظل خاطر المير صافيا، والأمير ككل البشر يرضيه الثناء ويعجبه، فلم يدع شاعره فرصة تمر حتى قال فيها شعرا، فكل ما يحدث في البلاط، وفي ساحة الوغى، وفي الصيد، وفي ساعات الفراغ، يستحق عنده التسجيل شعرا، فكأن قريحة شاعرنا عداد «تكسي» لا يقف أبدا، لو سعل سعادة المير سعلة رنانة، أو تجشأ بعد عشاء ثقيل شمته شاعره بالمنظوم، فيطيب الخاطر العاطر.
وكان «سعادته» ماهرا في حلب القرائح يستفزها بطرق شتى، كإهداء «باقة زهر» إلى الشاعر، فيقول هذا في وصفها:
وباقة زهر من مليك منحتها
معطرة الأرواح مثل ثنائه
فأبيضها يحكي جميع خصاله
وأصفرها يحكي نضار عطائه
وأزرقها عين تشاهد فضله
وأحمرها يحكي دماء عدائه
فيخمسها ويعارضها نقولا الترك، فتعجب أبياته الأمير، فيأمر بتخميس التخميس، وتشطير المعارضة، فتخمس وتشطر في حضرته، وتنال كلها إعجابه العالي، ويعلم الله ماذا كانت جوائز صاحب السعادة، وعطاياه في تلك الساعة.
أما قصائد بطرس الضخمة، فكانت تقال في «الخلع السنية» التي تهدى إلى الأمير كل عام، وفي الحوادث الجسام، وكل ذلك منشور في ديوانه المطبوع عام 1898، أما المناسبات الصغرى فحدث عنها ولا حرج: يرخي الأمير عذاره، فيقول شاعره «مؤرخا» هذا الحادث الجلل!
إن البشير الذي جاد الزمان به
قد ساد بالمجد والأفضال واللطف
بدا عذار إليها في سعد طلعته
يحكي أساطير بسم الله والطرف
الله عظمه قدرا وجمله
أرخ وزينه في حلية الشرف
ويهدى الأمير أشجار سرور فلا يحجم شاعره عن القول فيها:
جاء سرو فقلت هذا سرور
يتجلى في روض مجد البشير
حيث يروي النسيم عنه، فحيوا
يا وجوه الأنام فضل الأمير
ويصطاد الأمير فيخص شاعره بحجل من صيد يمينه المباركة، فيقول في هذا شعرا، ويزيده الأمير فيزيد الشاعر، وهكذا دواليك. وإذا انقطع الوارد الملهم الموحي، ورأى الشاعر مولاه جالسا في الإيوان في إحدى الدكتين المختصتين بجنابه العالي، أنشد الشاعر:
وإيوان مجد برج ليث تخاله
به كوكب الإقبال أصبح مشرقا
حوى منزلي عز كأنهما به «السماكين» والبدر البشير به ارتقى
وإذا سكت الطائر هيجه مولاه، فأهدى إليه «بز كهرباء»، فألهمه المناظرة بين «البز والماسورة والأركيلة»، فيبذل في هذا الموضوع جهده، ويقول:
ورب خرساء أضحت بعد لكنتها «فصحاء» ذات فم للضد رداد
قامت بمبسمها الزاهي ترد على
نرجيلة، فجرت في قولها البادي:
تنددين بأني غير ناطقة
ألم تري منطقي يروي ظما الصادي؟!
ألم ترى ماجدا نعم الأمير ومن
أحيا وجود الندى في كفه النادي
فهو الذي قد غدا لي منجدا وبه
ثغري يغرد في مدح وإنشاد
وإذا غفل الأمير عن أعطية التبغ نطق الشاعر ملتمسا «الدخان» من سعادته، كما طلب نقولا من قبل دارا وشروالا وعمامة.
وإذا كان الشاعر قال حين رمم مولاه بناء سبيل، فما تراه يفعل ومولاه قد جر نبع الصفا وبنى الجسور؟! إن رمم الأمير بابا، أو فتح طاقة تنفتح للشاعر أبواب وأبواب على دنيا عبقر ... ما أحلاها حياة! لا أدري كيف أصفها، فليته كان لها شعراء أكبر ... فقصيدة «نهر الصفا» طويلة كالقناة التي هندسها للمير «أخوت» شانيه، ولكن الركاكة تشينها.
وللصيد ورثاء البزاة مقام جليل في ديوان كرامة، وكذلك وصف البرك وكل مكان تشرفه ركاب صاحب السعادة؛ دخل الأمير بستانا، فقال الشاعر:
وبستان زها شرفا وحسنا
بزورة كوكب الشرق المنير
حللناه فماس الغصن قدا
ومال مقبلا ذيل الأمير
وتظهر الحصبة في جسم «سعادته» الشريف، فيقول شاعره في ذلك:
قالوا حبيبك محصوب فقلت لهم
لا. لا. فقولكم زور وبهتان
وإنما جسمه مذ راق جوهره الص
صافي، فنقطه بالحسن مرجان
ويصف الشاعر ما في قصر بتدين، فتخالك في الحمراء؛ إذ يقول:
ما ترى البركة العذيبة أضحت
تتثنى كصفحة الهندواني
جاد فوارها العجيب برقص
حين غنت سباعها كالقيان
ويمد سعادته يمينه المباركة فوق البركة، فتهرع الأسماك إليه، وتأكل من يده فتات الخبز، فيصرخ شاعره:
حيا الإله بشيرنا المولى الذي
ضاءت بنور شهابه الأفلاك
خضع السماك للثم راحته التي
نهضت للثم بنانها الأسماك
ويتعمم «سعادته» بعمامة سوداء، فيقول شاعره فيها:
بعمامة سودا أتى رب السنا
فغدا الرجا يسمو على النبراس
ما ذاك حبا بالسواد وإنما
يروى ثناء عن بني العباس
ويبني سعادته إيوانا في مقام النبي يونس، فيستلهم الشاعر الكتاب، ويقول:
فانزل بحضرة يونس
تأمن به حوت الطريق
واقرأ بفاتحة الثنا
حمدا لمنشئه العريق
أعني الشهابي البشير
بكل سعد للصديق
وانشق نسيمات الصبا
من عرف لبنان العريق
وقضت الأيام فابتعدوا عن بتدين، ثم عادوا إليها فقال الشاعر في ذلك قصيدة طويلة:
هذي الديار ديار بيت الدين
فتمتعي يا مهجتي وعيوني
دار بها طاف الصفاء فأصبحت
تهدي السرور لقلب كل حزين
إن دنست عيني بروية غيرها
طهرتها بصبيب ماء جفوني
ولا نستغرب هذا بعد ما قرأنا للأمير نفسه شعرا في بتدين كما مر.
ويوفد الأمير شاعره إلى مصر، فيسمع هناك غناء قينة تدعي أم رضوان، فيقول فيها:
رعى الله مصرا إن مصرا لجنة
يزول بها عن صاحب الهم همه
ففي جنة الفردوس رضوان وحده
وفي مصر رضوان كذاك وأمه
ودارك الفلك، لما أتت الساعة، فإذا الأمير في مالطه، وجاءت نوبة المدبر السياسية فلعب دوره على المسرح العالمي؛ أرسله مولاه - الأمير بشير المالطي - إلى إسطمبول رائدا فكتب إليه كلمته المشهورة: «الصندوق في إسطمبول والمفتاح في لندره ...» ثم رغبه في الإقامة بها، فجاءها الأمير، وقضى فيها أعواما سكت في خلالها طبل المديح ومزماره، تحول عنه شاعره إلى مدح وزراء الدولة العلية وصدورها العظام، ولم نسمع صوته إلا حين أرخ ضريح مولاه المتوفى سنة 1850:
قد كان صاحب هذا اللحد ذا شرف
مدى الزمان رفيع غير منخفض
لاقى المنية في التسعين متشحا
برد الفضائل في عمد وفي عرض
أولت ولايته لبنان طيب ثنا
وشاد بالعدل فيه كل منتقض
فهو الأمير الشهابي البشير ومن
غير العلى لم يكن يرتاد عن غرض
قضى فأظلمت الدنيا مؤرخة
أما البشير شهاب في الجنان يضي
ثم يقول قصيدة طويلة في رثاء الشهاب الذي انطفأ، ويمضي الشاعر لسبيله لاحقا بمولاه بعد عام، فقال شاعر الأمير الثالث - الشيخ ناصيف اليازجي - مؤرخا وفاته:
مضى من كان أذكى من إياس
بحكمته وأفصح من زهير
فقل يا ابن الكرامة قر عينا
لبطرس أرخوه ختام خير (2-2) ضوضاء الخالية
كان المعلم بطرس كرامة أرصن وأصح قولا من شاعر الأمير الأول، ولكن هذاك كان، كما قلنا، أخف روحا. كان القدماء يرون الهزل والضحك في الأدب قلة هيبة، ولهذا طارت لكرامة شهرة لم يكن لنقولا شيء منها، وقف نقولا نفسه على أميره فما تطاول إلى ولاة الأقطار حتى يذيع له صيت، أما بطرس فما أحجم عن ذلك، فأحدثت قصيدته «الخالية» ضوضاء أدبية اشتركت فيها الأقطار العربية.
قال بطرس هذه القصيدة جاعلا قافيتها لفظة واحدة، ولكنها مختلفة المعاني، قال في مطلعها:
أمن خدها الوردي أفتنك الخال
فسح من الأجفان مدمعك الخال
ثم ختمها بقوله:
لكل جماح إن تمادى شكيمة
ولكن جماح الدهر ليس له خال
ولما وقف عليها الشيخ عبد القادر الموصلي، وكان يومئذ ببغداد، عارضها ممتدحا واليها المشير داود باشا فقال:
إلى الروم أصبو كلما أومض الخال
فسح من الأجفان مدمعك الخال
وعن مدح داود وطيب ثنائه
فلا القد يثنيني ولا الخد والخال
مشير إلى العليا أشار فطأطأت
وأصبح مندكا لهيبته الخال
ثم ختمها بهذا البيت:
فذي معجزاتي ما أرى ابن كرامة
يعارضها حتى يصاحبه الخال
10
وخمس «خالية» بطرس الشيخ إبراهيم ابن الشيخ صادق آل يحيى العاملي الشامي، وخمسها أيضا الشيخ موسى المشهدي، ثم عارض وامتدح هذه القصيدة كثيرون من شعراء ذلك العصر، ولكن الشيخ صالح التميمي شاعر المشير داود باشا قال قصيدة يعتذر فيها إلى مولاه حين كلفه معارضتها، فابتدأها مخاطبا إياه قائلا:
عهدناك تعفو عن مسيء تعذرا
ألا فاعفنا عن رد شعر تنصرا
وهل من مسيحي فصيح نعده
إذا أينع الشعر الفصيح وأثمرا
عداه «شبيب والأحص» وفاته
من الرند والقيصوم ما كان أزهرا
دع الشانئ المخصوص بالنصر إننا
نراه بميدان البلاغة أبترا
به سمة من صبغة الخال سودت
بصيرته، لو كان ممن تبصرا
ثم يقول بعد استحلاف المشير بصفاته المثلى:
لجم غفير صير الخال قبلة
مكان القوافي بالقوافي مكررا
لعمرك ما «كعب» وما الشيخ قبله «زهير» بتكرار الروي تصدرا
وما الشعر إلا ما أبانت صدوره
قوافيه، لا ما السمع فيه تحيرا
فرد عليه بطرس بقصيدة طويلة هذا مطلعها:
لكل امرئ شأن تبارك من برا
وخص بما قد شاء كلا من الورى
ولو شاء كان الناس أمة واحد
ولم تلق يوما بينهم قط منكرا
إذا انحط قدر الدر من أجل بائع
فذلك جهل باللآلي بلا امترا
كما عاب شعري قائل في قريضه:
ألا فاعفنا عن رد شعر تنصرا
وبلغت هذا الضوضاء مسامع الأدباء في كل قطر فكتب الشيخ رشيد الدحداح في كتابه «قمطرة طوامير» انتقادا مطولا حمل فيه على التميمي، وأخيرا كان الكلام الفصل في هذه المعركة الأدبية للسيد عبد الجليل البصري الذي قال:
حكمت وحكمي الحق ناء عن المرا
بأن التميمي الأديب تعثرا
بذم قواف في بديع جناسها
وذلك نوع في البديع تقررا
ثم يمدح شعراء نصارى رادا على قول صالح:
فمن كابن عباد يجاري مهلهلا
وكان مسيحيا تقدم يشكرا
وكالأخطل المعروف شاعر تغلب
يسوق به القسيس في الدير كالفرا
ثم يتطرق إلى مدح بطرس فيقول:
فصيح رقى أوج البلاغة يافعا
فأشعاره حلى بها ربع قيصرا
أتى منه نظم هد حجة صالح
وإن كان في المنظوم قدما تصدرا
وقد كان لي من صالح خير صحبة
وعند اتباع الحق ما زلت أجدرا
لكل تراني قد قضيت بحقه
وأسأل بارينا الهدى والتبصرا
وهكذا ألقت الحرب أوزارها، واستراحت أقلام شعراء ذلك الزمان.
ولما كان بطرس «كاخية» الأمير ورئيس ديوانه وجب علينا أن نعرف القارئ بنثره الديواني، ولكن ذلك النثر كان يكتب للبشر على مقدار إفهامهم، ولهذا لا يعول إلا على بعض رسائل إخوانية، وقد رأيته في هذه ينحو نحو الخوري الصائغ؛ كتب كرامة يجيب الشاعر الناثر فتح الله الطرابلسي:
غير أنه لما عاندني الدهر «برؤياكم»، واعدني وانتحل مذهب عرقوب بلقياكم. ونأت «أفعال مقاربة» وتدانت «المعمولات» بعوامل «عطف» الفؤاد عليه «عطف نسق» المحتاج إليه ...
إلى أن يقول: وانتصب القلب «بالاختصاص لحبكم»، «وجزم» أن لا يحله غيركم.
ولم يقف عند هذا الحد بل شاء أن يزيد على من تقدموه، فهرع إلى علم العروض فقال: وتحقق أن «طويل» البعاد «بالسريع متقارب»، ولم يزل يعري «الأسباب مقتضبا متدارك». ثم لا يكفي الصرف شره فيقول: ففؤادي «الأجوف بلفيف» حبكم «مقرون»، وشوقي «المتضاعف مزيد غير مهموز» ولا «معلول» إلخ.
ولم يهمل هؤلاء الرواد الموشحات، فلبطرس والأنسي وغيرهما موشحات، وتشطيرات وتخميسات وبديعيات، وهكذا خاضوا غبار كل ما سبقهم إليه «إمامهم» صفي الدين الحلي، ومن جاء بعده من شعراء عصر الانحطاط.
ولست أقول لك، كما قال القدماء: وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق، فليس في شعر هؤلاء لآلئ، وإن كانوا جهابذة زمانهم، وشعراء عصرهم. (2-3) ناصيف اليازجي
الشيخ ناصيف اليازجي هو شاعر الأمير الثالث أو آخر شاعر «رسمي» دخل القصر، ولا شك أنه أفيضهم قريحة وأنقاهم ديباجة. دخل قصر بتدين حين اعتدل ميزان نهار العهد البشيري، فقرب الأمير شاعره الجديد وأدناه. جعله كاتب سره، فاتبع في رسائله بروتوكول القصر، يكتب إلى هذا «محبنا» فيظل كما هو ... وإلى ذاك «أخونا» فيصير شيخا مكرما يتوارث بنوه هذا اللقب. وعلى هذا النسق جرت عادة الوزراء في الكتابة إلى سعادة المير؛ تفتتح مراسيمهم بهذه التوطئة: «افتخار الأمراء الكرام، مرجع الكبراء الفخام، ولدنا الأمير بشير الشهابي الجزيل الإكرام، دام مجده على الدوام، بحفظ الملك العلام.»
لا بد من أن يكون القارئ، بعدما قرأ ما قرأ عن شعراء الأمير؛ مشتاقا إلى التعرف بسعادته خلقا وخلقا. اسمه يملأ الأذهان حتى الساعة، وهناك قصص تروى وحكايات تسرد، فتقوم إلى جانبها صور عنه فيها الخطأ وفيها الصواب، أما معاصروه فرسموه في التاريخ هكذا: أشقر اللون، معتدل القامة، طويل اللحية كثها، نحيف، أقنى الأنف طويله، أشهل العينين. أما صفاته فقالوا فيها: جامع كامل الصفات الحميدة، عاقل، عادل، حليم، شجاع، فاضل، كريم، دين، عفيف، مهاب، شهم، يقظ، فطن، صادق، رزين، حزوم، جبار، فتاك، صبور، غيور.
أما سلسلة نسبه فيرويها صاحب كتاب أعيان لبنان - كما ذكر صفاته - مبتدئا بإبراهيم وسام بن نوح فآدم حتى يمر المؤرخ، أو صائغ تلك السلسلة، بموسى وعيسى ومحمد - عليهم السلام ...
أما «أيام» الأمير فكانت شغل شعرائه الشاغل، تفتق وقعاته قرائحهم، وتخلق لهم كل يوم موضوعا جديد. «وسعادته» يسمع ما يقال مغتبطا، يهب مما نهب، وكذلك هي الحرب خيرها لناس وشرها لآخرين. ينظر الشعراء إلى حصة الأسد فيسيل لعابهم، وأميرهم جواد لا يبخل عليهم بما يسند قلبهم، فلا يبقون على الريق.
وهذا شاعره وكاتب ديوانه ناصيف اليازجي يرفع عقيرته ضاما صوته إلى صوت شاعر الأمير الكبير وغيره، فتتألف من هؤلاء جميعا «جوقة» لم يشهد مثلها بلاط من بلاطات ملوك ذلك العصر؛ لأن أكثر من وظف لهم الأمير كانوا يقولون الشعر، بل خير أهل زمانهم علما وأدبا، فيكونون كتابا في الديوان أيام العمل، ومداحين وصافين لأيامه المشهورة في أعدائه.
على هذا كان أبو سعدى البعيد الأماني، الذهبي الأحلام، ولكن النعم تأبى التأبيد، والكلمة المأثورة: «توقع زوالا إذا قيل تم» صادقة دائما، فهؤلاء مناظرو الأمير وخصومه ينصبون للأسد الشباك في الخفاء، ويحفرون دائما في أساس ولايته ليدكوها، فما مرت سنوات حتى قام قائمهم؛ كانت الثورات تلي الثورات «والعاميات» تلي العاميات، فمن عامية أنطلياس إلى عامية لحفد، حيث لا تزال «قلاعي لحفد»، التي حن إليها ابن القلاعي في شعره، تخبر عن بطش الأمير، وأشهر تلك القلع لا يزال يطلق عليه اسم «شير العمية».
أسكت الأمير تلك العاميات؛ فسكنت الأرض بين يديه زمنا إلى أن كان آخر العهد، ولكل أجل كتاب، فظهرت عامية حرش بيروت ، وتلتها عامية سن الفيل ، فأوفد الأمير من استخلصهم لينصحوا الثوار، فإذا بهم يشددونهم، فوجه إليهم بعض بني عمه فعادوا إليه حاملين خمسة شروط، فلم يقبل بها الأمير، وأرسل إليهم البطرك يوحنا الحاج الذي كان يومئذ كاهنا يدرس الفقه في بيت الدين على فقيه عصره الشيخ بشاره الخوري، فوجدهم قد أجمعوا أمرهم في أنطلياس، فلم يصغوا له وأظهروا العصيان.
وازدادت الثورة اشتعالا، فلجأ الأمير إلى البطرك الحبيشي فانتدب للمداولة معهم أحد مطارينه - بطرس كرم مطران بيروت - فسلمه الأمير بشير أحمد اللمعي شروط الثوار وهي: (1)
عزل بطرس كرامة من ديوانه، وتعيين كاتبين من كل طائفة. (2)
رفع السخرة بنقل الفحم الحجري من قرنايل إلى بيروت. (3)
إبقاء السلاح الكامل للبنانيين. (4)
تخفيف الإعانة. (5)
رفع الاحتكار عن الصابون؛ لأنه كان للأمير «مصبنة» في دير القمر، وكان عماله في البلاد يعاقبون ويغرمون من يشتري الصابون من غيرها.
وأرسلت هذه الشروط إلى بحري بك - معتمد الدولة المصرية - فشكر ووعد، وكان على أثر ذلك مد وجزر في خضم السياسة؛ إبراهيم باشا من جهة والدول من جهة، فجرف التيار أمير لبنان فترك عرينه في العاشر من تشرين الأول سنة 1840 وغادره معه أولاده الثلاثة، وزوجته، ومدبره، ومعه ماله وكنوزه. قال المؤرخون إن خزنة الأمير كانت 18000 كيس من النقود الذهبية القديمة.
وبعد خروج الأسد من عرينه نهبت سراي بتدين، ونزل الشيخ ناصيف بعياله إلى بيروت، وهناك انقطع إلى المطالعة والتأليف والتدريس ومراسلة الشعراء؛ يمدحهم ويمدحونه. شاع هذا الصنف من بضاعة الأدب لأن الشعراء لم يجدوا من يمدحونه، كما قلنا في غير هذا المقام، ومن شاء نموذجا من هذا النوع فليفتش عن الجزء الثالث والرابع من منتخبات الجوائب، إذا تعذرت عليه مطالعة دواوين شعراء القرن التاسع عشر كلها.
وكان لانقضاء عهد الأمير - كما كان لوجوده - فضل على الأدب العربي في لبنان؛ إذ استراح الشيخ ناصيف من مشاكل الديوان ومشاغله، فانصرف إلى التأليف طابعا على غرار القدماء، فدنا من الحريري في مقاماته، وضارع ابن مالك في أرجوزته «نار القرى»، ولم يعف من نظمه الطب والبيان والمنطق ... فكان لنا منه شاعر يخوض وسط المعمعة ... ولا يقصر في جميع الميادين.
أجل كان شيخنا دلال القريض؛ فخاض سوقه وشرى وباع ... فها هو قابع في بيروت يرسل عرائس الشعراء بشرا بين يدي رحمته ... تهمي ديمته على هذا الباشا، ويسح وابله على ذاك الوالي، ثم لا يبخل بهذه الدرر على قائمقام أو شاعر أو أديب أو وجيه ففي مخزنه بضاعة لكل بندر ترضي أنانية محبي الثناء. وهو في كل هذا المنظوم راض عن نفسه، يرسل الشعر سهلا هينا لينا فيدخل الآذان بلا استئذان.
ولم ينس ناصيف أميره المالطي؛
11
فأرسل إليه قصيدة ننقل بعضها؛ لنري القارئ نموذجا من شعر الشاعر المدحي:
طال شوقي لطول هذا البعاد
فترى هل لذاك من ميعاد
كلما أقبل الرجاء ثناه الد
دهر عنا، فكلنا في الطراد
خمدت نار ذلك الحي، ويلا
ه، ومن لي من جمرها برماد
واستقرت تلك الأباطح من رك
ض المطايا، ومن صهيل الجياد
لم تصبنا أيدي العداة بسهم
فرمانا بأعين الحساد
أيها الراحل الذي ضرب الأط
ناب بين القلوب والأكباد
ما سمعنا براحل أوحش الأح
باب عند ارتحاله والأعادي
ربما أنكر العدى منك أمرا
يتمنون هل له من معاد
علموا أن ذاك قد كان تأدي
ب أب فانثنوا عن الأحقاد
ضاق ذرع البلاد بعدك حتى
لا مناخ لناقة في البلاد
فكأن البلاد جسم بدون الر
روح، أو مقلة بدون السواد
أوقدت يا كليب بعدك نار
سال منها في الحي قلب الجماد
وانقضى القرم بعدكم كل سيف
كان في عهد سيفكم كالنجاد
كنت دهرا فبنت لم تغننا من
ك ولا عنك كثرة الأعداد
لك خوف لو صادف العين في الحل
م لصارت تخاف طيب الرقاد
تفخر الناس بالجدود ولكن
أنت فخر الآباء والأجداد
وبك المنتمي يباهي ولو باب
ن أبيه يدعى كمثل زياد
إن في هذه الأبيات أصدق وصف للحال بعد نفي الأمير، ولو كان للأمير تشاؤم ابن مروان؛ لتطير من شعرها الناعي إليه نفسه، ولاشمأز ذلك الأسد فراسه عند ذكر كليب ، ولكن شيخنا - رحمه الله - كان يستوحي الكتب القديمة ولا يستلهم غيرها، فهو في كل ما نظم وما كتب زعيم المقلدين في عصره، لا ينازعه هذه الزعامة أحد. فكأنه ذات مجردة عن المكان والزمان، فما علق بشعره ونثره شيء منهما. فمن لا يعرف أنه نشأ في كفر شيما وشب واكتهل في بتدين، وشاخ في بيروت؛ خاله من مواليد نجد واليمن، وحسبك برهانا على هذا الزعم أنه كتب في «مجمع البحرين» مقامة سماها «المقامة اللبنانية» وليس فيها شيء من ريحة لبنان، إلا وصفا فضفاضا يصلح لكل أرض جبلية؛ فالمتنبي الذي مر عرضا من وراء لبنان، فشاهد قفاه، أو رأى قممه من حمص، قد تأثر به أكثر من شيخنا اليازجي.
أما ما يعجبني من شيخنا فهو أن معجزاته اللفظية أربت على شيخ ربيعة الفرس. ما ترك في «مجمع البحرين» شيئا لم ينظمه شعرا، فمن أسماء الرياح حتى جراء الكلاب وخنانيص الخنازير، وهاك من هذا نموذجا بلا قيمة؛ قال - عظم الله أجره وشكر سعيه:
للخيل مهر، وحوار للجمل
والجدي للمعزى، وللشاء الحمل
والعجل للثور، وللحمير
عفو، كذا الخنوص للخنزير
وشبل ليث، ولضبع فرعل
وجرو كلب، ولفيل دغفل
وخرنق لأرنب، وتتفل
لثعلب، ولابن آوى نوفل
وكل ذلك بالسهولة التي اتسم بها شيخنا، وخصوصا في غزله الذي عليه دل الحاضر المتنعم كما ترى:
أتظن هذا الخال فوق المبسم
إلا عبيدا حارسا در الفم •••
أخاف إذا أشار براحتيه
لعلمي أن روحي في يديه
وللشيخ - ككرامة وغيره من أدباء وكتاب هذا العصر - وثبات موفقة على «العلوم» حتى في الشعر الغزلي كما ترى عند شيخنا:
ما بين أعطاف القدود الهيف «سبب ثقيل» قام فوق «خفيف»
من كان كاتب «نون» هذا الحاجب
هيهات ليست من بضاعة كاتب •••
مليح شهدنا أن نارا بخده
لأنا وجدنا بينها فحم خاله
حقا إن غزل الشيخ ناصيف اليازجي أدق وأحلى من «غزل البنات» وهو رقيق كنسيم لبنان العليل، والشيخ فيه مبدع وإن كان الإبداع في الغزل يكاد يكون مستحيلا. أما في غير هذا فمشى على سنن من كانوا قبله ، واقتفى أثرهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ...
كان ناصيف يظلع في سيره خلف القدماء، وصديقه الشدياق يصيح به: وراءك، حنانيك، والشيخ هاجم مشمر الأردان لا يلوي على شيء، يعنيه أن يكون له في كل معركة غبار، وحسبه ذلك. وكان له من يوحيه فيجد، ولا يلهث، ولا يتعب، ولا سيما حين يأتيه ثناء طيب من شاعر كابن الصباغ العراقي، الذي قال فيه:
كبش الكتائب والكتاب وإنه
بالنحو ينطح هامة «ابن خروف»
متوقد الأفكار يوشك في الدجى
يبدو له المستور كالمكشوف
فطن تمنطق بالفصاحة، وارتدى
جلباب علم النحو والتصريف
وكان «التاريخ الشعري» - وهو من معجزات دهر الشيخ - رائج السوق في ذلك الزمان، فملأت «تواريخ» شيخنا المقابر والقصور، واغتبط بها الأزواج والمواليد، حيا بها الباشوات والسلاطين بالمئات في القصيدة الواحدة، فتوالدت في قصائده وتكاثرت «كالآميب» التي يسميها العوام «حبل القر»، ولم يبزه أحد إلا معلمنا عبد الله البستاني كما مر بك. (2-4) الحكم في شعره
إن قريحة الشيخ فوارة، أجاد المدح وتفوق على شعراء عصره بالرثاء المملوء حكمة، وقد يرثي من لا يعرفه، كالمتنبي في اللاذقية، فيتوسل إلى رثائه بوصف زوال الدنيا، والحكمة التي نحبها نحن، فيخرجها إخراجا بطيئا كأنه مشي الشيوخ الأجلاء، إنه لا يقذفها قنابل كالتي كان يرمي بها المتنبي الناس؛ فهو يقول مثلا:
للموت يولد منا كل مولود
يا أيها الأم ربي الطفل للدود
ويقول في مقام آخر، ونعم القول:
متى تر الكلب في أيام دولته
فاجعل لرجليك أطواقا من الزرد
لا ترتج الخير من ذي نعمة حدثت
فهو الحريص على أثوابه الجدد
ألا ترى مثلي أنه شعر طلي، غير أنه محتاج إلى شيء لا أدري ما أسميه ليذهب إلى مدى أبعد من النفس. إني أحس بتكسره على أبواب الحواس فيقف عندها. لست تهابه كما تهاب شعر المتنبي وغيره ممن أرسلوا الشعر حكمة، فهو وشوقي ينظمان الحكمة نظما، والفكرة إن لم تنبثق من أعماق نفس صاحبها فلا تبلغ الأعماق، اسمع قوله:
وما للميت إلا قيد باع
ولو كانت له أرض العراق
إذا حمل النضار على نياق
فأي الفضل يحسب للنياق
وأقبح ما يكون غنى بخيل
يغص وماؤه ملء الزقاق
إذا أحرزت مال الأرض طرا
فمالك فوق عيشك من تراق
أتأكل كل يوم ألف كبش!
وتلبس ألف طاق فوق طاق
فضول المال ذاهبة جزافا
كماء صب في كأس دهاق •••
إذا هلكت رجال الحي أضحى
صبي القوم يحلف بالطلاق
أسر الناس في الدنيا جهول
يفكر في اصطباح واغتباق
وأتعبهم رئيس كل يوم
يكون لكل ملسوع كراق
ويقول أيضا في الحكمة التي نجد أكثرها في شعره الرثائي:
تكثر الخيل في المرابض إن عد
دت ولكن تقل عند السباق
المعنى شريف - هكذا عبر السلف الصالح - ولكنه يصل إلينا فاترا ينقصه «الزخم» الذي هو من مقومات الشعر.
أما رثاء الشيخ فهو عندي في المحل إلا رفع من شعره، إنه كلام يلطف من حرقة الجرح، وإذا كان لا يرضينا اليوم فقد كان في عصره يستحلى ويستلمح ويحتل صاحبه صدر المحفل، هاك نموذجا من الكلام الذي درج عليه الشاعر في مواقف النوح:
ماذا التعلل في دنياك بالأمل
هل في يمينك ميثاق من الأجل
إن كنت تعلم أن النفس خادعة
فحبذا لو قرنت القول بالعمل
إلى أن يقول في رثاء هذا الشاب الذي اسمه خليل مسدية:
بني مسدية أسدى الإله لكم
صبرا على هول هذا الحادث الجلل
كن يا أباه كإبراهيم حين سخا
لربه بابنه في ذلك الجبل
يا ليت هذا بنفس من أحبته
يفدى، كما قد فدي إسحاق بالحمل
لسنا نعزيك يا من لا عزاء له
وإن سكتنا وقفنا موقف الخجل
إن الحزين إذا هونت فجعته
زادت فكنت كمطفي النار بالشعل
فاعذره فيما تراه منه وادع له
بالصبر فهو له من أنفع الحيل
وشعر الشيخ كله هذا الطراز المهلهل، وما أراه في هذه السهولة إلا ضريب أبي العتاهية؛ اسمع كيف يعزي صديقا كان تاجرا كبيرا وأفلس:
يا بائع الصبر لا تشفق على الشاري
فدرهم الصبر يسوي ألف دينار
لا شيء كالصبر يشفي جرح صاحبه
ولا حوى مثله حانوت عطار
إن السلامة كنز كل خردلة
منه تقوم من مال بقنطار
والمال يدعى صديقا عند صاحبه
وقد يكون عدوا داخل الدار
يا من حزنت لفقد المال إنك قد
خلقت
12
عار وما في ذاك من عار
فيا له شعرا كان فراج الأزمات، وبلسم الجروح، ينتظر شيء منه في الخطوب الجسام ليكسر من حدتها، والشيخ جواد رحيم.
أما في المدح فقد شرق شعر الشيخ وغرب، فأصحابنا شعراء هذه الحقبة، وبخاصة الشدياق والشيخ ناصيف قد زينوا نحور الملوك والسلاطين والأباطرة بعقود شعرهم الضادي. فاز الشدياق بالحظوة والجوائز الضخمة، أما ناصيف فناجاهم من بعيد. إن شعر هذين الشاعرين مختلف جدا، نفسا وتعبيرا وتفكيرا ولغة؛ الشدياق صلب وناصيف رخو ولكنه غير هش. وبعد فليس هنا موضع الكلام على شاعريتهما، فلنقل كلمة في أسلوب الشيخ ناصيف: قد يكون لمزاج ناصيف أكبر عمل في إخراج شعره على هذا النسق، فهو في جميع أغراضه يمشي على مهل، وفي التأني السلامة.
أجزل الله أجره. لقد عمل جهده في زمن كانت روح الشعر فيه تنازع، فحسبه أنه كان خير شعراء زمانه تقليدا، فالتجديد في ذلك الزمان لم يكن في الحساب.
الشعراء العلماء
(1) الشيخان: الأحدب والأسير
عاشا صديقين، وكأنهما كانا على موعد فلحق الأحدب بصفيه الأسير بعد أشهر. فالشيخ إبراهيم الأحدب طرابلسي المنشأ والمربى، دب ودرج على موسيقى نهر «بو علي» الثرثار، وعلق بنفسه أريج بساتين الفيحاء. أعطته وأعطاها فرد إليها الكيل كيلين، وعرف بها وعرفت به حقبة من الزمن. كان لجمال طبيعتها يد في طبعه على حب الجمال، فاستيقظت فيه قريحة الشاعر العجيبة، فأرسل الشعر عفو الطبع، وهو لو شاء أن يكون حديثه كلاما منظوما لاستطاع؛ كذا قالوا، ولكنه قول يصدق فيمن بلغ مجموع ما نظم ثمانين ألف بيت، وكلها من الكلام الذي لا غبار عليه.
نشأ الأحدب في وكنات الكتاب، وما كان أكثرها في طرابلس، وأخذ لغة الضاد عن شيوخ زمانه. حفظ كتاب الله فأولى كلامه مسحة رائعة من جمال البيان والبديع، وتبحر في العلوم الدينية واللسانية، فصار حجة جيله في الفقة والتأويل والأحاديث المسندة، وكان له القول الفصل حين تختلف الآراء في الفرائض؛ فيأخذ الميراث من يستحقه.
وكأن طرابلس قد ضاقت على الشيخ، فرحل إلى عاصمة الخلافة فأحله علماؤها صدور مجالسهم، ثم زار مصر فلقي فيها الحفاوة والاحترام، ثم قفل إلى بيروت فكان محله من الأدباء والمتأدبين محل القطب من الرحى، فخدم الوطن والآداب بمن علم وهذب وثقف، وبما ألف وأنشأ وصنف من كتب جليلة كانت زاوية ضخمة في صرح النهضة الحديثة. وإذا كان لا بد لكل قرن من ثالوث، تبعا للتقسيم التقليدي، فالشدياق والأحدب والأسير هم ثالوث الفصحى في القرن التاسع عشر.
أخرج الأحدب ثلاثة دواوين من الشعر، وثمانين مقامة نحا فيها نحو الحريري، فلم يقصر عنه بلاغة وصحة تعبير، وبارى الزمخشري في كتابه «فرائد الأطواق في أجياد محاسن الأخلاق» فبزه أو كاد، وجارى ابن مالك، ولكن في غير نظم النحو والصرف، فنظم ببيان مشرق الديباجة «أمثال الميداني» فجاء كتابه أنيق النظم والطبع، أخرجته المطبعة اليسوعية بحلة قشيبة، فكان آية من آيات الطباعة في ذاك الزمان وهذا العصر.
وكأني بثقافة الشيخ العربية قد دفعته إلى إحياء آثار السلف، فعمد إلى تحقيق وشرح رسائل بديع الزمان في كتاب سماه «كشف المعاني والبيان» فكشفت لنا حواشي الشيخ إبراهيم عن أدب وظرف فيما حشى وعلق، فصار الكتاب كتابين، وكثيرا ما يحدث هذا حين تتقارب الشخصيتان.
لم تكن في ذلك الزمان سوق تنفق فيها بضاعة الشعراء، فحدث ما يحدث عادة في القرى النائية حين تهجم علينا الأثمار هجوم المستميت، فنحتار كيف نصرف وفودها المتدفقة فنعمد إلى تهاديها. وهذا ما أصاب أدباء القرن التاسع عشر، فمدح بعضهم بعضا، وهكذا خلقوا نوعا جديدا سموه «المراسلات»، وما هو إلا مدح شاعر لشاعر، كما مر، فكان لشيخنا الأحدب في هذا الباب جولات عديدة. راسل شعراء عصره فأطراهم وأطروه، وحك لهم وحكوا له. هاك ما كانوا يسمونه مراسلة، ثم قل لي بعدئذ إذا كان المتنبي وغيره قد بالغوا في المدح أكثر من هؤلاء . قال الأحدب مخاطبا الشيخ ناصيف اليازجي حين أهدي إليه مجمع البحرين، فابتدأ بالغزل كعادة الشعراء في ذلك الزمان، إلى أن قال مقرظا:
أبدى «الحريري» على خده «مقامة» تنسي «بديع الزمان»
أقلامه في الطرس تبدي لنا
أغصان روض، أو فروع القيان
فقل علاه «مبتدأ» في الورى
من غير «أخبار» ودع ذكر «كان» «والفرق دان» إنه في العلى
يقصر عن إدراكه «الفرقدان»
فانتفض ناصيف للإجابة مبتدئا بالغزل أيضا حتى قال:
في خدها نار المجوس التي
قام لديها الخال كالموبذان
أو «نار إبراهيم» مشبوبة
في مهج الحساد ذات الدخان
هذا «خليل الله» والناس في الد
دين وفي الدنيا فنعم القران
الشاعر الواري الزناد الذي
تحكي قوافيه عقود الجمان
ينسي جريرا نظم أبياته
ونثره ينسي بديع الزمان
يا خير من صام وصلى ومن
قام خطيبا وارتدى الطيلسان
وهكذا قعد شعراؤنا يتسلون بالترمس الأحلى من اللوز ... ولكن الشيخ الأحدب لم يكن وكده هذا النوع من الشعر، بل كان يتطلع دائما إلى «الجديد» وإن لم يدركه أهل زمانه، فلأنهم كانوا يدورون على قطب واحد من أنفسهم.
كان مارون النقاش أول من ألف في الفن المسرحي بلغة الضاد - كما سيأتي - فأعجب ذلك أهل عصره فوقف الشعراء يتفرجون. أما إبراهيم الأحدب فأقدم ولم يقف. نظم مسرحية مدرسية مؤلفة من ثلاثة فصول ضمنها الكثير من الفوائد، وقد طبعت عام 1285 وهي تبتدئ هكذا: يقف المؤلف ملخصا موضوع مسرحيته، ثم يرفع الستار فيظهر اثنا عشر ولدا يتحاورون بما يلائم سنهم، وتمشي الرواية.
ولم يقف الشيخ عند هذا الحد الأولي، بل تجاوزه إلى تأليف مسرحية أدبية موضوعها ابن زيدون وصاحبته ولادة، وهي خليط من شعر ونثر مسجع.
أما قريحة الشيخ السيالة، فكانت كنهر بو علي الذي نشأ على ضفتيه كما قلنا. حدث الرواة عنه: أنه كان يملي ما يقترح عليه القول فيه بلا توقف، وكثيرا ما كان ينظم القصيدة الطويلة، ويرتجل الرسالة أو الخطبة في أي موضوع كان، فيبرز ذلك تاما صحيحا بلا تكلف.
أما كتابه النفيس «فرائد اللآل في مجمع الأمثال »، فرفعه هدية إلى السلطان عبد الحميد، وقد افتتحه كابن مالك في ألفيته؛ قال ابن مالك:
قال محمد هو ابن مالك
أحمد ربي الله خير مالك
وقال شيخنا:
يقول إبراهيم وهو ابن علي
أسير ذنبه طليق الأمل
ثم يتخلص إلى مدح السلطان فيقول:
فالقصد فيه عز كل مصر
عبد الحميد روح هذا العصر
ظل الإله الوارف الظليلا
من لم نجد لعزه مثيلا
أما الكتاب فهذا نموذج منه، والذي أضعه هنا بين هلالين، قد أخرجته المطبعة بالحبر الأحمر، للدلالة على أن الأمثال - حتى في الشعر - لا تتغير عن مواردها:
دع طمعا يوقع في مأثم «إن الشقي وافد البراجم»
وصن أمورا ذو الحجى واراها «إن ورا الأكمة ما وراها»
لا تخل بالمرأة، واحذر التهم «إن النسا لحم يرى على وضم»
على الفتى من نفسه دليل «إن الغني ذيله طويل» «عن مهجتي» هذا الشقي «أجاحش»
فإنه قد جاء وهو فاحش
ثم يختم هذا الكتاب القيم الضخم بنبذ منظومة من حديث النبي الكريم، وكلام الخلفاء الراشدين وغيرهم.
وللشيخ أيضا نظم فتاوى شعرية، وله ديوان مديح لم يغفل فيه عن نظم الموشحات. لقد عرفت شيئا من شعره التعليمي، ولعلك رأيت فيه شيئا لم تألفه؛ لأنك منه كمن يتفرس في متحف فيقع نظره على أزياء يستغربها أو ينفر منها؛ ولهذا أحب أن تسمع شيئا من ديوانه «النفح المسكي في الشعر البيروتي» قال متغزلا:
من لي بعطار أراني شامة
سوداء فوق الوجنة الحمراء
أمسى يبيع ويشتري أهل الهوى
في سوقه بالحبة السوداء
وقال في آخر:
خزنت بمالك لحظه جناته
أيكون مالك خازن الجنات
كلي عيون أن تجلى وجهه
فلذا أراه من جميع جهاتي
وقال أيضا:
عرجت في الحب ولهانا على رشأ
ما شأنه بين أرباب الغرام عرج
نبي عشق لعشاق الجمال أتى
لذاك فوق سماء الحسن منه عرج
وللشيخ أيضا «تواريخ»، وألغاز شعرية كما كانوا ينظمون في تلك الأيام.
وكأني أسمع من يقول لي: وأين هذا من غزل اليوم؟ فإلى هذا أقول: لكل زمان رجال، ويا ويل الأمة إذا كان الأبناء والأحفاد دون الآباء والأجداد؛ فحسب الشيخ أنه أسمعنا كلاما فصيحا في عهد كانت العجمة فيه تسوق الناس بعصاها، لقد عمل ما عليه، فلنعمل ما علينا.
أما الشيخ يوسف الأسير، فولد في حجر بساتين صيدا، ثم انتقل إلى دمشق حيث أتم دروسه الأولية، ورحل إلى مصر للتفقه في العلوم العقلية والنقلية، وعاد من الأزهر بعد سنين فكان شاعرا وشيخ علم أكثر منه مؤلفا ومصنفا. شارك في بنيان هذه النهضة بتعليم الكثيرين الفقه وغير ذلك من العلوم، أما تآليفه فأكثرها في العلوم، وقد عرفت من تصفحي ديوان الأنسي أن للشيخ مسرحية عنوانها «سيف الأفكار».
كان شيخنا خفيف الروح، يستطرف مجلسه ويستظرف، وكان شاعرا كالأحدب وإن لم تكن له غزارة مادته. شعره رائق فصيح، أكثره مدح حتى يكاد يكون ربع ديوانه في مدح صديقه أحمد فارس. وللشيخ في النقد أشياء طريفة كتبها يوم دارت رحى المعركة الأدبية بين الشدياق واليازجي والبستاني، فجلى الشيخ يوسف في ذلك المضمار منتصرا لحليفه الشدياق، وإن كان الشيخ ناصيف قد امتدح ديوانه «الروض الأريض» قائلا:
أسير الحق في حكم تساوى
فما يدرى الحبيب من البغيض
إمام الشعر يبتدع القوافي
ويأمن دونها حول القريض
أصار ليوسف بيروت مصرا
تدفق بحر علم مستفيض
يقل له الثناء ولو أخذنا
قوافيه من «الروض الأريض»
وكأني بك تقول لي: والشيخ يوسف شاعر أيضا؟ نعم يا سيدي، فقلما تجد واحدا من هؤلاء الجهابذة لم يقل الشعر، ناهيك أن الشيخ يوسف الأسير شاعر مجيد وفي ديوانه القصائد والموشحات والمقطعات الحكمية، وهاك شيئا مما قاله في شعراء عصره:
خليلي كم قد جد في الناس شاعر
وليس له بيت من الشعر عامر
وأحسن شعر ما تراه مهذبا
بليغا به يلتذ باد وحاضر
به تطرب الأسماع من كل منشد
وتجري به الأمثال وهي سوائر
وللشيخ الأسير أبيات في وصف لبنان ونهضته الحديثة، بعد مذابح سنة 1860 التي عقبها ما كان يعد استقلالا في ذلك الزمان:
ترى لبنان أهلا للتهاني
فقد نال الأمان مع الأماني
وأضحى جنة ، من حل فيه
قرير العين مسرور الجنان
وجدت للعلوم به دروس
وكانت في الدروس وفي التواني
وللأخبار قد وجدت سلوك
1
كذلك طبع ذي الصحف الحسان
وللشيخ أيضا رسائل نثرية وشعرية، وتلك خطة كان لا بد للأديب من ركوبها في ذلك الزمان. (2) عمر الأنسي
قال شيخو: «ولما كانت مصر تفتخر بطهطاويها، والعرق بأخرسها، كانت بيروت تأنس بأنسيها. قلدته الحكومة السنية عدة مناصب؛ كنظارة النفوس في لبنان، وعضوية مجلس بيروت، ومديرية حيفا، ونيابة صور، فتقلب فيها كلها وأظهر فيها دراية وعفة نفس وعلو همة.»
2
ويقول جامع ديوانه - وهو ابنه الدكتور عبد الرحمن - إنه جمع من ديوان أبيه ما عثر عليه، وبعد أن نقحه ما استطاع رتبه على حروف الهجاء تاركا ما كان في الهزل إلا ما نزر من الملح جلبا للأنس وترويحا للنفس.
3
فليت الدكتور ترك لنا ديوان أبيه بعفشه ونفشه؛ لتبدو لنا نفس الشاعر المرحة كما خلقت. فلولا الترك والشدياق لم تبن للأدب سن في هذا العصر، حتى خلنا أن الضحك محرم على هؤلاء، إن شعر الأنسي رصين التعبير، بريء من الركاكة. قال الشعر المدحي مثل معاصريه، مهتديا بالصناعة اللفظية التي كانت نجمة قطب الشعراء. قال كرامة قصيدته الخالية، فقال الأنسي قصيدة أطول منها، قافيتها لفظة «العين»، وهي في مدح الأمير أمين أرسلان، وهذا مطلعها:
خذي من ودادي العين يا قرة العين
ومن عبد عين ما رأى منك من عين
ولا تبعديني عمد عين، فتشمتي
وشاتي، وتغري في الملامة بي عيني
ثم يطلع الأنسي علينا بمعجزة لفظية جديدة، فيقول قصيدة من أبحر متعددة، وقواف مختلفة تنقل منها مطلعها:
يا للهوى من لصب لم ينل أربا
عطفا على مستهام رق وانتحبا
ولك أن تقول في الصدر: «أملا» أو «وطرا» بدلا من «أربا»؛ إنك تجد القوافي مهيأة أمامك طبعة للسانك، فاختر ما تريد. وهكذا تصير هذه القصيدة الطويلة مثلثة القافية متعددة الأوزان، فحكم ذوقك واقرأ ... وإذا أردت حسابا أدق من حسابي هذا فراجع مشاهير القرن التاسع عشر،
4
تعلم أن هذه القصيدة تستحيل تسع عشرة قصيدة وأكثر، وتقر معي أن عصر النهضة هو عصر المعجزات.
ليس هذا ما يعنيني من الأنسي فهو في كل ذلك كغيره من الرواد، ولكن شيئا لم يبد له أثر في شعر هؤلاء قد رأينا أثره واضحا جليا في شعر الأنسي، فلو أبقاه لنا ولده لعثرنا على كنز من الهجاء جزيل؛ فالأنسي هجاء رواد هذه الحقبة، ولعله هو الذي أوحى ما قيل في الشاعر إلياس صالح، كما سيرد في حينه. قال الأنسي في قهوجي اسمه هلال:
تعس الهلال القهوجي لأنه
قد قطع الأنفاس من «أنفاسه»
5
هذا الهلال هو الهلاك، وإنما
غلطوا ولم يضعوا العصا في رأسه
كان شيخنا يدخن النارجيلة كما يستدل من بيته الأول، والمولع بها يولع طبعا بالقهوة؛ حتى يرى إساءة طبخها والبخل بالبن كفرا لا غفران له؛ ولهذا قال الأنسي يهجو قهوة أحدهم:
سحقا لقهوة من أمسى يجود لنا
بقهوة من سحيق الفحم سوداء
سوداء صفراء، يبدو من فواقعها
ريح يهيج سودائي وصفرائي
ما خلت من باسط كفا ليشربها
إلا كباسط كفيه إلى الماء
وقال في أقرع:
رأيت أقيرعا في الرأس منه
عجيب بات يخفيه ويبدي
يغطيه فيستر سلح هر
ويكشفه فيظهر إست قرد
ومما قاله في هجو بيت وصاحبه، وهي طويلة جدا، مع أن ابنه يقول: حذفت منها جملة أبيات:
حتى وصلت لداره، لا حييت
طللا، ولا رحبت فنا ومعرسا
فنظرت بيتا لا أشك بأنه
بيت الخلاء لمن يريد تنفسا
تتسابق الجرذان في عرصاته
زمرا تنوع جيشها وتجنسا
وبه العناكب طالما قد خيمت
أو طنبت حتى تستر واكتسى
بيت تجاوره القبور وما به
من يستحق إذا قضى أن يرمسا
فيه الذباب تنوعت ألوانه
ملأ الفضا لو رام أن يتشمسا
وبعد أن قلب ذلك الرجل على نار هجائه حتى صار كسفود النابغة، ختم كلامه بقوله له:
كلفتني نظم الهجاء ولم يكن
دأبي، ولكن الأسى لا ينتسى
ولقد أتتك فريدة لو شابها
إبليس يا ابن الأرذلين تبلسا
قابلت طولك يا بليد بطولها
بل ليس موضوع هناك فيعكسا
وتعجرفت ألفاظها بمعجرف
فهي العملس حيث كنت غملسا
لكن معناها أرق من الصبا
لطفا لدى من بالقريض استأنسا
لقد صدق الشيخ في وصف قصيدته، ففيها الكثير من الألفاظ الغريبة الخشنة، ولهذا قدم أحسن العذر بين يديها، فكأنه ابن الرومي حين اعتذر لصاحب المهرجان عن خفة الأوزان بأشرف المعاني.
ونلحق بهذا الباب من شعره بعض أبيات من قصيدة قالها في رثاء برذون:
كديش كان ذا صبر إذا ما
رماه الجوع بالأمر العسير
وكان إذا ألم به اضطرار
لأجل التبن يقنع باليسير
وكان يود لو في العمر يوما
رأى في نومه طيف الشعير
توفي وهو في ضنك ينادي:
أليس لمستجير من مجير
رمته يد الخطوب فصيرته
طعاما للوحوش وللطيور
فيا أسفي ويا كدري وحزني
على عنق حكى عنق البعير
ويا أسفي على كرش عريض
رمته يد المجاعة بالضمور
فكم سوط له صوت عليه
وندب في الأصائل والبكور
وأقلام العصي لها صرير
بطرس أديمه فوق السطور
لقد نشبت مخالبها المنايا
به فرأى الحياة من الغرور
وقد أوصى لصاحبه برحل
وجل أخلقته يد الدهور
وأوصى بالحزام له ولكن
ليلبس كالوشاح على الخصور
وأوصى بالزمام وكان ممن
يرى حفظ الذمام إلى العشير
قلنا إن شيخنا كان يدخن النارجيلة، وها نحن نقرأ خمسة أبيات قالها بلسانها فنكتفي بثلاثة منها للدلالة على إبداعه:
قالوا تحملت نيرانا فقلت لهم:
النار في حب من أهوى ولا العار
شهرت حتى غدت تعشو السراة إلى
ناري، ولي بمزيد الفضل آثار
فها أنا مثل «صخر» حين قيل به:
كأنه علم في رأسه نار
كان مجلس الشيخ الأنسي - كما أرى في شعره - مجلسا حافلا بالأنس، تستهوي صاحبه الطرافة فيصفها بكل طريف؛ فاقرأ هذين البيتين من قصيدة بين بين في الطول بنى «عروضها» على السين، و«ضربها» على الثاء؛ لتكون محاورة طريفة بينه وبين ألثغ اسمه سليم. قال الشاعر:
أقول له: يا بدر مالك عابسا!
يقول دلالا: إنني بك عابث
فقلت: وما للطرف أصبح ناعسا!
فقال هو الفتان للعقل ناعث
ثم يمضي في هذه القصيدة بين قلت وقال ويقول ، حتى يقول عشرين بيتا مطبوعة على هذا الغرار، وأظنه مبتدعا في هذا غير متبع أحدا، أما في الغزل فله تفنن قصصي من نوع آخر. قال:
لثمت يد المحبوب يوما فقال لي
على خجل: حوشيت يا علم المجد
مقامك أعلى أن أراك مقبلا
بجسمي غير الجيد، والثغر، والخد
فقلت أرى إحياء نفسي بقبلة
برجلك أولى من هلاك أخي الوجد
وما أنت إلا كعبة الحسن حيثما
لثمتك نلت الأجر يا غاية القصد
فأعجب حتى قال: سبحان من برى
لنا دولة مولاي أضحى بها عبدي
وللشيخ أحاجي كما لشعراء زمانه، وله غير ديوانه الشعري رواية تمثيلية عنوانها «كشف الظنون عما جرى بين الأمين والمأمون» دلنا عليها ذكره لها في ديوانه.
هذا هو الرائد الأنسي الذي ابتسم معه الشعر في القرن التاسع عشر، كما ضحك مع الترك قبله. (3) القاسم الكستي
كل هؤلاء الرواد من الملتين إن لم يكونوا تلاميذ «مدرسة تحت السنديانة» فهم تلاميذ مدرسة تشبهها، فلا حاجة إلى التكرار والمراجعة، والشيخ الكستي، كفطاحل زمانه شاعر له ديوانان: مرآة الغريبة، وترجمان الأفكار، وله أيضا رواية تمثيلية عنوانها: «حكمة الأفكار» يدلنا عليها تقريظ لها في ديوان الأنسي.
وللشيخ الكستي أراجيز طويلة أشهرها مقصورة كأنه يعارض بها المقصورة الدريدية في حكمها، والكستي يجاري صديقه الأنسي في مواضيعه، فيقول أرجوزة فكاهية في وصف الملوخية، منها:
خيوطها بيضاء كاللجين
تظهر كالصبح لذي عينين
لو أنها قد نبتت في اللد
يشمها من في بلاد الهند
إن ملئت بها بطون القصع
تشرقها الأبصار قبل البلع
ترى عليها كثرة الملاعق
تقرع بالأسنان كالصواعق
كانت للقمان الحكيم مأكلا
وجوفه لها استقر منزلا
وكان يوصي سائر الأطبا
بقراط أن يستعملوها شربا
كذا ابن سينا قال في القانون
لا تبخلوا بها على البطون
وخصها بالذكر أفلاطون
وقال منها يصنع المعجون
وكما بارى الأنسي ابن الرومي في الهجاء، رأينا شيخنا الكستي يباريه في وصف المآكل، ثم يتفق مع الأنسي في رثاء العجماوات، ولكنه لا يرثي كديشا بل كنارا، ولا يهجو صاحبه كالأنسي بل يعزيه، وهاك بعض ما قال:
يا صاحبي عزيت بالكنار
فإنه من أحسن الأطيار
ما مات من جوع ولا من قله
لكن رماه ريشه بعله
عليه لا تحزن وكن صبورا
والتزم الشكر تكن مأجورا
لو كان يفدى بالنفيس الغالي
فديته من طارق الليالي
لكن إذا ما حدث الموت نزل
لا ينفع الحزم، ولا تغني الحيل
عوضك الرحمن عنه طيرا
يكون بالتغريد منه خيرا
ويصف شكل ذلك الكنار، فيقول:
ذو ذنب فاق، ولله العجب
على اللجين وهو بالحسن ذهب
مزين بالتاج كالطاووس
ملون الرداء كالعروس
لله حسن ذلك المنقار
من ذهب قد صيغ لا من قار
قد كان في الدنيا من الزهاد
ملازم الخلود بانفراد
وعاش محبوسا ولم يشك الضجر
حتى أباده القضاء والقدر
فإنني أهدي إليه الفاتحة
وإن يكن من الطيور الصادحه
أشهد أنني شممت رائحة شعراء «يتيمة الدهر» في هذا القريض - رحم الله من قاله. (4) محمود قبادو والدحداح
رشيد الدحداح: رائد هاجر فأفاد الأدب من هجرته، كان كاتبا شاعرا من طراز معاصريه فصار كاتب سر الأمير أمين ابن الأمير بشير، ثم هاجر فاستحال تاجرا في مرسيلية، وأدركته حرفة الأدب كهلا فأنشأ جريدة برجيس باريس، ونشر معجم المطران جرمانوس بعدما أصلح ما أفسدته فيه يد النساخ، ثم نشر أيضا شرحي ديوان ابن الفارض للشيخين الصوفيين البوريني والنابلسي، وهو أول من نشر بالطبع كتاب فقه اللغة، وله كتاب قمطرة طوامير مع كتب أخرى.
ومتى ذكرت «القمطرة» تداعت الأفكار، فذكرنا اسم السيد محمود قبادو التونسي صديق الدحداح الذي نشر له في القمطرة تصديره وتشطيره - ارتجالا - القصيدة المنسوبة لبشر بن عوانة: أفاطم لو شهدت ببطن خبت.
لقد أحسن الكونت رشيد الدحداح تقديم صديقه الشيخ محمود إلى القراء قبل نشر التصدير والتشطير. ليست القمطرة عندي لأنقل تلك المحاورة الطريفة، ولكني أذكر العبارة التي اعتذر بها قبادو عن ركوب هذا المركب الخشن، قال قبادو: قريحتي صدئت، فأجابه الدحداح: اجلها بالنظم، فقال: اكتب إذن على خيرة الله، ثم كان ذاك التشطير فتكافأ الشاعران قبادو وابن عوانة، وزاد عليه رائد النهضة تصديره الجميل، والناس يذكرون عن قوة ذاكرة قبادو مثل ما ذكروا عن أبي العلاء.
ولهذا الشيخ ديوان كبير جمعه تلميذ له في جزأين، وهو من أصحاب «المعجزات التاريخية»، وقد فاتنا أن نشير إليه مع أصحاب تلك الخوارق، في مقال «التأريخ الشعري». (5) يوسف الشلفون
رائد متسلسل من جد حكم ساحل لبنان تحت ولاية الأمير بشير، وقد أصدر أربع صحف: الزهرة، والنحلة، والنجاح، والتقدم، بالاشتراك مع المطران الدبس، ثم إسحاق، وصابونجي، وأنشأ المطبعة الكلية.
له ديوان عنوانه «أنيس الجليس» قال أكثره في مدح ذوي السلطان، وكبار أولي الأمر في زمانه، وقد «راسل» أدباء وشعراء عصره. أما غزله فأراه يقلد فيه معاصره الشاعر خليل الخوري، فهو يقول مثله، وإن قصر عنه في الإبداع:
هي العيون وإن تسأل هي الأجل
لم تبق صبا وما في قلبه وجل
يا دولة حاجبها ناظران لها
قرت لسطوتك الأيام والدول
ويذكر لبنان مثل خليل، ولكنه لا يبلغ شأوه في وصفه، ولا بدع في تقصيره فقد كان - أولا - عاملا في مطبعة الخليل كمنضد حروف ومصحح مسودات.
وقد حاول كغيره من «الرواد» اجتراح العجائب البيانية فنظم قصيدة تقرأ من الكامل ومجزوئه، وله أيضا موشحات. وقد نظم «تواريخ» من ذوات الطلق الواحد ...!
فجر التجديد
(1) خليل الخوري
هو أول رواد التجديد، وقد تناساه الناس كما تناسوا سواه من السلف الصالح. ليس الأدباء بأقل بأسا من الملوك الذين اعتادوا هدم آثار من سبقوهم؛ ليبنوا بحجارتها قصورا يحملونها اسمهم زورا. فلو كان للشدياق والخوري أسباط لما أهملهما لبنان هذا الأهمال المخزي، ولما اسودت وجوه عند ذكر الأول منهما.
يقول لك بعضنا اليوم: ماذا عمل عمرو، وأي أثر يؤبه له تركه زيد؟ ماذا عمل هؤلاء الذين تعدهم لنعتد بهم؟!
صه، أيها المغرور الأحمق، أما ترك لك أبوك وجدك بيتا كان معدودا في زمانه، فماذا تطلب منه أكثر؟ افتح أنت بابا، بل شباكا، بل طاقة في ذلك البيت، ثم عد إلى اللوم والنعي، ضع فيه على الأقل حجرا يبقى إن كنت ذلك الرجل، زد على قامة بيت الأمة الأدبي ولو شعرة ثم قل ما شئت.
يظن من أعمى أعينهم الغرور أنه لم يفكر أحد قبلنا في إنعاش الأدب، ونفخ الروح فيه، فيرون أن كلماتهم الملفقة خلقت الأدب العربي خلقا جديدا، وأن من سبقوهم لا يستحقون أن يحلوا سير حذاء زارتوسترا - كما قال نيتشه - يوم كان مجنونا غير مشهور ...
قالوا «لكل عصر رجال» والقول حق، فالذين مروا على الطريق قبلنا عملوا ما عليهم، فما علينا نحن إلا الاعتراف بذلك تشجيعا لسواهم من العاملين اليوم، أقول هذا بمناسبة الكلام عن الشاعر خليل الخوري أبي الجريدة العربية الأهلية.
ولد خليل في الشويفات عام 1836، وتلقى العلوم في مدارس زمانه، ثم على أساتذة خصوصيين. قال الشعر فكان طريقه إلى أبواب الولاة، فمكنوه من إصدار أول صحيفة عربية أهلية هي حديقة الأخبار، ثم أحدث إلى جانبها مطبعة تطبعها سماها المطبعة السورية.
طرب المعلم بطرس البستاني الأول لصدور هذه الجريدة ومطبعتها، فقال في خطابه «آداب العرب» الذي ألقاه عام 1859 في الخامس عشر من شباط:
ومما لا يشوبه ريب أن الجرنالات من أكبر الوسائط لتمدن الجمهور، وزيادة عدد القراء إذا استعملت على حقها. والأمل أن هذه الفتاة - المطبعة السورية لحديقة الأخبار - التي هي أول مطبعة عربية خصصت بالجرنالات تتقوى، وأن أتعاب مالكها ومديرها العزيز خليل أفندي الخوري تكلل بالنجاح، فيخلد ذكره عند أبناء الوطن كفاتح لهذا الحصن الحصين الذي غفل المتقدمون عن فوائده، وكأني به واقفا على شاطئ البحر الكبير الفاصل بين العالم القديم والعالم الجديد، يستشرف تارة على الجديد ويلحظ أخرى إلى القديم، ولدى انتشار ديوانه الموسوم «بالعصر الجديد» الذي أفرغ فيه الشعر القديم في قالب جديد يتضح المعنى المقصود.
1
أشاد البستاني بذكر خليل الخوري، ودل على فضله الأسبق في حقلي الصحافة والشعر، وترجى له خلود الذكر كفاتح أدبي، ولكن الخليل خلد في شعره لا في نثر جريدته، وقد كان في استطاعته ذلك؛ لأنه لم يكن في الشرق يومئذ إلا الصحف الحكومية، ولكن سياسة إرضاء الدولة العلية كانت أقصى أمانيه، فرتع في النعم الشاهانية، وتقلب في مناصب عديدة محترمة، ونال أوسمة كثيرة من الأستانة، وغيرها من العواصم.
لم يبرز خليل في النثر لأنه لم ينصرف إليه، فهو شاعر أولا، بل لا يعنيه إلا الشعر الذي كان سلمه إلى المناصب. ومن عثر على دواوينه العديدة النادرة الوجود وأجال فيها نظره رأى في: زهر الربى في شعر الصبا، والعصر الجديد، والنشائد الفؤادية، والسمير الأمين، والشاديات، والنفحات؛ مدحا كثيرا لرجال الدولة وغيرهم.
أما ما يعنينا نحن - اليوم - فهو التجديد الذي أشار إليه المعلم الأكبر بطرس البستاني، والذي قال ناصيف اليازجي في مدح قائله:
يا هلالا قد أرانا
في الدجى وجها جميلا
سوف نلقى منك بدرا
كاملا يدعي «خليلا»
وعندما بزغ فجر القرن العشرين كنا لم نزل على مقاعد المدرسة، نسمع الجديد ولا نراه إلا في شعر اثنين: خليل الخوري، وفرنسيس مراش. فالمراش، وهو المقتفي آثار خليل الخوري في ديوانه «العصر الجديد»، سوف نصف آثاره البديعة على ما فيها من ضعف لغوي، أما خليل الخوري فهو أسبق وأطرف وأمتن عبارة، وألطف أسلوبا. إنه - بلا منازع - أول من أفرغ الشعر القديم في قالب جديد. أمده في ذلك خياله الخصب فخلق صورا رائعة، ثم ظل السراج الوهاج يرسل نوره حتى انطفأ عام 1907 في 26 تشرين الأول.
امتدح البستاني ديوان العصر الجديد، فماذا في هذا الديوان الذي أطريناه نعتا؟ كان يقال الشعر قبله إما حكمة، وإما زهدا، وأكثره كان مديحا ورثاء، فلم يترك خليل الخوري المديح، ولكنه فعل ما لم يفعله غيره من قبل، فقال القصائد الطريفة في مواضيع مستقلة، وإذا لم يبلغ فيها شأو الشعراء العظام فصاحة وبلاغة، فحسبه أنه كان رائد الجديد الأول في إبداعه.
في ديوان العصر الجديد قصائد غراء أخرجت الشعر من الصيرة التي زرب فيها أدهارا وعصورا، وإن كان جله في مدح السلاطين العظام، والوزراء الفخام، والوجهاء الكرام، أعجب هذا الشعر أعلام ذلك الزمان لأنه لم يكن للشعر العربي عهد به من قبل، فأثنوا على قائله، وإذا تصفحنا هذا الديوان برزت لنا قصيدة عنوانها «الغرام » ثم قصيدة «الخداع» التي منها هذا البيت:
إن ابتسام الثغر يذهب باطلا
إن كان قلبك عابسا لم يبسم
ثم «وداع الغرام»، ولكن الشاعر لم يودعه إلا ليعود إليه في قصيدة «الفجر»؛ لأن العاشقين كما قال أبو نواس:
كأهل النار إن نضجت جلود
أعيدت للشقاء لهم جلود
فها هو الشاعر في قصيدة «زيارة الدجى» ينادي حبيبته:
قومي افتحي الباب غيري ليس يقرعه
فإنما خشية الإقدام تمنعه
ويظهر أن بيت هذه الفاتنة الحسناء كان على سيف البحر، فتأمل كيف يغريها شاعرها بتلك الليلة الحلوة؛ إذ يقول لها:
فاصغي به لحنين البحر منتحبا
كأنه يشتكي بينا يروعه
والشط مد ذراعيه على ظمأ
يعانق البحر والأمواج تصفعه
تلقى على صخره الفضي موجته
وتنثني بعدما بالقرب تطعمه
كغادة صادفت محبوبها فغدت
تدنو إليه دلالا ثم تمنعه
ثم ينتقل إلى وصف السفينة، ويشبه شراعها بالإزار، وإلى السماء ونجومها الغمازة البسامة راجبا أن تنشط تلك الحبيبة؛ حين تسمع وصف هذا الجمال.
ولم يحرم الشاعر لبنان من قصيدة رائعة جسدها خياله، وأروع ما فيها هذا البيت المبتكر في وصف الأرز:
يا صفحة بقيت لهذي الأرض من
أصل الكتاب ترى بها الأسفار
ألا ترى مثلي أن بيت شوقي:
هذا الأديم كتاب لا كفاء له
رث الصحائف باق منه عنوان
ينظر إلى بيت الخليل؟ ثم يصف الشاعر عواصف الجبل المجنونة، ويأتي على ذكر سوريا وصور وصيدا وبعلبك التي درس الكثير من معالم مجدها ليستطرد قائلا للبنان:
وبقيت وحدك أنت منتصبا على
هام العظائم تحتك الأدهار
هل حلت عن قدم الثبات مشيعا
إذ أشغل الرومان عنك سفار
وهل ارتعدت مروعا لما سطا
بالروم ذاك الصارم البتار
كأن شاعرنا قد نظر في الأمس إلى ما رأيناه نحن أول من أمس، وفي هذا قال رئيس لبنان الشيخ بشاره الخوري، في ختام إحدى روائع خطبه: الحكومات تزول، ويبقى لبنان.
ثم ينقلنا الشاعر إلى قصيدة عنوانها «الاشتباك» فندعه وشأنه؛ لأن للمصلح ثلثي القتلة ... ويدهش البخار شاعرنا؛ فيقول قصيدة عنوانها «معجزات العصر » يصف فيها قدرة العقل البشري على الخلق. أما شعراء اليوم فيرون أكثر مما رأى الخليل فما يخف وقارهم كما خف وقاره، ويظلون ساكتين لأن الذهب خير من الفضة ...
قيل إن المنصور عندما مات ابنه طلب من ينشده: أمن المنون وريبها تتوجع، فلم يجد في حاشيته من يعرفها فقال: إن مصيبتي بابني أهون علي من هذه المصيبة؛ فإلى شعراء اليوم نحول هذه الكلمة ليفكروا فيها.
ثم يأسف الشاعر لتأخر الشرق، ولكنه يعود إلى غزله فيقول قصيدة عنوانها «العهد»، وأخرى عنوانها «البعاد»، ثم ينظم قصيدة طيبة عنوانها «الحلم» يهديها إلى الخواجة إسكندر التويني، الذي صار فيما بعد بمقام وزير الخارجية في عهد المتصرفية. ليس في هذه القصيدة شيء من المدح، بل كلها غرام وعبرة، وما للتويني فيها غير الإهداء. وهناك قصائد أخرى من هذا الطراز المعلم لا يتسع المجال للإلمام بها. ويخص الشاعر «البدر» بقصيدة فيها التخيل والخلق الرائعان، ويتبعها بقصيدة عنوانها «المحب المغدور»، وليس هو أول سار غره قمر ... وبعد أن تاب توبة نصوحا في هذه القصيدة سمع صوتا، فقال قصيدة عنوانها «اليقظة»، وهذا مطلعها:
أصوتك أم صدى عود يعاد
وأنت أم الملاك له ارتياد
ثم ينثني فيقول قصيدة طويلة النفس كقصائد ابن الرومي يهديها إلى التويني أيضا، ويخصه ببضعة أبيات في ختامها، ثم نظم في مدينة صور قصيدة طويلة أيضا حتى قال بلسانها:
ما كان لي أبدا نظير في العلى
والآن ما لي بالخراب نظير
هذا مؤسف، والثابت وجه الله، كما يقول إخواننا الدروز. ويصف ليلة في لبنان، وما قصده فيها إلا وصف لبنان الذي يذكر كل شيء من شئون الأمس إلا عباقرته.
لقد أفضت فى الكلام عن «العصر الجديد»؛ لأن فيه خيرات كثيرة، فلنترك، ولو قليلا، لأحد دواوينه الآخر وعنوانه «الشاديات» فنخص بالذكر رائعة خالدة فاقت بخيالها العجيب «حديقة الشعر» لابن الرومي، وأرتنا أن القائل: ما ترك الأول للآخر، قد كان واهما؛ فمتى وجدت الإرادة كان الإبداع، وها هو الخليل يقص علينا أحسن القصص في قصيدة «الرمان والعناب»، فتضج بالحياة التي لم نر لها أثرا في حديقة ابن الرومي. قال:
ما بال صاحب ذا البستان قد علقا
بربة الحسن يبدي الغيظ والحنقا
ما باله انقض من هول الهموم على
تلك الغزالة كالصياد وانطبقا
هيا اسرعوا لنرى ما ثار بينهما
من الخصام الذي قد أوجب القلقا
أراه مشتبكا معها بمعمعة
كطالب الثأر للغارات قد سبقا
معلقا برداها وهو يصرخ يا
أهل الحمية، إن الروض قد سرقا!
يا لصة غافلتني وهي مائسة
بين الغصون تناجي الزهر والورقا
سرقت ويحك رماني ومنه لنا
قوت العيال الذي ألقى به الرمقا
وقد سرقت لي العناب معه وذي
أيديك قد حملت من حبه طبقا
وكانت معركة كلامية حامية الوطيس بينهما، وظل البستاني مصرا على أن الفتاة تخبئ رمانة في عبها، وعبثا حاولت الفتاة إفهام من لا يفهم، بل ظل يصيح:
ردي علي ثماري لست أتركها
أو لا فأرجع مالي كيفما اتفقا
فغضبت الحسناء غضبة مضرية، واحمرت وجنتاها من الغيظ، ثم:
قالت له: ويك. لا تمدد إلي يدا
إذا سرت نحو صدري كسرها سبقا
وبعد كد الذهن اهتدت تلك الحسناء إلى برهان ذي حدين، فقالت للبستاني:
هل عندك الورد في البستان أسرقه
صبحا، وأنشر منه للملا عبقا؟!
فقال لا ورد عندي والربيع مضى
وما تريدين من ورد إذا سرقا!
فدلته على الورد - في خدها - فشده المغرور، وفارقه ذلك العناد:
فقال ويحي لا رمان كان ولا
عناب سبحان بارينا الذي خلقا!
أما الفتاة:
فاستضحكت ثم سارت وهي قائلة
الحسن يدهش في أنواره الحدقا
والله ما سرقت كفاي في زمني
إلا العقول وإلا القلب منسحقا
هذا هو شاعرنا واضع الحجر الأول في صرح تجديد الشعر المعاصر بعدما أقوى، وطال عليه سالف الأمد، قال أطرف شعره في منتصف القرن التاسع عشر، وظل يقول حتى مات في صبح القرن العشرين، وكيف يموت من تردد له الألسن مثل هذا البيت:
هاتوا المطارق إن قلب حبيبتي
أمسى حديدا فاضربوا ليلين لي (2) فرنسيس مراش
كان فرنسيس المراش على قصر عمره زعيما أدبيا ترك دويا، إن لم يكن في الدنيا، كما أراده أبو الطيب المتنبي، فقد «بلغ الفرات زئيره والنيلا ...» وكيف لا يسوغ لي أن أستعير له وصف المتنبي لأسده، وهو الذي اجترأ على نشد الحرية يوم كانت الأفواه مكمومة، والخزامة في الأنوف والشفاه، وسيأتيك الخبر حين نتكلم عن «غابة الحق».
قلت إنه زعيم أدبي قبل أن أعرفك به، كما هي الخطة عند من يكتبون عن الأدباء، أظن أنك تعرفني فمن طبعي أن أسير في أبحاثي كما يشاء القلم فهو الذي يسيرني ولست أنا الذي يسيره.
أما زعامة المراش الأدبية - على وهن عبارته - فبرهاني الأول على إثباتها هو هذه الذكرى التي مر عليها نحو نصف قرن، وهي تستحق احتفالا بيوبيلها الذهبي. كان ذلك عام ألف وتسعمائة، وكان أستاذ اللغة العربية يلقي علينا آخر درس من دروس ذلك العام، فقال لنا في ختامه: التلميذ كالبيت يحتاج إلى مئونة، ومئونة من كان مثلكم الكتب، فإذا أردتم رسوخ القدم في الإنشاء؛ فاقرأوا نهج البلاغة، والدرر لأديب إسحاق، وكشف المخبا، وكنز الرغائب لأحمد فارس الشدياق، ومشهد الأحوال، وغابة الحق لفرنسيس المراش. المراش يا أولادي، شاعر كاتب مجدد، ولكي يهتدي الواحد منكم إلى ذاته ويكون شخصيته يجب عليه أن يقرأ هذا وهذاك، ومن قراءة الكتاب المختلفين تظهر الذات، وما نفع كاتب أو شاعر بلا ذاتية.
إنني أقف عند هذا الحد من كلام أستاذنا، فقد كان وقت درسه ساعتين، فودعنا بالكثير من الوعظ؛ لأنه كان خائفا أن نضيع في الصيف اللبن، ونعود إليه وقد نسينا ما شقي هو في تلقيننا إياه من فرائد. تركنا المدرسة في العاشر من تموز، وكدت لا أصدق أنني أطللت على الضيعة. تسعة أشهر ونصف مرت، ولم أر لها صورة وجه. قل وصلنا بالسلامة، ورأيناها ما زالت حيث كانت ... وكما كانت ... فالقرى أشد محافظة من كل الذين يزعمون أنهم محافظون.
وكانت السهرة في بيتنا تلك الليلة، أما في الليلة التالية فكانت في بيت عمي لحا. فعمي هذا ذاهب إلى بيروت، ولم تكن الرحلة إلى بيروت هينة في ذلك الزمان. سوف ينام الليلة القادمة في جونيه إذا عجل، ويتابع في الغد سيره إلى بيروت التي لا يعود منها قبل أسبوع. فالطريق وحدها تقتضيه أربعة أيام، تلطف ذاك العم وسأل ابن أخيه عما يتمنى من «المدينة» فأجبته على الفور: كتابين يا عمي: مشهد الأحوال، وغابة الحق.
وكان الوالد ينتظر أن أطلب من عمي شيئا له قيمة وشأن. فهز برأسه كعادته في تلك المواقف الحرجة، وقال: غابة وحق يا صبي! الحق ضائع في العلالي والقصور فمن يجده في الأحراش! أما العم فرأى أخاه غير مصيب - طبعا لأن الطلب هين، فأنزله حالا في دفتره ذي الغلاف الأسود اللامع، وسكت الوالد، وسكت أنا، أما العم فقال: أين ألاقيه؟ - في المكتبة العمومية لإبراهيم صادر وأولاده.
فأجاب، وهو يزج دفتره في عبه: عرفته.
وبعد العود الميمون من تلك الرحلة السندبادية جاء الكتابان، وغرقت فيهما إلى أذني، وقرأت لونا جديدا وذكرت معلمي الجليل بالخير.
ففرنسيس مراش حلبي؛ وعن حلب الشهباء أخذ لبنان لغة الضاد، وأعطاها ما عرفه في القرن السابع عشر من لغات أجنبية، وهكذا لقحت الثقافة الضادية بدم جديد منذ ذلك العهد. ذكرت هذا لأن له الأثر البارز في ما كتبه المراش.
المراش ابن بيت علم، وللبيت أثره في الأولاد عندنا، فبيت العلم يخرج العلماء، وبيت الصناع يخرج صناعا حاذقين، ففرنسيس هذا من أسرة مثقفة، أبوه تاجر له من العلم نصيب، وأخوه عبد الله عرف بالفضل والأدب، وقد زار مكاتب أوروبا فلندن وباريس ونسخ منها آثارا عربية أعجبته، ورأى فيها فائدة لأبناء جنسه الناطقين بالضاد. وأخته مريانا شاعرة كاتبة. ففرنسيس إذن ابن بيت يذكرنا ببيت زهير وجرير مثلا.
ولد بمدينة حلب، واعتل بصره في الرابعة من عمره، قال الشعر وهو ابن تسع كما رووا عنه وعن أديب إسحاق وغيرهما، ولما حذق العربية شاء أن يكون طبيبا؛ فتلمذ لطبيب إنكليزي بحلب، ثم طمح في أن يكون طبيبا قانونيا؛ فرحل إلى فرنسا طالبا هذا العلم، وقد حدثنا عن سفرته في رسالة عنوانها «رحلة باريس». وصف في هذا الكتاب الطريق التي قطعها بين حلب والإسكندرونة وصفا دقيقا رائعا؛ أقول هذا لأني قطعتها بعده، في السيارة طبعا، وهاك بعض ما قال لنستدل به على قوة مخيلته وتصوره:
أوعار ملقاة في وسط الطريق كأنها أمواج البحر الجامد معدة لتمزيق سفن البر. صخور منفردة في العراص الخالية كأن الأيام نخرتها والرياح صقلتها لتكون أوتادا لمضارب الخراب والكآبة. جبال صلعاء القمم، معممة بسحب القتام، ولا مزية لها سوى الشمخ إلى السماء، فهي كالجاهل المتكبر أو الأحمق المدعي ... أوهاد فاغرة الأفواه لابتلاع السالكين على شفاهها، وهضمهم في ظلمة وظلال الموت ... قناطر مقطعة الأوصال هابطة تحت ثقل الشيخوخة، ودوس أقدام الزمان.
ثم يقول:
وفي إحدى مراحل هذه الطريق انفردت مساء إلى جهة من تلك البرية الساكنة وجلست على صخرة مضطجعة في حضن الوحدة، وأخذت أتأمل هذه الفلاة الحزينة بينما كانت شمس الغروب تصبغ وجه الطبيعة بصفرة المنون، والأفق يحوك علي سراج الشفق ثوب الظلام.
ثم عاد الرائد من باريس مكفوفا، ولم يستفد منها طبا. أراد هو الطب وأراد القضاء الأدب، فكتب «مشهد الأحوال» و«غابة الحق»، وكلاهما مستوحيان من باريس. وظل فرنسيس يكتب ويؤلف، ولما أصبح غير مستطيع استعان بأصحابه الذين يكتبون ما يملي، وظل على ذلك حتى مات عام 1874 تاركا كتبا عديدة.
شخصيته:
كان الشدياق في ذلك الزمان يملي من وراء بحرنا فرائد يجلوها خرائد، وكان اليازجي والبستاني والأسير والأحدب يؤلفون ويصنفون، أما هذا الشاب فكان يتطاول إلى إنعاش الأدب، ويحاول بث دم جديد في الجسم المترهل. كان هو بلبل الشمال الصداح. أدركته حرفة الأدب فازور لتجارة أبيه وأخيه الواسعة، ووقف فكره وقلبه على النظم والنثر وقفا خالصا لوجه الأدب والفكر، فكان كاهن الحرية الأعظم في هيكلها الذي بناه لها رفيع العماد في برية الشهباء كما سترى في «غابة الحق».
نظم الجديد من الشعر متعمدا، وكتب الطريف من النثر قاصدا، وقد قال عن نفسه في معرض الرد على أحدهم:
وشيخ مذ رأى نظمي ونثري
فقال وطبعه شر الطباع:
أرى معناك مطروقا كثيرا
فقلت: نعم بمطرقة اختراعي
كان مفكرا يعنيه أن يقول شيئا، وضالته الحكمة في كل ما كتب، فكثيرا ما كان يخلط الغزل بالحكمة تارة، وبالنصائح الاجتماعية حينا، والفلسفة طورا، فبينا نراه يتطوح في الحب حتى يخر إلى ذقنه إذا به ينهض نافضا ما علق بأذياله من غبار التذلل، رافعا عنقه بإباء الجواد الأصيل، ثم يحمحم:
أأذوب لا والله لست أذوب؟
إن قال: ترك. قلت: ذا المطلوب
رح يا رسول إلى الحبيب وقل له:
مات الغرام، لك البقا فتطيب
إن المحب سلاك فابشر بالمنى
واذهب فأنت لمن تشاء حبيب
إن مخيلة المراش ككأس أبي نواس فأنى اتجهت في شعره ونثره تجدها منتصبة أمامك كالمنارة أمام السفن الضاربة في عرض البحار.
قال أكثر شعره في أغراض جديدة، وعبارته رقيقة سهلة وأحيانا ركيكة. غزير الأفكار وكثيرا ما يعجز عن تأديتها بعبارة صحيحة. متشعب المواضيع، تغلب اللهجة الخطابية على ما يكتب شعرا ونثرا. واضح الصور، واسع الوصف، تشابيهه واستعارته وصوره مؤثرة، ولكنها تفيض عذوبة وحنانا. يغلب عليه التشاؤم حتى في غزله، وفي أشد مواطن الفرح ترى على وجهه جهومة ابتسامة حزينة إلا أنها صادقة. وإني أعزو هذا إلى الحصبة التي أصيب بها صغيرا، فتركت تشققا وتصدعا في بنيان هيكله، فأدى ذلك إلى كف بصره وموته الباكر.
وشعر المراش ونثره يدلان دلالة صارخة على حبه للعلم، فكأن الطب الذي تعلمه أحاله فيلسوفا في «مشهد الأحوال» و«غابة الحق» وكذلك أصاب أصحابنا الأندلسيين إذ استحال طبيبهم فيلسوفا. وللغربة أثرها البين في شعر المراش ونثره، كما نرى في مشهد الأحوال حين يصف لنا مشاهد باريسية. كان الشاعر أميل إلى وصف الحضارة والمدنية منه إلى وصف الطبيعة، وإن سمعناه يحن إلى جبل أبي العلاء المعري - جبل سمعان - قائلا:
فمتى أرى الأظعان تعدو بي على «سمعان» حيث مطالع الشهباء
ومتى أرى جبل اللكام يمد لي
باعا يطول على حبال النائي (2-1) مرآة الحسناء
عنوان ديوان له يقع في 348 صفحة، وهو لو طبع كما تطبع دواوين اليوم لفصلنا من ذلك القماش دواوين عديدة، واستقل كل من مواضيعه بديوان خاص به، ولكنه طبع في ذلك الزمان، يوم لم يكن هذا التنظيم والترتيب الذي يكثر ورقه، ويقل كلامه ...
يثور المراش في مقدمة ديوانه على القديم فيقول: إن المدح إطراء ورياء، والقدح حسد وعياء، ثم يعلن في قصيدة لامية الثورة على القديم، ولكنه لا يجهل أنه دونهم تعبيرا، فيعلن ذلك في كل مناسبة، وحسبنا أن نذكر هذه الأبيات التي ختم بها ديوانه «مرآة الحسناء»، معيدا الأمر كلما بدأه، قائلا:
هفواتي كثيرة ليس تحصى
ومن الفضل ليس لي من مزيه
غلطي فاضح فإن سترته
فئة الفضل قلت نعم السجيه
وإذا رام كشفه ذو كمال
كان شكري له أقل هديه
وفيها يقول عن نفسه:
تأنف الرفد والجوائز مهما
كن، فالذل كله في العطية
ويحمل المراش على الشعراء الذين يبيعون شعرهم بالجوائز والرتب والألقاب فيقول:
لا أمدحن سوى لبيب فاضل
أو صاحب حامي الذمار مؤاس
ما لي وللألقاب، فهي بأهلها
جاءت كأجراس على أفراس
كم دولة، أو رفعة، أو عزة
شريت بمال، أو برشفة كاس
كلمات تعظيم على مستحقر
لم يسو فلسا في غلاء الناس
إن نفس المراش تحس كل ما حولها، فهو يفتش عن مواضيعه تفتيشا، بل يستلهم المكان والزمان وينتزع منهما مواضيعه، أما رأي المراش في الشعر فقد عبر عنه بيت في إحدى القصائد؛ إذ قال:
والشعر ليس يجله شيء سوى
لفظ جميل فيه معنى مطرب
وأشهد أنه لو أطال الله عمره، وأسلست له العبارة قيادها لكان شاعر عصره، ولم تعدم العروبة حظها من شاعرنا - وهو العائش في ظل الأتراك - فاسمع كيف يخاطب الفرنج، وإن كان من المعجبين بتقدمهم:
حتام تزرون يا إفرنج بالعرب
مهلا فلا خير بابن قد زرى بأب
إن كان بالعلم جئتم تفخرون فمن
معالم العرب كل العلم والأدب
تذكروا ما غنمتم يوم ندرتكم
في أرض أندلس من تلكم الكتب
وهو يذم الزمان كغيره من شعرائنا، فقد شاع ذم الزمان عندنا حتى حملناه، وما زلنا نحمله، أثقال كل تقصير، ولكن الزمان قادر على حمل الدنيا وما فيها ...
ثم يلوي على شاعر اسمه ابن خياط فيقول متهكما بشعره:
رأينا لابن خياط قريضا
يقرضنا بلا ناب وضرس
إذا ما قال في تموز شعرا
أعاد الثلج قنطارا بفلس
وقد نظم المراش الموشحات حتى كان ينطلق أحيانا من قيود القافية؛ فينظم قصيدته مقاطع ذات قافية يلتزمها هو كما فعل الأندلسيون قبله، وهو لا يحرم العلم والاكتشافات الحديثة من شعره، فيلجأ إليها ليخلق معنى جديدا لم يسبق إليه فيقول:
تكهرب القلب من برق الطلى فغدا
يجاذب العشق لكن قط ما دفعا
وتراه يترسم خطى أبي الطيب، فينحو نحوه، ولكن في معنى غير معناه:
الحسن يمنح والتدلل يمنع
والقلب يعشق، والتدلل يردع
كثرت عيون الراقبين وإنما
عندي قبالة كل عين إصبع
ثم ينحو نحو البهاء زهير في قصيدته: «رفعت رايتي على العشاق» فيقول:
أنا هو سلطان الغرام وربه
وكل فتى يرعى الهوى هو من جندي
بيد أن هذا الطموح إلى الجديد قد اندفع مع التيار العصري؛ فقال كغيره - تواريخ وألغازا - ونظم على طريقة الحلي قصيدة يبتدئ كل بيت منها بالحروف الهجائية من الهمزة إلى الياء، كما قال أبياتا كلها من المهمل.
وفي الديوان أيضا ما يشبه المواليا، ولكنه أفصح لغة وأصح، وقد لاحظت في استقرائي هذا الديوان؛ أن الشاعر لم يدع حرفا إلا قال عليه شعرا حتى حرف الثاء والظاء وغيرهما، وقد راسل أشهر أدباء عصره ومدحهم كالشدياق، واليازجي، وغيرهما، وتلك كانت خطة متبعة في ذلك الزمان كما ذكرنا.
هذا هو ديوان مرآة الحسناء، وسأعرفك بمشهد الأحوال، وغابة الحق؛ ليس لأنهما كتابان نادران، لا تجدهما إلا على رفوف المكاتب الخاصة، بل لأنهما كتابان من نمط جديد. (2-2) مشهد أحوال
على كتاب «مشهد الأحوال» و«غابة الحق» قامت شهرة المراش، فقد كان لهذين الكتابين شأن حين ظهرا؛ فأحلا مؤلفهما مقاما رفيعا في دنيا الأدب، لم يكن ذلك لبلاغتهما ولكن طرافتهما - في زمن قل فيه الطريف - أنزلتهما تلك المنزلة. بنى المؤلف كتابه «مشهد الأحوال» على أحوال الحياة والمجتمع: حال الكون، حال الجماد، حال النبات، حال الحيوان، حال الإنسان. ومما قاله في هذا المخلوق الأناني العجيب: «فغدا يصارع الحاضر، ويرتعد من المستقبل، ويأسف على الدابر. فما ابتسم إلا وبكى، وما شكر إلا وشكا، إذا فرح بضعة أيام، حزن بعض أعوام، إلى أن يقول شعرا:
إنما المرء لا يرى غير بلوا
ه فلابن الإنسان عين قصيرة
ولا تعجب إن رأيت السجع في هذا الكتاب، فما أرى صحبه إلا ناحيا نحو أصحاب المقامات، ولكن بموضوع غير موضوعهم؛ لأن ثقافته غير ثقافة أولئك.
ثم يمر بحال الرجل وحال المرأة، فيظهر محبته العظيمة لها كالشدياق حتى يقول:
إن كل اللطف والظرف لقد
جمعا في ذلك الجنس العجيب
ويعود فيفصل الإنسان: حال الطفولية، حال الفتوة، حال الشبوبية، حال الشيخوخة فيقول فيها قولا طيبا. وينتقل إلى العمران فيبدأ بحال العيلة، وحال الهيئة الاجتماعية، وحال البلاد، فيتطرق هنا إلى ذكريات باريس التي فتنته أنوارها، وعاد منها بلا عينين. قال في هذا موشحا من طراز «جادك الغيث»، ولما توغل في عاصمة النور ذهل وهتف في قصيدة أخرى:
لست أدري في أي كون مكاني
هل أنا في باريس أم في الجنان
كل ما جاء في السماع عن الجن
نة ألقاه ها هنا بالعيان
ها أنا وسط جنة تحتها الأن
هار تجري لكن بها كوثران
هكذا أنثني وخلفي وقدا
مي مجال للحور والولدان
حينما الحسن والهوى وهما الأك
ثر لعبا في مسرح الإنسان
فهما للحياة أصل كما اللا
ذوت أصل لبنية الإنسان
وكأنه كان مرة على ميعاد مع فاتنة، فأوحى إليه الواقع هذه القصيدة التي أنقل لك منها ما يلي، وعنوانها «في حرش بولونيا»:
من ذا ينبهني! فقالت لي: أنا
قم فالدجى ولي وصبحك قد دنا
فوثبت أمسح أعيني وأجبتها:
أهلا وسهلا بالصباح وبالسنا
والله قد قضيت ليلي باكيا
وإذا غفلت، فذاك مفعول الضنا
فتمايلت ضحكا وقالت طب فلا
عتب على من يستخير الأحسنا
إن الخناثة للرجال سجية
وهم الذين إلى النسا نسبوا الخنا
ثم يصف ما يسميه «جسر القناطر»، فيقول في وصف حسان باريس:
وقوام كأنه صنم الأس
رار يوحي بعشقه للسرائر
هيكل الحسن واللطافة لم يح
رق عليه سوى بخور الضمائر
ويقول في قصيدة أخرى فيبدع في الوصف:
والصبح ذو مكانس الشعاع
يسعى بكنس الظل في البقاع
يرش ماء الوهج اللماع
فينشر الشعاع كالشراع
وتنطوي غبائر الديجور
من لا يرى باريس في دنياه
لم يدر ما الجنة في أخراه
ذي جنة ليس لها أشباه
ما صاح في جوارها: ويلاه؟
سوى عديم الذوق والفقير
وينتقل إلى حال الشرق والغرب، وفي هذه الحال الأخيرة يصف لنا ليلة رقص باريسية في قصيدة طويلة، وينتقل إلى حال الزمان، وهنا يشعر الشاعر بما رماه به الدهر في باريس، فينظم موشحا هذا مطلعه:
جئت أرض الغيث كي أطفي الظما «فطفت» عزمي وزادت عطشي
ثم يمضي في موشحه حتى يقول:
لم أجد والله في هذي البلاد
غير داء لي وللغير دوا
وينتقل إلى حال العلم، وحال الجهل، وحال التمدن، وحال المال، فيعقد محاورة بين غني وفقير، وتأتي حال الحرب والسلم، وحال الحب فيفتتح إحدى قصائده في الحب:
ما للمليحة غضبى لا تكلمني
كأنها بي لم تسمع ولم ترني
والمراش شاعر غزل قبل كل شيء، ولهذا كثرت قصائده في «حال الحب». وتأتي حال البغض فلا يجود عليها بشيء من شعره، ولكنه يرى البغض مدمرا كما يرى الحب معمرا، ويختم هذه الحال بهذه العبارة: فلا ريب إن البغض آفة الكل والبعض.
ويظل ينتقل من حال إلى حال إلى أن يختم الكتاب بأحوال تجعل من المراش الأديب عالما وفيلسوفا، ولا عجب أن يلم بكل هذا من رحل إلى باريس في طلب العلم في ذلك الزمان الصعب القاتم.
وإذا كان لم يخطر ببالك خليل الخوري الذي تقدم ذكره، فعد إليه وقابل بين الشاعرين؛ لترى بينهما أقرب النسب. وإني أظن - وإن قيل بعض الظن إثم - أن المراش لم يقصد إلا زميله خليل الخوري، حين قال ما مر بك في ذم الألقاب والرتب ... (2-3) غابة الحق
كتاب يكاد يكون قصة. طالب فيه مؤلفه بالحرية لجميع البشر حتى العبيد . دعا فيه إلى السلام دعوة صارخة، ولكن هل سمع العالم دعوة غيره ليسمع صوته؟ وكل ما يقال هنا هو أن الأديب قد أدى رسالته، ورفع الصوت جهرة يوم كانت أعاصير الاستبداد تجتاح الكون، وحين كان ذكر الحرية، بله المطالبة بها، جريمة لا تغتفر. ولكن الكاتب اللبق عرف كيف يرفع عقيرته مطالبا بحرية الإنسان في عهد سلاطين بني عثمان.
فالمراش شاعر كاتب خيالي من الطراز الأول، ألف كتابه «غابة الحق» على نسق رؤيا يوحنا؛ جعل القصة حلما ابتدأ في مطلعها، وانتهى في ختامها، وإذا طالعت هذا الكتاب تعرف أن أسلوبه - وإن كانت عبارته كثيرة الخطأ - قد اتبع زهاء نصف قرن حتى تأثر به الكثيرون من أدباء القرن العشرين.
تخيل المراش أنه يستعرض دول الأرض منذ البدء، رآها في فجر التاريخ دولا عمرانية، ثم استحالت دولا غازية فاتحة تتقاتل على حطام الدنيا وتتناحر؛ فيسلب الغالب المغلوب، وبعد هذا العرض قال: «وانفتح لبصيرتي باب رحب مكتوب على قنطرته «العقل يحكم»، ومنه عاينت وراء هذا الباب برية فسيحة جدا، ولاح لي عن بعد بيرق يخفق متقربا، فوضعت نظارة الاختبار، وأمعنت النظر فرأيت مكتوبا به «العلم يغلب»، وظهرت حينئذ من ورائه جيوش التمدن الزاهر ممتطية متون الاختراعات العجيبة، والمعارف الكاملة، وهي تخطر متموجة بأنوار أسلحة الحكمة والعدل، متدرعة بدروع الحرية الإنسانية.»
ثم رأى ممالك الظلام تندحر أمام الحكمة والعدل والحرية، فمدت دولة العدل سلطانها وقوتها على كل بقعة ومكان، وعم السلام أقطار المسكونة.
ثم رأى الشاعر - في نومه طبعا - عرشين منصوبين قرب صخرة ينبثق منها غدير، على العرش الأول يجلس جبار معتقل سيفا ذا شفرتين - كأنه ذو الفقار - وعلى رأسه تاج مكتوب على إكليله: «يعيش ملك الحرية»، وإلى جانبه على العرش الآخر امرأة على إكليلها الذهبي سطر من أحرف نارية: «تحيا ملكة الحكمة.»
ها هو ذا ملك الحرية غضبان يتوعد مملكة العبودية بالاجتياح والتخريب، وها هي ملكة الحكمة تطايب زوجها وتداوره، وفيما كان الحوار على أشده إذا بقائد «جيش التقدم» ووزير «محبة السلام» يقبلان، وقد أتم كل منهما ما عهد به إليه، قاتل «السلام» البغض حتى استظهر عليه بسلاح التعليم والتربية، وبعد محاورة بين الملكين وقائديهما قر الرأي على هذه الكلمات الحكيمة: «الظالم يرتد وجعه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه.» فخير سجايا الإنسان محبته للسلم، ونفوره من الحرب والخصومات؛ فبالسلامة تنمو الهيئة الاجتماعية، وتتسع دائرة تقدمها بالثروة والمعارف والآداب، وبالسلامة تخصب الحقول، وتعطي الأرض غلتها، وتجود الفلاحة ويكثر الحصاد، وبالسلم تعمر البلاد والقرى، وتتسع التجارة التي يقوم عليها مدار الاشتراك مع العالم كافة. وبالحرب تنقطع الشعوب عن مشاركة بعضها بعضا.
ألا ترى مثلي أن كاتبنا قد دعا منذ ثمانين عاما إلى ما تدعو إليه «الأونسكو» اليوم، وأنه قد أدرك ما قاله أشهر علماء الاجتماع اليوم: «ما من أمة بعد، ولا إنسان، يستطيع أن يعيش في جزيرة، فمصير الواحد مرتبط بمصير آخر إنسان في أبعد نقطة من الأرض.»
ويحمى وطيس الجدال بين الملكة والملك، ملك الحرية يريد الشدة والعنف، وملكة الحكمة تنشد الرحمة والرأفة، فيستدعى الفيلسوف الذي جعل المؤلف مقره في مدينة النور، فيأتي ويشرع في بسط آرائه العلمية؛ فتنكسر شوكة غضب الملك، ولكنه يسأل الفيلسوف عن «مملكة الروح» التي سمع بها، وأنه يريد تدويخها وإخضاعها؛ فينبري الفيلسوف للدفاع عنها، ويمنع ملك الحرية من مهاجمتها؛ لأنها تؤدي لعرشه معونة جلى، فهي التي تردع شرائعها الآثام الخفية التي تعجز الحكومة المدنية عن مقاومتها، فيرضخ الملك لبراهين الفيلسوف، ويذعن لحجته القوية.
ثم تتشعب المباحث بين صاحبي الجلالة والفيلسوف، فتدور حول السياسة والمملكة، فيشير الفيلسوف بنشر العلم والمعرفة؛ لتقوى دعائم الملك، وتثبت وتتآخى العناصر المختلفة المتشعبة، ثم يجري الحديث حول التمدن فيبنيه الفيلسوف على خمس دعائم: (1)
تهذيب السياسة. (2)
تثقيف العقل. (3)
تحسين العادات والأخلاق. (4)
صحة المدينة. (5)
المحبة.
ويفيض المؤلف بلسان الفيلسوف في تبسيط موضوع المحبة فيجسدها، ويجعلها تحتج على الأدمغة الكبيرة التي سمتها أسماء علمية مختلفة. قال: «صاحت المحبة بعد أن صعدت على منبر النظام الكوني: أنا التي أوثقت هذه الأجرام برباط الانضمام؛ فكانت أفلاكا تدور حول بعضها، فلماذا دعيت التصاقا؟!
أنا التي ألفت بين العناصر المختلفة؛ فكانت مملكات تزهو بمجد الارتباط، فلماذا لقبت تماسكا؟!
أنا التي قد فتحت في أجناس الحياة مسالك الميل؛ لتحافظ على أنواعها، فلماذا دعيت تناسلا؟!
أنا التي جمعت أشتات البشر إلى هيئة واحدة؛ فكانوا متعاضدين في حروب الحوادث، فلماذا سميت اغتصابا؟!
أنا التي أقفلت مصارع البحر، وأتخمت كبرياء لججه، فلماذا أدعى جزرا ومدا؟!
أنا التي حيثما نزلت عمرت، وحينما رحلت خربت، أنا التي اتخذني التمدن دعامة قوية، وبدوني لا يثبت له بناء، فهل يهدمني إلا كل متوحش؟»
ثم يتخطى الفيلسوف أخيرا إلى القول: فلا يخطئ من يسمي المحبة آلهة الهيئة الاجتماعية.
وبعد أن يعدد الفيلسوف الفضائل جميعها ويشخصها يجيء دور الرذائل: الجهل، والكبرياء، والحسد، والطمع، والبخل، والحقد، والنميمة والكذب، والنفاق، ثم يحشر هؤلاء الذين جعلهم شخوصا في مكان ما من «غابة الحق»؛ ليحاكمهم ملك الحرية. ويتكلم الفيلسوف مقبحا العبودية بحضرة ملكها الماثل للمحاكمة، وبينما المحاكمة جارية إذا بعبد زنجي قد دخل القاعة، وشرع يقص على محكمة ملك الحرية كيف أسره وأخاه القرصان واسترقهما، وبعد الحكم على الرق والاستعباد بالموت تجري محاكمة الجهل والكبرياء وجميع الرذائل التي مر ذكرها، فتطهر منها «غابة الحق».
وقبل أن يستيقظ المؤلف وينقطع حلمه يرى نفسه في برية الشهباء موطنه، فيراها جنة خضراء، فيتساءل من أين يأتي الخير هذه القفار المجدبة، والساقطة من أعين العناية، منذ ألف عام وأكثر؟ فيسمع صوتا يدوي في الغمام قائلا: «ابتهجي يا شهباء سوريا، فها العناية الملوكانية، مقبلة إليك، والمراحم السلطانية هاجمة عليك. قد وقعت تحت أنظار عناية حضرة ذي الشوكة والاقتدار السلطان عبد المجيد خان، دام ملكه مدى الدوران.»
وهكذا سلم للمؤلف رأسه، وظهر كتابه «غابة الحق»، ومشى بخطوات ثابتة في سوق الأدب، واستقر على رفوف المكاتب ولا يزال.
إن في «غابة الحق» ملامح من كتب الفلاسفة العظام كأفلاطون، ومن حذوا حذوه، ففيها يحاول المراش خلق دنيا اجتماعية يسودها السلام والاطمئنان، فجعل عمادها «المحبة» القادرة على كل شيء.
والخلاصة: أن عمل الخيال في غابة الحق يبلغ مداه الأبعد، وقد استولى فيها المؤلف على الأمد. فالعرض والسياق جيدان، والقص يمشي على رسله وإن ركت العبارة أحيانا، أما الأبطال فلا سمات لهم؛ لم يستعر المؤلف لشخوصه الأجساد التي تنبثق منها أعمالهم، وآراؤهم وأفكارهم، بل ناب هو عنهم جميعا مكتفيا بأسمائهم، ثم راح يقول بلسانهم ما يقول.
قد يعذر على ذلك لأنهم رموز لا أشخاص، ولكنه في كل حال مسئول عنهم لأنه خلقهم. أما العبارة فخيالية سهلة، ولكنه ينقصها شيء لتخرج ناتئة بارزة؛ إنها كتلك الرسوم التي لم تفز بحظها الكامل من الألوان والخطوط، فإنشاء المراش على ما فيه من خيال وصور قلما نحس فيه تلك الحركة، وذلك الزخم.
ليس للمراش شقشقة تعبير أديب إسحاق ولا هديره، ولا صحة تعبير الشدياق ولا ظرفه ولا تهكمه، ولكنه أقوى مخيلة منهما، وقد ذكرت هذين؛ لأنهما كانا سيدي الموقف في الحقبة التي وجد فيها المراش، فهو ولا شك من قراء الجوائب.
والمراش يختلف عنهما جميعا في تفكيره ومبادئه، فهو متأثر بالعلم والفلسفة أكثر من جميع كتاب عصره، نزاع إلى إصلاح المجتمع، يدعو إلى الأخذ بالحضارة الحديثة. أما ثقافته فمتأثرة بالدين، ولغته تكاد تكون لغة الكنيسة المستعربة حديثا ... ولا تنس أن المحيط الذي نشأ فيه كان محيطا تركي اللسان؛ فحلب التي سرت منها الفصحى إلى لبنان كانت اللغة التركية تجري على ألسن معظم سكانها.
وبعد، فلست أحدثك عن الأخطاء اللغوية في كتب المراش؛ هذه لأنها كثيرة جدا، ولا عن الإسهاب في التعبير؛ لأن عبارته غير مرصوصة ولا متلازة، وهو يزج في شعره ونثره الألفاظ العامية غير الفصيحة، ويتصرف كما يشاء في الاشتقاق والجموع، ولو خلا نظمه ونثره من مثل هذه العيوب لكان أكتب وأشعر أهل زمانه. (3) شاعرا الكلية
هما إلياس صالح وسليم عازار، وكلاهما ماتا في شرخ الشباب.
كان لهذين يد في التجديد والتوليد، ولم يقولا الشعر مقلدين. نال إلياس صالح شهادة بكلوريوس علوم سنة 1888، ومات عام 1895. قال زيدان فيه: «ومن غريب قريحته أنه جمع بين الشعر والإنشاء، ويندر أن يتفق ذلك لواحد؛ ولذلك استدعته جريدة المقطم، فتولى التحرير فيها حتى مات، ولو فسح في أجله لأتى بمعجزات البيان. كان متضلعا من قواعد اللغة قابضا على أوابدها وشواردها، وعارفا باشتقاقات الألفاظ ومواقعها.»
وينعته زيدان بحلاوة النكتة، ولعل هذه الحلاوة هي التي أمرت عيش أحد معاصريه حتى استولى على بيت الأنسي؛ ليحرفه ويقول فيه:
هو طالح لا صالح لكنهم
غلطوا ولم يضعوا العصا في رأسه
أما أشهر قصائده، ولعلها هي التي أطارت صيته، فهي قصيدته التي عنوانها «الحرية»، ولها حكاية كنا نسمعها في صبانا؛ ولهذا أحب الآن أن أمتع القارئ بها. كان ذكر الحرية يخيف السلطان عبد الحميد ورجاله، وكان خطيب حفلة الكلية - الجامعة الأميركية - تلميذها المتخرج إلياس هذا، وكانت الحفلة تحت رعاية والي بيروت، فقام إلياس ينشد:
خل عنك الوقوف في دار ميه
واعتزل ذكر زينب وأميه
رحم الله كل من قال شعرا
في ربوع الإسلام والجاهلية
إنما دارنا بمن شرفوها
عن سليمى وعن سعاد غنيه
لا تلمني يا عاذلي بهواها
فأنا قيس هذه العامريه
وعلام الملام والقلب قلبي
ومعي فيه «حجة شرعيه»
فإذا كنت تدعيه فقدم «عرض حال» للأعين التركيه
إلى هنا كان دولة الوالي منشرح الصدر، حتى إذا ما أنشد الشاعر هذا البيت:
واتخذنا سلاسل الشعر قيدا
فنسينا المسكينة الحريه
تجهم وجه الوالي واستعد للطوارئ. ومضى الشاعر في إنشاده حتى قال:
أنت حر يا أيها المرء فاعلم
ولك العلم فيه والأسبقيه
يتمنى الإنسان لو كان عبدا
ويقيم الأدلة العلميه
ولكم قد رأيت من حيوان
يقضم الحبل بغية الحريه
يا بني أمنا ذوي الفضل بل يا
معشر الناطقين بالعربيه
لست عبدا أنا، ولا أنت مولى
أيها اللابس الحلى الذهبيه
انتفض الوالي لما اشتدت الأزمة، ولم يبق في استطاعته السكوت فوقف، وقال للشاعر: باسم جلالة مولانا السلطان أقول لك: قف! فهب - عندها - رئيس الكلية متذكرا الامتيازات الأجنبية، وقال: وأنا أقول لك: باسم حكومة أميركا كمل.
وكان الشاعر أقوى بديهة من الوالي والرئيس؛ فأتم كلامه مادحا جلالة السلطان ارتجالا، دون أن يفلت منه خيط الموضوع، وهكذا أنقذ الموقف.
هذه هي حكاية معلقة «الحرية» في عصارى القرن التاسع عشر، وإن لشاعرها مقدرة على إرسال الكلام حلوا مبتدعا كما قرأت، وكما ترى في هذين البيتين:
ونحوية ساءلتها أعربي لنا:
حبيبي عليه البين قد جار واعتدى
فقالت حبيبي مبتدا في كلامهم
فقلت لها ضميه إن كان مبتدا
أما سليم عازار، فكان شاعرا له حلو الكلام، كما كان له كإلياس صالح قصر العمر، فكلاهما ماتا مسلولين، كان إلياس نحيلا كما وصفه زيدان، أما سليم - وقد عرفته شخصيا - فكان عملاقا ضخما، ولكن الداء لا يهاب طولا ولا عرضا ...
لم تكن شهرة سليم عازار في الكلية دون شهرة إلياس، فكلاهما تقريبا من معدن واحد، وكلاهما طريف ظريف، وأشهر ما قرأنا لسليم هذه الأبيات الرائعة من قصيدة:
جار الزمان وصرت يا نفسي
تتقلبين تقلب الطقس
طورا على أمل وآونة
في اليأس أو أشقى من اليأس
أين السرور، وأين ما عهدت
ه فيك ربات الهوى أمس
أزهدت في دنياك قانعة
بالحزن، بالإنشاد، بالدرس
عودي إلى الماضي فقد عبست
لما عبست معاهد الأنس
عودي فليس بما اهتممت له
زهو الصبا ولطافة الجنس
عودي فقد صيرتني ظمئا
للحب، للأشعار، للكأس
أو لا فكوني كيف شئت، وما
شئت افعليه، فليس من بأس
لا خير في من ليس ذا ثقة
من نفسه، أسمعت يا نفسي؟!
وبما أننا في الحديث عن رائدين مسلولين، لا بأس أن نذكر بعض قصيدة قالها رائد يصف مسلولا، ثم مات هو بعدئذ، بالداء الذي وصفه، وما هذا الشاعر إلا محمد إمام العبد أحد الرواد، قال:
عشق الموت مكرها في شبابه
رب موت يحار في أسبابه
قبل أن يدفنوه في الرمس ميتا
دفنته الأيام في جلبابه
فإذا رمت أن تراه بعين
لا ترى غير أنه في ثيابه
لو تمنى مكانة الملك وهما
لاكتفى بالنحول عن حجابه
كيف تقوى كفاه في موقف العر
ض إذا كلفوه حمل كتابه
قطرته المنون في الليل قطرا
تكتفي بالنجوم من أصحابه
أيها الموت، لا عدمتك خلا
طالما أنقذ الفتى من عذابه
ولإمام العبد هذا حلاوة النكتة، ولا بدع في هذا لأنه مصري، لامه أحدهم على تركه الزواج، فأجابه ببيتين لا أذكر غير الأخير منهما، ولكنه الزبدة، قال:
أنا ليل وكل حسناء شمس
فاجتماعي بها من المستحيل
أرأيت أنه - بعد عنترة - قد أحسن استغلال سواده، والأرض السوداء مغلال، كما قلت في كتاب «الرءوس». (4) انتعاش الشعر (4-1) البارودي وأرسلان
صدق من قال: الشعر أسبق في آداب الأمم من النثر، أليس هذا ما رأيناه نحن عند روادنا الأولين؟ أما قرزموا الشعر جميعا فجاء عليلا سقيما يسأل الله العافية والستر، وظل ركيكا غير مصقول حتى كان له محمود سامي البارودي؛ فأقال عثرته ونهض على يديه من كبوته.
قال البارودي الشعر عباسي الديباجة، وإذا غلبت عليه الحماسة فلا عجب لأنه أحد الشعراء الفرسان الذين تغنوا بالسيف والرمح، ولم لا يكون كذلك وهو بطل الثورة العرابية.
لا تعنينا هنا مواضيع الشاعر بل ديباجته التي أعاد بها إلى الشعر رونقه القديم.
وإذا سمينا هذا الرائد زعيم مدرسة فلا نقول إلا الحق، فهو الموطئ لإسماعيل صبري، وأرسلان، وشوقي، ومطران، وحافظ، وتامر الملاط، وتقي الدين، ووديع عقل، وغيرهم من شعرائنا الأحياء.
كان البارودي متأثرا بفصاحة القدماء وقد أسعفته قريحته وإرادته؛ فقال شعرا لم يسمع في عصره مثله، فذكر الناس بالبحتري وسواه من شعراء الديباجة الدمقسية، ستقرأ شيئا من شعره بمناسبة الشيء بالشيء يذكر، أما الآن فأرجو منك أن تقرأ له هذه الأبيات الثلاثة:
هل من فتى ينشد قلبي معي
بين خدور العين بالجرع
كان معي ثم دعاه الهوى
فمر بالحي ولم يرجع
فهل إذا ناديته باسمه
يفيق من سكراته أو يعي؟
وكان الأمير شكيب أرسلان طري العود يوم تطاول إلى مقام البارودي الرفيع، فساجله، وهو في منفاه بسيلان، ولا بأس علي إذا ما أعادني تداعي الأفكار نصف قرن إلى الوراء، وعدنا معا إلى المعهد الذي نشأ بين جدرانه الأمير شكيب أرسلان. ففي ضحى النهضة كنا في مدرسة الحكمة، وكان لا يعنينا غير الشعر وقائليه. كنا ننظمه بلا ملل، ونتبارى فيه بلا وجل، وكان شكيب أرسلان قدوتنا، كان نجمه قد لمع، ثم طبع ديوان شوقي الأول وفي مقدمته ذكر لشكيب؛ فكبر في أعيننا حين قرأنا قول شوقي فيه:
صحبت شكيبا برهة لم يفز بها
سواي، على أن الصحاب كثير
وضخم أمر الأمير شكيب في أذهاننا حتى كنا نفضله على شوقي لولا قصيدة شوقي «خدعوها» التي حفظناها جميعا، ولم نبال بتعنيف معلمنا الخوري «ص» المحافظ على طهارة أجسادنا لنظل هيكلا للروح القدس.
وأول ما أذكره من شعر شكيب هو رثاؤه للبارودي. استقبلني هذا الرثاء عام دخولي مدرسة الحكمة سنة 1904-1905، وقد كان الشيخ رشيد تقي الدين - إمام حلقتنا العكاظية - يتبجح بهذه القصيدة ويردد مطلعها:
يا ناظري ألأيا تذرفان دما
أهكذا عهدنا أن نحفظ الذمما
ويطغي رشيد إذ يبلغ هذا البيت، حتى تخاله الفرات، وقد زعزعته رياح الصيف:
فانعوا لنا الشعر والآداب قاطبة
معه، وقولوا لشوقي: إنه يتما
ثم ننتقل إلى قصيدة حافظ إبراهيم في رثاء محمود البارودي أيضا فنتمطق بمطلعها:
ردوا علي بياني بعد محمود
إني عييت، وأعيا الشعر مجهودي
فترى في حافظ رشاقة كما رأينا في شكيب متانة، ونرى في «لأيا» بمطلع قصيد الأمير ما يذكرنا بالنابغة، فتعلو كفته على كفة حافظ. تلك كانت عقليتنا ... بل عقلية من علمونا. ويزداد شكيب علوا حين يروي لنا رشيد بصوته العريض قصيدة البارودي لشكيب:
أدي الرسالة يا عصفورة الوادي
وباكري الحي في قولي وإنشادي
لعل نغمة ود منك شائقة
تهز عطف شكيب كوكب النادي
هو الهمام الذي أحيا بمنطقه
لسان قوم أجادوا النطق بالضاد
ثم يهتف بنا: شباب، سمعتم هذه الشهادة! بلا طق حنك يا مارون. سعيد - سعيد عقل الشهيد - اسمع جواب المير شكيب:
هل تعلم العيس إذ يحدو بها الحادي
أن السرى فوق أضلاع وأكباد
تحملوا ففؤادي منذ بينهم
في إثرهم نضو تأويب وإسآد
إلى أن يقول شكيب للبارودي، رئيس النظار - الوزراء - المعزول:
إن يحجبوك فما ضر النجوم دجى
ولا زرى السيف يوما طي أغماد
وننتقل إلى مساجلة ثانية، وهي قصيدة كتبها محمود سامي من منفاه، في جزيرة سيلان، إلى الأمير شكيب، فنروي جميعنا أبيات البارودي الرائعة في وصف الليل:
أرعى الكواكب في السماء كأن لي
عند النجوم رهينة لم تدفع
زهر تألق في السماء كأنها
حبب تردد في غدير مترع
والليل مرهوب الحمية قائم
في مسحه كالراهب المتلفع
متوشح بالنيرات كباسل
من نسل حام باللجين مدرع
حسب النجوم تخلفت عن أمره
فوحى لهن من الهلال بإصبع
ويجتاح الشيخ رشيد القصيدة، هادرا كنهر الباروك، حتى يبلغ مدح البارودي للأمير فيمشي الهوينى، وعينه علي، عند هذه الآيات:
نبراس داجية، وعقلة شارد
وخطيب أندية، وفارس مجمع
صدق البيان أغص جرول باسمه
وثنى جريرا بالجرير الأطوع
لم يتخذ بدر المقنع آية
بل جاء خاطره بآية يوشع
أحيا رميم الشعر بعد هموده
وأعاد للأيام عصر الأصمعي
وينتقل رشيد إلى إنشاد جواب الأمير، فلا يروي وصفه المجرة والليل، بل يروي لنا فخره:
الترجمة
وطلعت أعثر بالسيوف ولو درى
أهل السيوف مقامتي لم أفزع
أيغول مهجتي الكماة ومالهم
فخر سواي إذا اغتدوا في مجمع
وترى تخون الخيل فارسها وهل
يردى الحسين على يد المتشيع
أو من لهم مثلي إذا عبس الوغى
وتضاحكت أنياب ثغر المصرع
وتشاجرت سمر القنا وتجاذبت
بذوائب، والسيف شبه الأصلع
ولقد بذذت السابقين فمن لهم
بوقوف سير بالمكارم موضع
وبلغت من «سامي» الفخار وجاءني الت
تقريظ من محمود سامي الأرفع
خنذيذ هذا الدهر، واحد أهله
مقدام حلبته الأغر الأبتع
القائل الفصحى التي عن مثلها
يثني المقفع في بنان مقفع
ونظل سكارى بهذه المذاكرة حتى يصيح بنا هادم اللذات: هوب، لا.
Vous parlez l’arabe
فنثرثر بعض ألفاظ فرنجية، ويتفرق العشاق ...
وينقضي عامي الأول في مدرسة الحكمة فأتتلمذ في عامي الثاني والأخير للشيخ سعيد الشرتوني. ونأتي على ذكر أسلافنا الذين أخرجهم معقل الضاد، حتى إذا جاء ذكر شكيب انفتحت حدقتا شيخنا سعيد وقال: المير شكيب قفلة.
فقلت: وما معنى قفلة؟ فأجاب شيخنا الجليل: أي يحفظ كل ما يسمع ولا ينساه، فكأنما يضعه في صندوق ويقفل عليه، ثم طفق يطري ثروة شكيب اللغوية كل الإطراء، وقال في شعره وشاعريته كلاما كثيرا.
ولما أفلت من قفص المدرسة، وزاولت الصحافة صرت أقرأ للأمير شكيب شعرا في كل مناسبة خطيرة. انقلب شعره مطية سياسته، فلم يمر حدت في الشرق إلا تناولته قريحته بما حضر، فشارك في كل معضلة بقلمه ورأيه ولسانه. لم يمدح غير العظام، وقلما قال شعرا في غير الحوادث الجسام، وكثيرا ما تلاقى مع شوقي ومطران وحافظ وباراهم في خطوب الشرق. وأول مرة سمعته فيها ينشد كانت عام إعلان الدستور العثماني سنة 1908، بيد أنه لم يعنف، ولم يلم ولم يهاجم مثلنا. عد الدستور منة من جلالة السلطان، وأوصى بالتعلق بالعرش، فلم ترق قصيدته للمتطرفين منا.
وظل الأمير - على توالي المحن - صديقا للدولة العلية يشد أزرها، ويرى فيها العروة الوثقى، فبينما كان أفذاذ العرب يمثلون في الأستانة رواية صلاح الدين الأيوبي قبل الحرب العامة بسنة، وكلهم ساخط حانق، وفي مقدمتهم مبعوثوهم - نوابهم - كالزهراوي وفارس الخوري، وغيرهم إذا بالأمير شكيب يقول للحفل من قصيدة:
فمن كصلاح الدين تعنو لذكره
رءوس أعاديه ومن ذا يعادله
إلى أن يقول:
وكيد على الأتراك قيل مصوب
ولكن لصيد الأمتين حبائله
تذكر قديم الأمر تعلم حديثه
فكل أخير قد نمته أوائله
إذا غالت الجلى أخاك فإنه
لقد غالك الأمر الذي هو غائله
فليست بغير الاتحاد وسيلة
لمن عاف أن تغشى عليه منازله
وليس لنا غير الهلال مظلة
ينال لديها العز من هو آمله
ولو لم يفدنا عبرة خطب غيرنا
لهان ولكن عندنا من نسائله
سيعلم قومي أنني لا أغشهم
ومهما استطال الليل فالصبح واصله
وللأمير قصيدة رائعة هي بالملاحم أشبه. قالها في وصف وقعة حطين، وهي أبلغ قصائده إن لم تكن خير ما قيل في موضوع كهذا.
أما الرأي في شعر الأمير فقد قاله خليل مطران: «حضري المعنى، بدوي اللفظ، يحب الجزالة حتى يستسهل الوعورة. نبغ منذ طفولته وكان أبكر الفتيان في نشر ديوان له. وجاء ديوانه في وقته آية، غير أنه لم يلبث أن ترك الشعر وانصرف إلى الترسل فحبس فيه ما أوتيه من العبقرية، على أنه قد يدعوه داع من النفس فينظم. ينظم كما ينثر، فياض الفكر غير تعب، ولكن نظمه يحمل في عهده الأخير أثرا من نثره.» هذا رأي مطران في شعر شكيب، وقد أثبته الأمير في صدر ديوانه، أما رأي الأمير شكيب في الشعر فهو هذا، كما جاء في كتابه: «شوقي أو صداقة أربعين سنة»:
ولو كانت القدمة مما يهجن الشعر لوجب أن يكون هومير منبوذا؛ فإنه أقدم شاعر، ونحن نقول لهؤلاء الذين لا يفتأون يتكلمون في القديم والجديد من الشعر، ويزعمون أن لكل عصر مدرسة: إن هذه المدرسة تكون في كل شيء إلا في الشعر، فإن مدرسته هي القلب، وإن طريقته هي النفس، وإن النفس البشرية لم تتغير ولن تتغير، فهي هي في أذواقها ومشاربها ومواردها في الحياة ومصادرها.
هذا من جهة الشعر على العموم، أما من جهة الشعر العربي الذي تريدون أن تفرنجوه، فالشعر العربي لا يكون شعرا إلا إذا وافق ذوق العرب ولاءم مشارب أنفسهم، وجانس مذاهب لغتهم، واتصل بمناحي حياتهم، فإذا باين الشعر العربي أساليب العرب في بيانها؛ ربما لم يفهموه أصلا، على حد ما قال الأستاذ محب الدين الخطيب: إن الواحد من هؤلاء يظل يومه يسطو على منظومات الإفرنج يستل منها معانيها الغريبة عن الأذواق العربية، فيصوغها بألفاظ وتراكيب يلعن بعضها بعضا، فلا يفهم منها القارئ العربي إلا بقدر ما أفهم أنا من الصيني.
ثم يعقب الأمير على هذا الكلام بقوله: «وأنا أيضا أعترف بأني لا أفهم هذه اللغة التي يكتبون بها.»
هذه آراء الأمير وغير الأمير في الشعر، أما أنا فأرى أن الأمير متأثر بأستاذه الشيخ عبد الله البستاني. والشيخ عبد الله كان معجما ناطقا قلما فاتته شاردة أو واردة. يقول الشعر كطرفة وعنترة، وإليك مطلع قصيدته التي هنأ بها الحويك بالبطركية:
حي القطين وناسم عني الدارا
ودر مع اليمن فيها كيفما دارا
وهو متأثر كشاب في أول حياته الأدبية، بأحمد فارس الشدياق ، علم اللغة المفرد، فلا تعجب إن رأيت في الأمير نفحة جاهلية، وثروة لغوية، فشعره الأول - وخصوصا نقائضه مع البارودي - هو أصفى شعره وأنقاه، مع أنه لم يكن اجتمع أشده.
أما ترسله، وخصوصا في كتابه «أناتول فرانس في مباذله» ففيه شبه - لفظا وسردا - بأسلوب الشدياق الذي أثنى عليه الأمير حين ذكر رثاء له، فقال عنه: «إمام اللغة وفارس ميدان الإنشاء؛ الذي عرفته بآثاره وقطفت من نواره.»
وبكلمة مجملة أقول: لو لم ينصرف الأمير شكيب أرسلان إلى خوض غمار السياسة التي تتطلب الترسل أكثر من النظم لكان هو أمير الشعراء لا شوقي، وسبحان مقسم الأرزاق. (5) بشار الرواد (5-1) شاكر بك الخوري
قال لي موسى صفير صاحب مكتبة المعارف: كلفني شاكر بك الخوري أن أفتش له عن واحد يقرأ عليه كتابه «مجمع المسرات» فيصحح له الخطأ النحوي والصرفي فخطرت أنت ببالي، فما رأيك؟
وكنت قد فصلت من الكلية اليسوعية ومدرسة الفرير؛ لأنني محرر جريدة «النصير» المطالبة بتأليف «مجلس ملي» لأبرشية بيروت المارونية، فأجبت: نعم.
فقال موسى: يدفع لك البيك عشر ذهبات عثمانية عند النهاية.
فوجمت ثم أجبت: لا بأس.
وبلغ الخبر أحد أصحابي فقال لي شاكر بك «عملته ردية»، وهو هجاء قلما سلم من لسانه أحد، كبيرا كان أم صغيرا، فلا تعرض نفسك.
فقلت له: وأنا عندي ما عنده. أتخاف علي!
واجتمعنا أول يوم في دار البيك وشرعنا نقرأ، فمرت كلمة «التقنيص» فقلت له: «التقمص»، فتفكر قليلا وقال: التقنيص مفهومة أكثر، وبعد قراءة جملة أو جملتين، مرت كلمة «تقاصصه» فقلت له: تفاصه. فقال: وهذي أضرب من هاتيك.
فقلت له: إذن ماذا تريد مني؟ قال: إبداء الرأي، وأنا أرى الموافق.
ثم جاء دور الشعر، فعرض علي أبياتا نظمها؛ لتكتب تحت رسمه، كما جرت العادة في ذلك الوقت، قال الدكتور:
لا بد من وبخته
لقباحة يبدي الغضب
أو من مدحت قريبه
بزيادة عنه انورب
فهززت رأسي، فقال: مالك انوربت أنت أيضا؟ فقلت: لو غيرنا هذا الشطر الأخير، فأومأ برأسه أن لا، وأنشد:
مهما فعلت فإنني
ما بين قومي في عتب
لي أسوة بمسيحنا
فأقام ميتا وانصلب
وهنا وقعت الواقعة، فأصررت أنا على القول: أحيا لعازر وانصلب، وأصر هو. وأخيرا صاح بي:
أفضل كسر الشعر مع حسن سمعه
على نظم موزون لسامعه قتل
ثم كانت الكلمة الأخير له، فعلمت أن لا طب مع هذا الطبيب، وإني شاهد زور لا أكثر ولا أقل. وكان البيك مصابا بالسكري، فكان يبول بلا حياء فيذكرني ببشار ... ورآني امتعضت؛ فقال لي: مارون أنت مثل أولادي، لا تؤاخذني، أنا ملازم سريري، وفي روحتي ورجعتي - كل نصف ساعة - تضييع وقت كثير.
وكان الظهر فقمت، فقال: اقعد. خبزي أسود ولكنه صحي أكثر من خبز السوق الأبيض. وأنا جبلي مثلك. تتغدى معي كل يوم، وتأخذ أجرتك وحبة مسك ...
فضحكت والتفت إلى «الكوميدينا» فأدرك حالا وقال: يظهر أنك أخو رأسي ...
ومضينا في عملنا، فأنستني نظافة طعامه كل ما عداها. كان على المائدة يشرح لي أمورا كثيرة، ويحدثني عن كتابه: «صحة المتزوج وزواج العازب»، ويصارحني بما يتعلق بي من موضوع الكتاب، ويقول: هذه دفعة. قيدها. فيدق قلبي وأتذكر قول صديقي «في عملته»، ثم حدثني عما ينفعني من كتابيه الآخرين «نائب الطبيب» و«صحة العين» وأفاض، ولما انتهى قال: هذه دفعة ثانية. قيدها معك.
فقلت له: أنا لا أقبض «عملة حكي» هذي بضاعتي، ولو كانت تجوز كنت أغنى البشر.
فقال: قال لي صاحبنا موسى إنهم خوفوك مني، لا تخف يا ابني، أنت لست ممن أطمع فيهم، كل ملوخيا، كل لا تستح.
فقلت: أخاف أن «تملخ» رقبة حسابي، فضحك وقال: خطيتك في رقبتي. احرق دين «الجاط». كله كله. حسابك رقبته غليظة لا تنملخ ...
وكان شاكر يتنادر حتى على أولاده، فلما دخل علينا ابن له طويل قال لي: تعرف ماذا انتقيت له وظيفة؟ فبهت. فقال: أن يضوي قناديل البلدية لأنه لا يحتاج إلى سلم. طول بلا غلة ...
وظللنا شهرين ثلاثة نقرأ ونتغدى، وقبضنا أجرتنا علاوة.
هو ذا حق خبزاتك أيها الرائد الذي لم يكذب أهله. فكتاب «مجمع المسرات» فارياق من طراز آخر. كشكول طريف، وصاحبه مطبوع على النكتة القارصة. كان يشتريها بالثمن الموجع كل من يتعرض له؛ ولذلك هابه معاصروه كما هابوا بشار بن برد. كان هجاء محترفا لا هاويا كالحاج عمر الأنسي، وقد أبقى هجاءه السخن لديوان سماه «مجمع الحشرات»، ولكنه لم يظهره في حياته، ولست أدري إذا كان «قبض» ممن هجاهم حين فتح باب الاشتراك بكتابه «مجمع المسرات» فعدل عن ذاك كما حذف الكثير من هذا. لقد كان الاشتراك بكتابه جزية أو ضريبة أداها الأغنياء عن يد، ليسلموا من لسانه ...
فكتاب «مجمع المسرات» ترجمة حياة، ومذكرات مكتوبة بأسلوب طرافته في بساطته. ليس يسأل صاحبه عن الخليل ولا الفراء، فيه صفحات من تاريخ لبنان ووصف للحياة في عصر مؤلفه، وفيه أشياء عن مصر وغيرها من الأمكنة التي حلتها ركابه. فالرجل بشاري فارياقي، ولو كان في عصر الشدياق، وقرأ ركاكته ورطانته ولحنه لشمرت الحرب عن ساقها. فهو من هذه الناحية فقير جدا جدا، وأما من ناحية الشخصية فغني. إلا أنه يظل في الحالين هجاء عصر النهضة، ولونا طريفا من ألوانه، فكل كتابه نكات ونوادر. والذي لابسه كما لابسته، ورآه في مباذله كما رأيته، يقول مثلي: إنه نكتة النكت.
والآن فلنعرض عليك نماذج بضاعته؛ لتحكم أنت بنفسك. وصف شاكر بك حياته من أولها إلى آخرها كما تذكرها، فهو يزعم لنا أنه لم يدون شيئا منها قبل أن فكر بتأليف كتابه هذا الذي يقع في سبعمائه صفحة من القطع الكبير والحرف الوسط. حدثنا شاكر عن «درسه العربي» في «المدرسة الوطنية» للمعلم بطرس قال: كان معلمنا الشيخ ناصيف الشهير، فكان يقول لنا - في الصف - أول موال عمله، ويبتدئ يعمل «مطلع» على المعنى، وكان يقول إنه هو الذي علم ذاته، وإن المعلم بطرس البستاني يعرض عليه تأليفه القاموس محيط المحيط، وكان يعطيني الكراس المصلح، لأعطيه إلى المعلم بطرس، وكان يقول لي عند ذلك: أنا «القاموس السيار».
وعند غيابه كان يوكل ولده الشيخ إبراهيم بالدرس. وكان لابسا - أي الشيخ ناصيف - عمامة سوداء مع قفطان وجبة وصرماية حمراء، يحلق لحيته وهو بسن الشيخوخة، وكان بيته قريبا من المدرسة وهو من المولعين بشرب القهوة والتدخين، وقد كان يعهد إلى بإشعال سيكارته أو غليونه، فكنت أذهب إلى خارج الدرس وأشعل له الغليون بعد أن أدخن فيه قليلا ... وكثيرا ما كنت أهمل دروسي، ولا أجيب على السؤالات، فكان يلتفت إلي المرحوم أخي خليل ويقول له:
أخوك أخو مكاسلة وجهل
فقل لي يا خليلي كيف أنت
وكان له صوت جرش، ولسانه غير فصيح لا تفهم كلامه إلا بصعوبة، وهو مولع بفن الموسيقى وصوته لا يطابق النغمات، وكان معنا أحد التلامذة له صوت جميل، كان الشيخ يغني أمامه بعض تواشيح يتعلمها.
2
ويخبرنا شاكر أيضا أنه أسس مدرسة لما أيس من الوظيفة، ثم تركها عندما وفق إلى عمل، ألا يدلنا هذا على أن مهنة التعليم كانت - كما هي اليوم - عمل من ليس له عمل!
ويحدثنا عن الخوري موسى الذي علمه الهجو، ويقول: «إن الخوري موسى آية في الفصاحة والعلوم والعفة والاستقامة، ولكنه مصاب بداء البخل فكان يجمع كثيرا ولا يصرف شيئا. ما أضاف أحدا بزمانه إلا لغاية أو لخدمة أو لجر مغنم.»
ووقعت العداوة بين الخوري موسى والدكتور بسبب امرأة فقيرة عالجها هو، وكتب إلى الخوري موسى «لإعطائها كم رطل من الطحين، فمزق الخوري الورقة، ولم يعطها شيئا»؛ فاشتد الخصام بينهما فصار الخوري موسى يشيع أن الدكتور: «كافر بلا دين»، فكتب شاكر «قانون إيمان» جديد هذا هو:
أؤمن بخوري واحد ضابط كل وقف الموارنة، ما يرى ولا يرى، وبشماس واحد ابنه الوحيد، لا ينقص ولا يزيد في بيع، ونؤمن بطانيوس بو ناضر المنبثق من الخوري والشماس، وبكنيسة واحدة بسكنتاوية، وبخوري واحد يبقى لدهر الداهرين، ليكفر الأحياء والأموات آمين.
ثم قال في المحترم شعرا، كان باكورة الهجاء:
لا تعجبوا أن رأيتم بعض طائفة
في البخل قد شهروا سرا وإعلانا
لأنهم قبلوا عند السلام يدا
للأب موسى فأعداهم كما كانا
لو مس حاتم طي كف حضرته
لكان أبخل خلق الله إنسانا
ولو حوت داره ماء الفرات وقد
تملك النيل إكراما وإحسانا
وفي الصليب أتى يسوع سيده
وقال يا ابني موسى، بت عطشانا
ما جاد عن كرم في بل إصبعه
وقال: مت. إن فضل الموت ظمآنا
قد سن موسى عهودا في شريعته
وقبة العهد للإيمان أعطانا
من جسها كان منقادا إلى عدم
يموت في الحال محروما ومنهانا
فقبة الأب موسى بيت مونته
رغيفها بات كالأقداس منصانا
عزريل يحرسها من كل ناحية
إن حضرة الأب عنها بات غفلانا
هكذا شق شاكر طريقه، وراح يهجو الأصدقاء والأعداء، فالنكتة عنده أقوى من المحبة، وإن قيل أن المحبة أقوى من الموت؛ ولهذا قال يهجو لحية صديقه الدكتور سليمان مشاقة، معارضا قول المتنبي: نشرت ثلاثة ذوائب:
ذو لحية دكتور ابن مشاقة
قصد الغدير بعصر يوم الأربعا
خلع الثياب وغاص قصد سباحة
فأراني «الذقنين» في وقت معا
وقال في أمير كان يلزم السكوت، ولكنه نطق حين قابل الدكتور:
أمير حافظ أبدا سكوتا
وقد عدوه من بكم الزمان
وقد أنطقته لما رآني
فظنوا أنني بلعام ثاني
وقال يهجو قسيسا لم يعجبه؛ لسعيه بين الناس:
وقس للفساد غدا إماما
ولم يقض الصلاة ولا الصياما
ولم يحفظ من الإنجيل إلا
سوى: ما جئت كي ألقي سلاما ...
وقال كابن الرومي في صاحب لحية:
لحية أبشع منها
وجه حاويها المؤرخ
بقماط أرخوها
فاستحقت قلب أرخ
وقال في طبيب كبير الشاربين:
في شخص جرجس مارون قد اجتمعت
حاجات طب حوت كل العقاقير
رؤياه مسهلة، أيديه قابضة
وشارباه رباط للبواسير
وقال يهجو قاضيا:
إذا قاضي بلادك صار يبطي
فذاك دليل «أبجد ثم حطي»
وقال في أناس أرادوا لعب الورق راغبين عن سماع شعره:
ولقد حفظت عن المسيح وصية
وهي التي لا تحقدوا بل اصفحوا
وعصيته في طرح شعري بينكم
يا ليتني قد طعت في لا تطرحوا ...
أي: لا تطرحوا جواهركم أمام الخنازير.
وحضر رواية الوردتين للمعلم عبد الله البستاني، فكثر المقرظون حتى لم يبق وقت لاستماع الرواية، ففض هو المشكل بقوله:
رواية الوردتين اليوم قد ظهرت
فقرظت كل تقريظ كتلبيخ
لا شك في أن ذا التقريظ ينفعها
لا بد للورد من زبل لتسبيخ
قال: وقلت في جريدة استغنم صاحبها فرصة نفوذه، فكان يطرحها للاشتراك حتى اشترك ثلاثمائة شخص لا يعرفون القراءة:
هذي الجريدة في البلاد جرادة
أمسى بها «لبنان» أصلع أجردا
مأكولها من أبيض أو أصفر
وبرازها أبدا تراه أسودا
ومر على دير رهبان لم يعجبهم ولم يعجبوه، فقال مختتما قوله فيهم:
لم يشبهوا يسوع في تاريخهم
إلا بميلاد لهم بين البقر
وامتدت لشاكر الخوري شهرة حتى صار كالحطيئة وأكثر، ويا ويل من لا يكرمه؛ ولهذا تراه يصب جام غضبه على هؤلاء، فقال في كاهنين كانا «يقدسان» معا:
لما رأيت صليبا فوق مذبحه
ما بين حنا وجبرائيل قسين
حسبته واقفا من فوق جلجلة
وأنه لم يزل ما بين لصين
ودخل على رجل مقامر فقال له: ألهيتني. فقال:
ألهيتني يا شاكرا
ما هكذا فعل الصديق
فأجبته أني الذي
يلهي الحمار عن العليق
وقال في دراهم بخيل:
لا لذة لبخيل في دراهمه
إلا برؤيتها في الجيب كالهرم
دراهم البخل كالأسنان في رجل
تأتي وتذهب بالأكدار والألم
وقال في كاهن اعترف له:
من بعد تعداد ذنبي والقرار به
قد «حلني» كاهني من كل تقصير
ناديته: يا أبي، أرجوك مغفرة
نسيت ذنبا. فإني شاكر الخوري
ونظم للبطرك إلياس الشهير أبيات مديح، وقعها هكذا:
قديما شاكر الخوري
جديدا شاكر البطرك
وأحيانا لمطران
إذا قاسمني شكرك
ودخل على هذا البطرك بعد سنة، فسأله إذا كان لا يزال شاكر البطرك، فقال رجل اسمه سليم بك: إن شاكرا يظل شاكرا ما دام ذنبه محفوظا، فقال الدكتور له: صدقت، والذنب ذنبهم إذا لم يبقوا لي ذنبي «سليم».
فالرجل في أجوبته المسكتة لا يقصر عن بشار: قالت له مرة سيدة تدعي الجمال: يا دكتور، لماذا كل أهل الجبل وجوههم ملخبطة، فأجابها على الفور: لأنهم لا يغيرون البدار ...
وقال في رجل ضخم انكسر «الديوان» تحته:
ثقيل قد علا ديوان داري
وكسر جحشه وبغى اعتذارا
وقال بخور جحشك. قلت كلا
فإن الجحش لم يحمل حمارا
والشاعر مخترع في كل غرض من أغراض الشعر، ولا يعنيه إلا تصيد النكتة، فاسمع كيف يخاطب عباس حلمي خديو مصر:
أتيت لمصر منقادا لأمر
من الله المحيط بكل علم
يقول لخلقه هيا إليها
بأمن وارتعوا بديار سلم
ديار للفراعنة ادخلوها
ولا تخشوا أذى رق وظلم
لئن أرسلت مع فرعون سخطي
فقد أرسلت مع عباس حلمي
وظل في مصر حتى عيد الأضحى، فمر أمام فخامته مع وفود المعيدين، فناداه عباس باسمه واستقدمه، وأعطاه يده، فقال له مرتجلا:
حلمت إن زرت مصرا
أنال جاها لعلمي
فالحلم أضحى يقينا
ما عشت أشكر «حلمي»
وفي الوصف لا يقصر شاعرنا عن الإبداع، قال في مرملة:
ومرملة تمرمرها حشاها
تعزي من بغم قد يراها
إذا سكب اليراع دموع حزن
تنشفها برفق مقلتاها
وقال في «نديا وإيزا» بنتي أخت مظفر باشا متصرف جبل لبنان:
كأن عيون نديا ثم إيزا
أصابت قلب «مركوني» بفتك
تحرك قلبه لحراك عين
فنبه فكره من دون شك
لسير الجاذبية دون وصل
فأنشا التلغراف بدون سلك
وآخر دليل على قوة بديهته تعطيك إياه هذه الحادثة التي رواها. ترك شاكر بك بيروت عام 1907 قبل الميعاد، فسألت عنه المركيزة مدام فريج، فقالوا لها أنه جن لتعطيل شغله ... وعاد شاكر، وراح ليهنيها بأحد الأعياد، فشهقت لما رأته وقالت: خبروني أنك جننت ... فأجابها: لو كنت معرضا لهذا المرض لكنت «جننت» يوم رأيتك أول مرة، فضحكت وضحك المركيز!
هذا هو شاكر الخوري؛ أخاف الناس هجوه ربع قرن وأكثر، وهو اليوم لا يخطر لأحد ببال، إلا عند ذكر بعض ما يؤثر عنه من نوادر. لقد نقلت منها ما يقبل، أما الحامضة كثيرا فظلت في كتابه.
إن شاكر الخوري يقتبس من الكتب الدينية أكثر نكته، فهو في هذا كأبي نواس، وإن كان في غيره كابن الرومي وبشار.
ورب قائل قال: لم يذكر شاكر الخوري إلا ليخبرنا أنه أصلح كتابه - عفوا سيدي - فالكتاب مشحون كفلك نوح بالغلط، فلا فخر لي في هذا، ولكن الرجل يستحق أن يقف مع كبار هجائي العرب ، لو صحت عبارته، فما أصح قول مثلنا العامي فيه: يا حينه لولا عينه. (5-2) أسعد رستم
أما الشعر الهزلي الانتقادي فكان رائده أسعد رستم، وقصائده مشهورة يدور الكثير منها على الألسن، وهذا الشاعر مثل شاكر بك؛ فقلما يبالي بالفصاحة، عاد من أميركا عام 1908 فكان إذا مشى في بيروت تغوص رجلاه بالوحل، فقال قصيدة هذا مطلعها:
بلدية بيروت انتحست
قد بطرت من كثرة ما لحست
وعلى هذا الغرار طبع أكثر شعره، فلذت للناس مطالعته؛ لأن هزله كهزل أبي نواس يضحك ولا يؤلم، في حين أن نكتة شاكر الخوري توجع، بل تقطع الظهر ألما وضحكا ...
وإذا لم أتعرض كثيرا لأسعد رستم فلأنه لا يزال حيا، وليس هو من «المنقطعين» ...
شعراء متفلسفون
(1) محيي الدين الخياط
شاعر رائق الديباجة متينها، تلمذ للشيخين الأسير والأحدب، فكان رائدا كبيرا من رواد النهضة بما ترك لنا من تآليف في الأصول والتاريخ حتى الفقه، فمهد الطريق للناشئين. كان محررا لجريدتي الإقبال، وثمرات الفنون، وله مقالات شائقة، وقد عرب عن التركية رواية «الوطن» التي وضعها نامق كمال بك، ومن ترجمته لها ندرك أنه كان حر النزعة، وله أيضا تعليق على شرح نهج البلاغة، وتفسير لغريب ديواني أبي تمام وابن المعتز.
أما أشهر ما له من الشعر فقصيدة عنوانها «سوانح وبوارح» بناها «مخمسة» على أحرف الهجاء ملتزما في كل مخمس قافية توحد القصيدة، وهاك مطلعها:
هيولى الكون في صور الهباء
إلام نجول في هذا الفضاء؟
أتبقى يا فناء بلا فناء؟
أم الإفناء سلسلة البقاء؟
أم الإبقاء مجلبة الفناء؟!
إلى أن قال مخاطبا الإنسان، وقد رآه خلاقا مبدعا يريد أن يطاول خالقه:
فسر في الأرض زهوا أو زميلا
فلن تصل الجبال الشم طولا
وليس لخرقها تبغي سبيلا
نعم حاولت فيها المستحيلا
ولكن ذاك حول الكهرباء
ولم أنقل ما نقلت للرواد إلا لأدل المتأخرين على ما عالجه الأولون من مواضيع؛ وإنهم فكروا - كجميع البشر قبلهم - بما نفكر به نحن اليوم، وليس شكنا بالجديد ولا البدع. (2) سليم عنحوري
هو مؤلف بدائع ماروت، أو شهر في بيروت، والجوهر الفرد أو الشعر العصري. وله كنز الناظم ومصباح الهائم، ورواية الانتقام العادل والجن، وله مقالات شتى في الجنان، وفي المقتطف منذ نشأتهما. الشاعر مطبوع حسن الديباجة، حاول أن يحول الشعر عن مجراه فقاله في مواضيع علمية وأخلاقية وأدبية، وفلسفية اجتماعية، حتى تناول ما وراء القبر أيضا، فكان رائد تجديد في ما نظمه من مواضيع، فمن قصائده المشهورة «غادة العصر» التي يقول فيها:
أنا لا أمدح الغادات إلا
إذا كان العفاف لهن بردا
ولا أدعو النساء ظباء خدر
إذا ما صرن بالتهذيب أسدا
فنفس الحر تأبى حب خود
تريك تهتكا زندا ونهدا
تزيد تغنجا وتتيه عجبا
متى لمحت، ولو بالوهم، مردا
ثم يمضي في وصف حركات، غادة العصر وسكناتها حتى يقول:
تجوز الأربعين وإن تسلها
تقل لك بنت عشرين وإحدى
تسامر في الدجى أوراق لهو
وإن برعت فشطرنجا ونردا
لتستلب النضار بلا حياء
من الضيف الذي تضنيه سهدا
فيا ليت شاعرنا عاش إلى هذه الأيام ليسمعنا قصيدة جديدة ... وللشاعر عنحوري لامية عنوانها «الجامعة» كلها معارضة للامية ابن الوردي، وهو يقول في أولها:
فتلق الآن عني حكما
غير ما أثبته القوم الأول
ولكنني - ويا للخيبة - قد رأيتها نظم آيات وكلام مأثور، فلم يأتنا بجديد إلا حين حث الناس على تعليم المرأة والرفق بها.
وتحت عنوان «أوروبا» قال قصيدة يخاطب فيها ملوك الغرب:
وفغرتم لابتلاع ال
أرض طرا شدق كاسر
وانتزفتم ثروة النا
س مكوسا وخسائر
أملوك يصلحون ال
أرض أنتم أم عناتر
فدعوا العالم يرتا
ح فما السلم بضائر!
وقال تحت عنوان «حقيقة الكون»، والضمير عائد إلى الإنسان، وإن ذكر الحيوان:
بالنبت يعيش، وبعد المو
ت لعيش النبت هو السبب
فيعود جمادا، ثم نبا
تا ثم حييوينا يثب
ويقول بعد هذه القصيدة بيتين في الموضوع نفسه:
يتغذى النبات من حيوان
بعد موت كلما رواه الثقات
ومن النبت يغتذي حيوان
إذن الموت للحياة حياة
ثم يختتم هذا الديوان بقصيدة مملوءة توبة واستغفارا ورجاء، ولعلي مصيب إذا قلت: ما أرى الشاعر سليم عنحوري في ديوانه «الجوهر الفرد» إلا شاقا الطريق للزهاوي وغيره، ممن عالجوا هذه المواضيع المعرية شعرا. (3) تامر الملاط
شاعر أفسدت شعره السياسة، ثم جنت عليه، فقال في مصيبته أروع ما قال، قال تامر يوم مات واصا باشا رابع متصرفي لبنان:
قالوا قضى واصا وواروه الثرى
فأجبتهم وأنا الخبير بذاته
رنوا الفلوس على بلاط ضريحه
وأنا الكفيل لكم برد حياته
وعزل تامر في عهد مظفر باشا من منصبه القضائي وحبس، فخربت ناحية من دماغه، وقد قال في ذلك:
وإذا الدماغ تناولته علة
خاب الرجاء وضاع جهد الآسي
وقد وصفت نفسه في قصيدة عظيمة أولها: إيه فما تحت السماء جديد، قال فيها:
فلئن تروني نضو خطب باليا
فالقول فخم والكلام جديد
وبرئت ساحة تامر، ولكن بعد خراب البصرة، وبعدما قال في تحليل شخصيته ميميته التي حفظها الكثيرون في لبنان:
دعاني أجرع الغما
فجفني بالأسى نما
وخلاني أصيحابي
وسهم الغدر قد أصمى
فلم أبصر أخا يرجى
ولا خالا ولا عما
رأيت الناس تخشاني
كأني وابئ الحمى
فلا أدري أحيا بت
ت أم ميتا قضى ظلما
أشك اليوم بي حتى
وجودي خلته وهما
مقود غير مختار
كأني آلة صما
ويأتيني البكا عفوا
ويعصيني البكا لما
ولا أسطيع جذب النف
س عن ضحك بي ائتما
وحال كالغني شكلا
بفقر مدقع نما
وقالوا جنة عاثت
بعقلي فالتوى رقما
وقالوا إنما القسي
س فيه نافع حسما
خرافات وأوهام
تعيب العقل والعلما
وللشاعر قصيدة سينية طيبة عنوانها: «وحدة الدين»، قال فيها:
واعمد إلى الوجدان لا تعدل به
شيئا، ولو مطر الغمام طقوسا
فالدين ما سن الضمير محذرا
يوما على المتعطلين عبوسا
وإذا نظرت إلى الوجود رأيته
بالحب يحيا سائسا ومسوسا
والدين آخر ما يزول إذا اغتدت
هذي العوالم ظلمة حنديسا
وله دالية تاريخية تقدم ذكر مطلعها، وقال قصيدة كالتي قالها البحتري في «الذئب»، أما شاعرنا فتخيل أنه يقاتل نمرا فقال:
وليل تكاد الكف تلمس جلده
ترامت به الظلماء سدلا على سدل
ومضى يطبعها على غرار «لامية العرب » في الغريب، حتى ختمها كما ختم البحتري قصيدته:
وقمت فأعددت المدى، وسلخته
وأقلعت عنه أنفض النعل بالنعل
كان تامر في قصائده الأخرى مجددا، فلا يضيره أن كان في هذه مقلدا.
ولتامر في الفكاهة، يوم كان سليما غير موسوس، تشطير لأبيات قالها محمد باشا المخزومي في «كبوت الشيخ نوفل» الذي يضرب به المثل عندنا، فهذا النسر اللقماني لم يمت حتف أنفه، بل اغتالته المنية في ساحة النضال، سقط تحت دولاب العربة في «نزلة الشحار» على طريق بتدين، فمات ميتة الأبطال بين سنابل الخيل، ولهذا تفضل المخزومي برثائه:
1 «وكبوت له خمسون عاما»
به مرعى لأنواع الذباب
تراه بين ترقيع ورتق «يقاسي بالعنا مر العذاب» «ولما هم صاحبه بقلب»
على وجه غدا عكس الصواب
وألقاه على متنيه عجبا «يعيد له به زهو الشباب» «ترامى فوق دولاب ونادى»
أنوفل كن جلودا في مصابي
وحسبي أنني عمرت دهرا «فما لي راحة بسوى التراب» (4) الفراغ المسدود: سليمان البستاني
لا بد للبناني من لغة ولغتين مع اللغة التي يتكلمها، أما ذو اللغة الواحدة فيعد نصف قارئ وكاتب. فمنذ أعصر كانت السريانية والعربية مشدودتين في قرن عند أهل لبنان، ثم عرفوا لغات عديدة معهما، أما سليمان البستاني ففاق من تقدموه من الرواد، فعرف خمسة عشر لسانا حتى لغة «النور» إن صدق من ترجموا له ... لأنهم رووا مثل ذلك عن المطران يوسف الدبس.
استهل سليمان كغيره من الرواد فكان معلما، ثم عاف التعليم وطاف أقطار المسكونة، فكانت له من تلك الرحلات ثقافة أخرى هي غير ثقافة الحبر والورق.
أما الإلياذة، وهي أجل أعماله، فليس هو أول ماروني نقلها إلى لغته الأصلية. فالرهاوي - قبله - قد نقلها إلى السريانية منذ مئات السنين، ثم نقلها غير الرهاوي إلى العربية نثرا. ولكن إلياذة سليمان كان لها شأن لما ظهرت، فاحتفلت مصر بصاحبها يوم لم يكن يحتفى برجل لأجل كتاب ... فأقيمت حفلة تكريم لسليمان بالقاهرة خطب فيها صروف وغيره.
إن لإلياذة سليمان فضلا على غيرها بما علق عليها من شروح تقربها من فهم القارئ . فالإلياذة شعر يوناني تاريخي أفرغت فيه جميع معارف القوم في ذلك الزمن، أما موضوعها فوصف وقعة من وقعات حروب طروادة، توسع فيها هوميروس فكادت أن تكون موسوعة. وصف فيها طباع الناس وعاداتهم وعمرانهم، وطرق عبادتهم، فدلتنا على أن اليونان كانوا أصحاب فلاحة وصناعة وتجارة، وعلم وفلسفة، وعتاد حرب، وإذا بلغت أوروبا اليوم ما بلغته اليونان في كل ما ذكرنا، فهي لا تزال مقصرة عنهم في النقش والحفر، وصنع التماثيل.
قضى سليمان عشرات السنوات في دراسة الإلياذة، وتعلم جميع اللغات التي توطئها له، وظل دائبا يرحل ويقيم حتى رأى بعينه أخيرا مواطن حوادثها، فأفاد منها ما كان قد فاته. وأخيرا انبرى لها، ونظمها، وشرح لنا غوامضها، وكأنه رآها لا تكون تامة بلا مقدمة فقدم لها بمائتي صفحة، فجاءت تلك المقدمة كتابا أشبه بمقدمة ابن خلدون لتعدد أغراضها، ودقة بحثها؛ حلل فيها أولا نسب هوميروس، وخبرنا أنه «ابن النهر» الذي ولد على ضفته، وأن أباه جني، ثم مات ذاك الجني ... فتزوجت أم هوميروس معلما كفل الشاعر، ثم مات المعلم أيضا فحل هوميروس محله، وفي إحدى السفرات فقد هوميروس بصره فأطلق عليه هذا الاسم الذي معناه الكفيف.
ويحاول البستاني إثبات شعر الألياذة لهوميروس، ويقدم آراء وجيهة تؤيد ما زعم، أما ناقد الطان الشهير - ديشان - فيقول: الإلياذة والأوديسة هما شركة أدبية.
وينتقل سليمان إلى الكلام على التعريب فيقول إنه «نقل المعاني ورسمها رسما صحيحا ينطبق على لغة النقل ومشرب قرائها»، وهو يرى أن اللغة العربية خلو من الملاحم، ثم يعد رسالة الغفران من الملاحم، ولكن غموض عبارتها وخلوها من الأسلوب الشعري يخرجانها من هذا النطاق.
ويخبرنا الأستاذ في مقدمته أنه بدل التشابيه بمثلها؛ لأن اليونان يشبهون بالخنزير البري من نشبهه نحن بالأسد، ثم تحدث عن الأدب العربي وشعره بما لا حاجة إلى ذكره هنا؛ لأن طلاب اليوم يعرفون أكثره، أما يوم ظهرت الإلياذة فلم يكن لنا شيء من هذا الطراز.
ويفيض سليمان في موضوعه هذا حتى يقسم الشعر إلى أنواع ، ثم يذكر توارد خواطر لهوميروس وامرئ القيس، وغيره من شعرائنا الأقدمين، ولا عجب في ذلك فمتى تساوت البشر جاهلية تساوت تفكيرا.
ويذكر الأستاذ خاصيات الأوزان العربية فيرى أن بحر الخفيف أكثرها ملاءمة للقص والشعر الملحمي. ويقول في بطل الإلياذة إنه كعنترة في حادثته، ثم يقابل بين شعر هوميروس وشعراء العرب في المواقف المتشابهة. وينبئنا أن هوميروس كان لاهوتيا وقد جعل وكده إنصاف المرأة. ولا ينسى - أخيرا - أن يشير إلى أن للأرز ذكرا في الإلياذة، وقد رسم على وشاح هيلانة!
لقد شارك البستاني هوميروس في الشعر، ثم شاء القدر أن يشاركه أيضا في آخر العمر بالعمى، جزى الله الشاعرين عن الأدب خيرا.
وللبستاني غير ترجمة الإلياذة كتاب «عبرة وذكرى» الذي طبع عام 1908 يوم كنا نبث له الدعوة؛ ليكون نائب بيروت في مجلس المبعوثان، فكان ثم صار في مجلس الأعيان، وأخيرا أمسى وزيرا خطيرا يرجع إلى رأيه في الجلى. ولعل نثر البستاني لا يقل عن شعره جودة.
أما شعره في الإلياذة فهذا رأيي فيه: أنا لا أعرف اليونانية لأحكم، ولكن شعر هوميروس - كما يبدو لي من خلال الترجمة - شعر قليل التخيل، ولست أعلم إلى من أعزو هذا التقصير، فإذا أردنا أن نعذر سليمان قلنا ما قاله الجاحظ: الشعر لا يترجم، ولا يجوز عليه النقل، وإذا ترجم سقط موضع التعجب منه.
وقد رأيت سليمان في ترجمته الشعرية مقصرا عن سليمان في المواقف الوجدانية، فمن يقرأ شعره السويسراني يجده فيه أقوى شاعرية، قد يكون تراكم الأعلام من أهم أسباب التقصير البشع كقوله معربا:
أو إكسذ أو ثيسس بن أغيس من
قد كان مثل الخالدين رزينا
وكقوله:
كذا ابن هرطاقس آسيس البطل ... ... ... ... ... ...
وآكماس بن أنطينور يصحبه
أخوه أرخليخ كانا بصحبته
إن البستاني في ترويض هذه الأسماء اليونانية لتصير شعرا عربيا لهو أشبه بمن ينفق السنين ليعلم الدب الرقص، ثم لا يفوز أخيرا إلا برقصة دب ...
أما داء «الغريب»، وسنتحدث عنه في بحث رواد المعلمين، فيبدو لنا أيضا في شعر صاحب الإلياذة. فيا ليت سليماننا عربها نثرا.
وإذا سألتني لماذا لم ينظم العرب ملاحم؟ أجبتك مع ابن الأثير: إن الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة ذوات معان مختلفة في شعره، واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت أو ثلثمائة أو أكثر من ذلك، فإنه لا يجيد في الجميع، ولا في الكثير منه، بل يجيد في جزء قليل، والكثير من ذلك رديء غير مرضي.
وقبل وبعد، فالإلياذة تظل وتبقى عملا جليل القدر من أعمال الرواد، وكم للرائد من فضل على قومه.
الرائدات
(1) الوردتان
والغريب أيضا أن أوليات الرائدات، كأوائل الرواد، قد كان أدبهن شعرا، فعندما مات فرنسيس المراش نظمت أخته مريانا قصيدة في رثائه، وبعثت بها إلى «الجنان»، فتهلل لذلك المعلم بطرس، ورحب بها في جنانه؛ لأن المعلم كان أول من دعا لتعليم المرأة.
فلمريانا المراش دويوين شعر مطبوع، أما الرائدات الأخريات فهمن وردة الترك، ووردة اليازجي، وعائشة تيمور.
فلوردة اليازجي ديوان سمته «حديقة الورد» افتتحته بأبيات وجهتها إلى سميتها وردة نقولا الترك، وهذا مطلعها:
يا وردة الترك إني وردة العرب
فبيننا قد وجدنا أقرب النسب
أعطاك والدك الفن الذي اشتهرت
ألطافه بين أهل العلم والأدب
أما عائشة تيمور الرائدة فلها شعر طيب، وهي عندي أخطر شأنا من وردتينا، ومن مريانا، كما أنها تفوق ديباجة الكثيرين من طلائع الرواد. لعائشة ديوان «حلية الطراز» أهدت نسخة منه إلى اليازجية فشكرتها هذه بقصيدة. ومن حق النساء أن يتشبهن بالرجال، وخصوصا في تقارض الثناء الذي قال شوقي إنه يغرهن ... قالت وردة:
يا نسمة من أرض وادي النيل
وردت فأطفت بالسلام غليلي
أنت الفريدة في النساء فكيف لا
أهوى حبيبا بات دون مثيل
علمتني قول النسيب وهجت بي
ما هاج حب بثينة بجميل
ولوردة مشاركة في قول الرثاء، فكأنها فيه بنت أبيها حين تقول راثية مارون النقاش:
الموت للناس كالجزار للغنم
فليس يترك من طفل ولا هرم
وكأن القدر قد أطال عمر وردة؛ لترثي جميع أهلها حتى أخاها إبراهيم فتشبه نفسها بالخنساء، حين تقول، والضمير عائد إلى الخنساء:
بكت وحيدا وأبكي ستة ذهبوا
لكل محمدة بين الورى وجدوا (2) عائشة تيمور
هي بنت إسماعيل باشا تيمور، أخذت العلم من وراء الحجاب، عن جلة المشايخ وكانت تصغي إلى مذاكراتهم كلما اجتمعوا في مجلس أبيها، ومن شعرها قولها في وصف نفسها:
بيد العفاف أصون عز حجابي
وبعصمتي أسمو على أترابي
فجعلت مرآتي جبين دفاتري
وجعلت من نقش المداد خضابي
كم زخرفت وجنات طرسي أنملي
بعذار خط، أو إهاب شباب
ما عاقني خجلي عن العليا، ولا
سدل الخمار بلمتي ونقابي
ما ضرني أدبي وحسن تعلمي
إلا بكوني زهرة الألباب
وقد قالت بعد شفائها من رمد أصابها:
سفينة العين قد فازت من الغرق
وأشرقت تزدهي من ساحل الحدق
ثم عاودها ذاك الرمد، فقالت:
فوا أسفي على إنسان عيني
غدا في سجن سقم واعتقال
تمس المصحف الأسمى يميني
وقد وضعت على قلبي شمالي
وأنشده: لآيك طال شوقي
وما لي غيرها عز ومالي
وهذه الشاعرة الكبيرة - بالنسبة إلى العصر - من فئة المستعربين، فهي تركية أصلا، ومصرية وطنا، ولها شعر قسمته «مي» في درسها لها إلى خمسة أقسام:
الغزلي، والأخلاقي، والديني، والعائلي، وشعر المجاملة. ولعل أروع شعر عائلي قرأته لها، فأحسست بقشعريرة، رغم أن جلدي سميك ... هو قول الشاعرة بلسان ابنتها «توحيدة» التي فقدتها:
أماه قد عز اللقاء وفي غد
سترين نعشي كالعروس يسير
قولي لرب اللحد: رفقا بابنتي
جاءت عروسا ساقها التقدير
أماه، لا تنسي بحق بنوتي
قبري لئلا يحزن المقبور
صوني جهاز العرس تذكارا، فلي
قد كان منه إلى الزفاف سرور
أما الأم فتجيب في القصيدة نفسها:
لا توصي ثكلى قد أذاب وتينها
حزن عليك وحسرة وزفير
قسما بغض نواظر وتلهفي
مذ غاب إنسان وفارق نور
هذه هي الرائدة الكبيرة التي درستها «مي» في المقتطف درسا مطولا، فهل تنبري كاتبة من كاتباتنا لدراسة باحثة البادية ومي، فتقضي ما وجب علينا من الحقوق نحو هاتين اللتين يصح فيهما ما قاله النابغة في الخنساء.
الرواد الكتاب
المسرح، والجريدة، والقصة
برز روادنا في النثر أكثر منهم في الشعر، كانوا في ذاك زعماء تجديد ، أما في القريض فظل بينهم وبين كبار زعمائه أشواط، وإن جددوا فيه، وإذا كان قد لقي شعرهم المدحي استحسانا في عصرهم، وأجيزوا عليه بالمال والمراتب السنية، فما ذاك إلا من باب قول المثل: من قلة الرجال سموا الديك أبا قاسم ...
أما أثرهم في النثر، فيسجل لهم في تاريخ الأدب اسم الفاتحين، أعانتهم على ذلك معرفتهم اللغات المتعددة، فطعموا الأدب هذا التطعيم الذي جنى ثماره «رجال النهضة».
وراح هؤلاء يطعمون ويطعمون حتى صارت روضة آدابنا فواحة العبير، دانية القطوف.
اللهم، زد وبارك.
اللهم، اجعل المستقبل أمامنا لا وراءنا.
يا فتاح، يا عليم. (1) روادنا والقصة
أظن - وظني حق هو - أن أدبنا الحاضر كأكثر الآداب العالمية الحديثة، ترعرع وشب في حضن «الجريدة». فالأدب الإنكليزي الحديث، كان أولا أدبا صحفيا، وما ظهر الكتاب عندهم إلا بعد ما اشتد ساعد المنشئين في ساحة النضال الصحفي.
أما الكتاب عندنا، في هذه الحقبة، حقبة النهضة الحديثة، فكان أول ما ظهر منه إما ترجمة كتاب ديني لا بد منه «لخلاص النفوس»، يخرجونه كما تخرج دول اليوم كتاب «الدليل» للسائحين والمصطافين لهدي الناس سواء السبيل ... ودلهم على مفاتن بلادهم ومحاسنها، وأية رحلة أجل وأخطر من الرحلة الأخيرة. وإما أن يكون تصحيح كتاب تعليمي أو تأليفه أو طبعه.
ولما عرفنا الصحف والمجلات كان أدب المقالة أولا، فكتبت لتوجيه القراء في ميادين الحياة العديدة الشئون والشجون، ثم تلاه أدب القصة والأقصوصة والحكاية. وهذه الألوان كلها من «مقبلات» المأدبة الصحفية ليقبل عليها القارئ بنهم ولذة، يوم لم يكن يعني القارئ ما يعنيه اليوم من أنباء، ومشاكل اجتماعية مختلفة.
أما الكتاب العربي الأدبي الأول فخرج من دهليز الجاحظ البصري العراقي منذ ألف ومائة سنة ونيف، كما خرج الكتاب العربي الأدبي الحديث من كوخ أديب لبناني شردته عوادي الزمن عن وطنه، وهو أحمد فارس الشدياق الذي يربطه بالجاحظ أقرب النسب. أخرج الشدياق أبكار الكتب الطريفة - الواسطة، وكشف المخبا، والفارياق - قبل أن أخرج للناس جريدته «الجوائب» التي صارت فيما بعد، بطرفها النفيسة من مقالات وحكايات ، ونوادر وأخبار، و«جمل» أدبية، وسياسية؛ مدرسة سيارة تثقف القارئ العربي تحت كل كوكب.
وعرف اللبناني، قبل غيره، لأسباب دينية، كثيرا من الألسن الأجنبية، وتعرف إلى ما عند نوابغها من روائع، فترجم واقتبس واقتدى بهم في كل فن ومطلب.
تكلمت فيما مر عن شعر طلائع النهضة ونثرهم، ولا بد لي هنا من الكلام عن القصة، ذلك اللون الأدبي الذي يكاد يطغى اليوم على أدبنا الحديث. كان أكبر هم الأديب، فيما مضى، أن يكون شاعرا، أما أقصى ما يروم، اليوم، فهو أن يحصى في عداد القصصيين.
فأدب القصة الذي أضحى قبلة الشباب حين يقفون في هيكل الفن، قد كاد يطمس كل لون من الألوان الأدبية. إن هذا الضرب من ضروب الأدب يكاد يكون كل شيء في آداب الدنيا جمعاء. فحنيننا إلى رؤية أدب عربي عالمي لا يأتينا إلا من هذه الناحية، ناحية الأدب القصصي. قرأت كتابا أوروبيا يتحدث عن الآداب العالمية مقارنا بينها، ودالا على تراث كل أمة فيها، ولو لم يكن لنا كتاب ألف ليلة وليلة الذي يعده أندره جيد بمنزلة الإلياذة، وغيرها من الكتب المحتلة أعلى قمم الخلود؛ ما كان هذا المؤلف أتى على ذكرنا، فالقصة اليوم على اختلاف أنواعها هي قوام الأدب الحديث وملاكه، رافقت الإنسانية من المهد، وسوف تماشيها إلى اللحد. كانت - في الأمس - أحلاما بشرية حافلة بالجن والعفاريت والمردة، مملوءة حنينا إلى بساط الريح، وخاتم لبيك، والقضيب السحري، والقبع الأخفى وغيرها، فأصبحت الآن حقيقة، بل قل قطعة من الحياة، إذا لم نقل إنها الحياة بعينها. فأعظم بالروائي الحاذق مبدعا يخلق عالما لا يموت! فالخطبة، والمقالة، والقصيدة، لا تستهوي الأطفال والصبيان والشباب، بل الرجال الذين نسميهم بحق أطفالا كبارا، كما تستهويهم تلك القصص الرائعة التي تلقي على الحياة أشعة ثاقبة تمزق ظلماتها ودياجيرها.
تذكر جدك الشيخ كيف كان يرى كل اللذة في أن يقص عليك وعلى غيرك حكايات حياته، وما فيها من مغامرات، ألم تر إلى غضون جبينه كيف كانت تمتلئ نورا؛ إذا رأى في وجوه السامعين إصغاء إليه وارتياحا لحديثه، وإعجابا بقصصه.
فالقصة حديث البشرية منذ تجمع الناس في الكهوف، بل الإنسانية برمتها حكاية أبدية متشابكة الخطوط، جمة الألوان، أبطالها عباقرتها، ومن تأملها رأى جمالا كثيرا حتى في أشد مشاهدها قبحا، وما هذه القصص الدهرية، ذلك الميراث الخالد، إلا فصول رائعة من هذه القصة الكبرى.
وفي نظري، أن القصة كلما شخصت الواقع، تكون قد قربت من الكمال الفني. فالروائيون مصورون بغير الألوان، وكم أوحى الملهمون منهم إلى نوابغ المصورين رسوما رائعة، ولوحات خالدة في دنيا التصوير، والمصورون كالروائيين أيضا، خيرهم من أحسن تقليد الأشباح والظلال، فحسن التقليد هو قمة الفنون الجميلة، فهنيئا لمن أوتي من الروائيين سلامة الذوق ليختار من ألفاظ اللغة ألوانه، ويبدع من تزاوج ألفاظها قوس قزح.
الروائي خالق مبدع، ومصور مثالي، وشاعر كلي الخيال. يخلق عالما يتحرك، وينطق، ويحيا، ويخلد، وبخلوده يخلد الفنان معه، فالحياة والخلود متبادلان بين الروائي وشخوصه، فما يخلقه الفنان ويهب له جزءا من حياته يحيا إلى الأبد، يتحرك كلما حركته يد مفكرة أو تداوله لسان، فبين دفتي كل كتاب من كتب القصص الخالدة عالم يتحرك كالبحيرة الساهية متى داعبها النسيم. الروائي الفنان يجعل من القصة ساحة لعالمه الذي يخلقه قلمه، فيتمثل لنا كل بطل من شخوصه بشرا سويا. وتنتصب حولك تلك الأبطال فتنسيك العالم الخارجي حتى تصبح في عالم آخر لا يختلف عن العالم إلا أنه وهمي، ينقلك الروائي إلى الساحة التي خلقها فترى البيوت والأسواق، وترى الجبال والأودية، وتسمع خرير الأنهار، وتبصر كل شيء حتى نجوم السماء صلاة الظهر، والشمس في منتصف الليل.
فحين تزج نفسك في عالم الروائي الأصيل لا تعود تعلم أين أنت. فقد يحملك الرخ بمخلبه، وقد تركب بساط الريح، وتلبس «القبع الأخفى»، فإذا بك تطير وتحط، وتقوم وتقعد، وأنت ما زلت في فراشك، أو مستلقيا على كرسيك.
يخلق الروائي الموهوب أشخاصا لا ينقصها غير الروح، بل قل لا تنقصها الروح لأنها تتقمص نفس قارئها فتحيا بها حينا، كما عاشت زمنا مع من أنشأها وأبدعها .
وبكلمة وجيزة نقول: إن أول آداب الأمم والشعوب هو القصص، والمشترع، ولو وثنيا، يفكر بقصة الخلق قبل عرض رسالته على البشر. فالحياة إذن كلها قصة، ووجودي ووجودك، يا سيدي القارئ، قصة طويلة عريضة، جعل الله خاتمتها خيرا.
هل في الأدب العربي القديم قصة؟ هذا سؤال يرد على ألسنة الناس كثيرا. أما الذين قرءوا منا أعاظم كتاب الغرب، وأغرموا بروائعهم، فلا يرون للعرب قصة، ولا يرون لهم خيالا يحترم، ولا يرون شعرهم شعرا يستحق أن يحيا.
هذا ضلال منا؛ إذ نحكم على أسلافنا هذا الحكم الطائش الجائر.
قال جيمس بريستد المتمشرق العظيم: إن انخذال المسلمين في إسبانيا كان بمثابة انخذال المدنية أمام الهمجية.
وقال السر تشارل باتريس في خاتمة تاريخه لإسبانيا: إن عصر الآداب الإسلامية فيها كان من أزهى عصور امتزاج العناصر في تاريخ الحضارة.
ويقرر المستر جب المتمشرق الإنكليزي الذي لا يزال حيا يرزق، وهو عضو في المجمع العربي الملكي المصري: إن النثر العربي أخرج نثر أوروبا في القرون الوسطى من جموده وصرامته التقليديين، بما منحه إياه من خياله الذي يشبع الحواس. أما نحن فنقرر - ويا للأسف - غير ذلك، مماشين المتمشرق أوليري القائل: العربي جامد العواطف ضعيف الخيال.
هذا من حيث نثرنا وشعرنا القديمان، أما القصة فالعرب هم الذين علموها الغرب، وإن لم يكتبوها كما تكتب اليوم. وبرهاني على ذلك قول الأستاذ جب أيضا، وهو اختصاصي بدراسة القصة. قال: أسمع العرب أوروبا حكايات السندباد البحري، وما إليها، فكانت خميرة للأدب الخيالي الأوروبي الجديد الذي زحزح الأدب التقليدي، وحل محله، فنشأت في أوروبا الروايات الرومنطيقية.
ويقول أيضا: إن قصة ألف ليلة وليلة التي ترجمت عام 1704 كانت أقوى عضد للأدب الخيالي؛ ففتنت أوروبا، وقلدها كتابها في قصصهم، فأشبعوا نفوس الأمة، وميول العالم، واتلدت منها قصتا روبنصن وجيلفر، وغيرهما.
ونحن كغيرنا من أمم الأرض قد مررنا في أطوار ومآزق، وقد خرجنا منها بقوة الفكر والخيال الذي لا يفتأ يعمل حتى في أدجى الظلمات، فمنذ عرف الشرق الطباعة والصحافة ألم كتابه بمقدار من القصة والأقصوصة والرواية، فترجم أحمد فارس لجريدته «الجوائب» بعض حكايات، ولما ظهرت «الجنان»، بعد عشر سنوات، شرع سليم البستاني ابن المعلم بطرس يعرب ويؤلف لها الروايات والقصص، فما خلا منها عدد منذ مولدها حتى مماتها، ومثله فعل جرجي زيدان في هلاله ناحيا نحو إسكندر ديماس في رواياته التاريخية، ومثل هؤلاء ألف صروف قصصا لمقتطفه، وكذلك فعل شيخو في مشرقه فنشر روايات شرقية مؤلفة ومعربة.
أما فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة، فكان ميالا إلى الفلسفة ومشاكلها، فألف لمجلته رواياته الفلسفية الاجتماعية، ثم كان إلى جانب هؤلاء كتاب كثيرون يترجمون القصص على اختلاف أشكالها وألوانها، فراجت الروايات البوليسية؛ لأن فيها مغامرات وعقدا تستثير فضول الناس حين ينتظرون النهاية، ولعل طانيوس عبده كان المترجم المجلي في هذا المضمار الأدبي.
أما الأقصوصة، وهي التي يهاجمها اليوم المبرز والمقصر، فجبران خليل جبران كان أول من حاول تأليفها وفقا لأصولها الحديثة، فأخرج مجموعته الأولى «عرائس المروج»، ثم أتبعها بالأرواح المتمردة وغيرها، فهذه الأقاصيص تمتاز بخيالها الرفيع، وبما يشيع فيها من ألوان يندر وجودها عند الكتاب الآخرين؛ لأن مؤلفها مصور، يفكر بالصور، ويكتب بالألوان لا بالحبر والورق، أما مواضيع أقاصيصه فكانت اجتماعية تحارب تقاليد يقدسها المجتمع. إن أقاصيص جبران كالواقعية في حوادثها، ولكن خيال صاحبها يخرج فكرته الاجتماعية بقالب خيالي يبعدها كثيرا عن الواقع، ولعل هذا هو عيبها الصارخ.
وبعد تلك الآونة بوقت قليل ظهرت في مصر أقاصيص لمحمد تيمور الذي مات ولما ينضج. والقصة اليوم تكاد تكون هدف كل كاتب موهوب، يلجأ إليها في تأدية أغراضه، وبث فكرته، إن كانت له فكرة. وإنني كبير الأمل بالشباب، وأرجو أن يبدعوا في هذا الفن، فتبلغ القصة والأقصوصة والرواية عندنا المستوى الذي يجب أن تبلغه أمة كان أدبها فيما مضى منارة للشعوب، كما يعترف بذلك رجال الفكر المنصفون.
لو جئت أعدد القصصيين لضاق المقام، ثم إنني أخاف أن أنسى أحدا منهم فتقوم القيامة؛ ولذلك اكتفيت بمن ذكرت من الرواد، أما الأحياء فالقراء يعرفونهم جميعا، وهم يحسنون الحكم عليهم دون أن أكون لهم مستشارا.
وبعد فلي كلمة أوجهها إلى القصصين عندنا، وهي أن اللغة ليست جمادا ساكنا، ولكنها حي نام، فيجب أن يوفق بينها وبين ضرورات التعبير التي تتغير بتغير العصور والبيئات، فالإسراف في التمسك بالأساليب اللغوية العتيقة لا يلائم قصتنا اليوم، وهو يؤدي حتما إلى تغلب الأسلوب المبتذل. فليكن إذن أسلوب القصة صحيحا، أولا، ثم قريبا من التعابير المألوفة في الحياة، والتي تدور على الألسنة. وإني أذكرهم بأن القصة العالية هي قطعة فنية لا بد لها من العنصر الشعري، فليست القصة حكاية تروى كما هي في الحياة والواقع، ولكنها تصور الواقع كما يراه الكاتب الملهم. نعم ليست القصة مقالا ولا فصلا تاريخيا، فعلينا أن نجعلها لابسة أجمل أثواب الأدب الرفيع.
ولا يعني قولنا هذا أن نجعل الحوار شعري التعبير، فللحوار لغته، وللوصف أسلوبه، وبهذين العنصرين تحيا القصة، وبدونهما لا تعيش. إن بث الحياة في أشخاص قصصنا يقتضينا هذا وذاك، فلنكن حكماء.
وقبل أن نطوي سجل هذا البحث الوعر نقول للقارئ العزيز بلسان فلوبير وتورغنيف: «لا تكتب القصة ليتسلى بها، ولكنها قطعة فنية يجب أن تكتب جيدا.»
أجل، على قدر ما في القصة من شاعرية يكون نجاحها، أما شعرها، وما نعني إلا النثر الشعري، فيجب أن يكون منبثقا من أعمق أعماق الكاتب الأصيل، وأن ينفجر من شخوص الرواية ومشاهدها لا من شخصية المؤلف.
وهنا لا بد من لفت النظر إلى أمر مهم وهو أنه على القصصي أن يقطع السرة بينه وبين أبطاله؛ فيجب ألا ننطق بلساننا إلا عما لا يمكن أن ينطق به أشخاص قصتنا، فالحوار كما قلت هو ملاك القصة وروحها وفيه فنها كله.
طبعا تريد أن تعرف ما هي مقومات القصصي لتعرف نفسك، وعليه أقول لك يا عزيزي: إن الروائي خلاق كما قلت لك سابقا، فإذا كانت الطبيعة لم تهبك قوة الإبداع فلن تستطيع أن تكون قصاصا، كما أنك إذا تجاوزت الحد في الخلق الغريب كنت كمن يخلق مسوخا وعجائب، ثم إذا استطعت أن تخترع ولم تحسن القص تعرقل سير شخوصك ووقفت حركة قصتك، والجمود قتال.
فعلى القصصي أن يمسك سلك قصته ثم لا يفلته، وإذا أقبل وأدبر وكان غير لبق «تشركل» الخيط ... فالقصة محتاجة إلى حسن وتنوع في الموضوع، وإلا قتل القارئ صبرا.
والقصصي محتاج إلى كل علم وخصوصا علم النفس، وعلم الاجتماع، وقوة الملاحظة؛ ليستطيع خلق أبطال لهم مميزاتهم الخاصة، وعلاماتهم الفارقة، وبغير تصوير هؤلاء أتم تصوير لا تحيا القصة مهما أسبغنا عليها من حلل الفصاحة والبلاغة.
وبعد كل هذا، بل قل قبل كل هذا، عليك أن تقرأ روائع القصص العالمية قراءة عميقة، وتطالع كتب النقاد، وما علقوه على هوامشها.
وأخيرا إذا سألتني: كيف أكتب القصة؟ أجبتك: اعمل بباعك وذراعك، فالفن لا يعرف المقاييس، والأم عندما تضع ولدها لا يعنيها أن تبحث عن كيفية تكوينه من بويضة إلى كتلة لحم ذات محرك - موتور - يعمل بلا انقطاع عشرات الأعوام.
إن المقاييس لا تخلق الفنان ولكنها تهذب من خلق فنانا، ونصيحتي لك هي أن تكون قارئا مدمنا لا يفرق بين قديم وحديث، فالفن الصحيح كالخمرة، كلما عتقت جادت. (2) المسرح (2-1) مارون النقاش
أمامي «أرزة لبنان»، وهي مجموعة روايات مارون النقاش أبي المسرح العربي. احتفلت مصر بالذكرى المئوية لروايته الأولى، منذ ثلاثة أعوام - 1948، وكي لا أطيل المقدمة، وأزعجك بشقشقة الكلام عما أحدثته مسرحيات مارون النقاش، أدع الكلام لمعاصره الشيخ يوسف الأسير الذي قال فيها:
هذي رياض أثمرت
فكاهة كالرطب
أم حكم قد ركبت
في قالب من لعب
يكاد أن يرقص من
يسمعها من طرب
أم ذي ثمار فكر من
حاز فنون الأدب
أعني به مارون من
أبدعها بالعربي
شكرا له من فاضل
فاز بكل الأرب
حق على نقاشها
نقش بماء الذهب
فلو لم يكن الفضل للمتقدم لما عنانا شيء من أمر هذه المسرحيات لضعف أسلوبها، ولكن فهم مؤلفها للفن يشفع لها، فقد تعرف إلى أصوله في كتب القوم، ثم عندما زار أوروبا وخصوصا إيطاليا. تعلم ذلك حين تقرأ مقدمة «أرزة لبنان»، وتصل إلى التعبير عن خشبة المسرح ب «البانكوشينكو».
ثم يقول في تلك المقدمة بعد أن يتحدث عن التمثيل الأمثل: «نحن الآن لا نطلب من أصحابنا الوصول لهذه الدرجة بل نرجوهم الانتباه لذلك قليلا، وأشور عليهم ألا يزيدوا الحد أيضا بتكثير الإشارات والانفعالات، بل الموافق أن يكون كل شيء سائر طبيعيا بالاعتدال كما لو كان الحادث الواقع أكيدا؛ حتى لا يضيع رونق الرواية، وتعب المؤلف؛ لأنه إذا لم تحسن الإشارات فالرواية هي كالعدم.»
هذا ما قاله نقولا أخو مارون طابع روايات أخيه عام 1869، وهو يقول في آخر مقدمته:
أما المرحوم أخي المصنف فقال: أما أنا فلا أستحسن هذه الإشارات بل إنما أنا على رأي موليير «أشهر المؤلفين بهذا الفن» الذي قال: إن من لا يحسن تشخيص روايتي بدون إشارات تدل على ما ينبغي عمله، فالأحسن ألا يشخصها، والقصد بذلك ظاهر. إن المعنى هو ذاته ينبه اللاعب للحركة اللازمة.
1
أما كيف مشى التمثيل في ظهور الليالي يرجو التلاقي، كما قال المتنبي لكافور، فهو أن مارون جعل من بيته مسرحا، ثم بنى آخر في جوار بيته، ولكن هذا صار كنيسة، بعد موته. وهنا لا بد لنا من وقفة؛ لنفهم القارئ أن هناك معاصرين لمارون اقتدوا به وألفوا مسرحيات، وهناك أعيان كمارون جعلوا مثله دورهم مسارح. فهذا ديوان عمر الأنسي ينبئنا أن رواية مثلت في دار بني الغندور، وإن رواية ثانية كتبها الأمير محمد أرسلان، ومثلت في دار بني حمادة. وقد مر بنا ذكر الرواد الذين ألفوا مسرحيات، ثم احتضنت المدرسة المسرح، وانصرف إلى تأليفها وترجمتها معلمون كثيرون.
أما المسرحيات الشعرية فتصدى لها خليل اليازجي، ثم المعلم عبد الله البستاني الذي نظم خمس مسرحيات أشهرها «رواية الوردتين» التي «قرظ» مقرظيها شاكر بك الخوري كما مر بك.
أنشأ مارون مسرحياته؛ ليجذب الناس إلى محبة هذا الفن لأنهم أعداء كل جديد، ثم تنوعت المسرحيات بعده مع أديب إسحاق، والحداد، وفرح أنطون وغيرهم ممن ترجموا وألفوا.
أما في سوريا فأبو خليل أحمد القباني كان أول من أحيا هذا الفن في دمشق عام 1865، فاستمد مواضيع مسرحياته من التاريخ العربي، فأقبلوا عليه في مصر، ولم يخرج منها كما أخرج يوسف الخياط الذي مثل رواية «المظلوم» بحضرة الخديو إسماعيل.
إن هذا الفن - كما كان في أوروبا - نشأ وترعرع في لبنان، وإن آلت زعامته بعد حين إلى مصر، وهي لا تزال في ذلك القطر في رقي بفضل مناصرة الدولة لأربابه ورعايتها لهم. فإذا كان لبنان مثل أول رواية عربية فمصر أنشأت أول «أوبرا» ملكية. أما مسرح سميي مارون - وهو بكر المسارح العربية الشرقية - فاستحال إلى كنيسة
2
كما قلنا. (2-2) نجيب الحداد
ولد في بيروت عام 1867، ومضى لسبيله عام 1899 فكان خاتمة كتاب القرن التاسع عشر، دب في حجر خاليه إبراهيم وخليل اليازجي؛ فتلقى منهما أصول اللغة العربية، ثم هاجر إلى مصر وهو صغير السن فأدخله ذووه إحدى مدارس الإسكندرية فأتقن اللغة الفرنسية، ولما نشبت ثورة عرابي باشا عاد إلى بلده، وأتم دروسه في المدرسة البطريركية ببيروت.
ولما هدأت عاصفة تلك الثورة رجع إلى الإسكندرية، وانصرف إلى الكتابة فخاض غمار الصحافة وبرز في ميدانها. كانت المقالة في زمن نجيب بضاعة الوقت الرائجة في سوق الأدب، فأنتجت منها قريحته روائع وطرائف، فطارت شهرته وبعد صيته. وكان المسرح في طور صباه فغذاه نجيب بروايات تمثيلية عديدة كان لها أحسن وقع في النفوس، فطغت على مسارح الشرق العربي.
كان بلبل هذه الروايات الشادي الشيخ سلامة حجازي آية دهره في الإنشاد، فاستيقظنا نحن على أسطواناته ذات الاهتزازات الساحرة تغني لنا من شعر نجيب الحداد.
إن كنت في الجيش أدعى صاحب العلم
فإنني في غرامي صاحب الألم
يا من تملكتم قلبي، فكان لكم
عبدا، وكنت له من أطوع الخدم
هذه من رواية صلاح الدين الأيوبي التي راع السلطنة التركية تمثيلها، ثم الأنشودة الثانية من رواية روميو وجولييت:
سلام على حسن يد الموت لم تكن
لتمحوه أو تمحو هواه من القلب
وهناك روايات أخرى عديدة شهدت تمثيلها في بيروت لجوقة رحمين بيبس.
أتم نجيب الحداد ما بدأ به مارون وسليم النقاش وأديب إسحاق، فمضى بالمسرحية قدما ، كما أحسن إنشاء المقالة ، وإن قصر عن أديب إسحاق فيها. فالفرق بين الأديب والنجيب هو أن أديب إسحاق كفرس سبوح جموح، والنجيب يمشي مشيا وئيدا. في نجيب الحداد شيء من نفس خاله إبراهيم فيسير الهوينى حين يكتب، وقد رأيت ابن الأخت هذا يترسم خطى الخال في مقالاته الأدبية. إن هؤلاء الذين أسميهم أساطين كتاب المقالة - بعد أبيها الشدياق - وهم سليم البستاني، والمراش، وإسحاق، وتقلا، وإبراهيم اليازجي، ونجيب الحداد، وخاتمتهم المنفلوطي قد ساروا بالمقالة إلى أمدها البعيد، أما الذين جاءوا بعدهم، وإن كتبوا المقالة مثلهم، فقد تغيرت عناصرها على يدهم، وبرزت من تحت سن قلمهم فاتنة مغرية كما نلحظ حين نقرأ الريحاني - أبا الشعر المنثور - وجبران وولي الدين يكن وعمر الفاخوري، وغيرهم.
كان للمقالة الشأن الأول في فجر النهضة؛ ولهذا نرى أثر الشدياق وإسحاق ظاهرا في جميع من أتوا بعدهم، فقد كان يوصينا أساتذتنا بقراءة مقالات هؤلاء، وخصوصا درر الأديب ومنتخبات النجيب، فكان هذان الكتابان في قماطرنا - طبقاتنا - إلى جانب نهج البلاغة، نظل ننهل منها، ونعل حتى نخرج من قاعة الدرس جارين الذيل تيها كالتغلبي ...
كان يعجبنا الحداد أولا لسهولته وليونته، حتى إذا تمكنا من ناصية لساننا المبين ملنا إلى أديب، ثم عدلنا عن الاثنين إلى نهج البلاغة، وأمسينا ولا كفء له في نظرنا، لقد أجملنا فلنفصل الكلام عن الحداد الناثر.
لنجيب منتخبات طبعت مرات لتهافت الناشئين عليها. كانت مثالا لنا في ذلك الزمن نطبع على غراره، أما موضوع هذه المقالات فأكثره أدبي اجتماعي؛ لأن معالجة القضايا الأخلاقية كانت أغلب في ذلك العصر. وفيها أيضا مقالات عديدة، سياسية، وفيها حكايات وملح، وقصائد معربة عن الفرنسية، وكلها ذات مغزى ترمي إلى غرض أدبي اجتماعي، لا يتسع المجال لتحليل أسلوب الحداد في نثره الطريف، فهو كالشعر في التخيل، وصفاء العبارة وموسيقاها، وإني لأكتفي بعرض نموذج يدل دلالة واضحة على طريقته الكتابية، وغرضه الاجتماعي، قال من مقالة عنوانها: «الخادم والمخدوم»:
متى ترى الرجل مطرقا مهموما يفكر في مستقبل أيامه، وحزينا يحسب لغده قبل عامه ، ويحرص على صحته كما يحرص على رأس ماله؛ إذ لا مال له سواه، وهو مع ذلك ينفقها عرقا يسيل من ثنايا الجبين العابس، ونورا ينبعث من حدقة تلك العين الكليلة، وفكرا تقسم بين عمله المندوب إليه بدافع العيشة والاحتياج، وبين عيلته المدفوع إليها بداعي الحنو والتسخير، فقل هذا هو الخادم رب البيت والأولاد، يعمل لطعام اليوم من شغل اليوم، ويسأل الله السلامة في الغد ليعمل في الغد، ولا أمل له في هذه الحياة الدنيا سوى مخدوم أوى إليه، وعافية يستعين بها عليه، وصبية صغار يرجو أن يقوى على قوتهم وسد حاجاتهم، قبل أن يرجو لهم بلوغ الشباب، ويأمل منهم النفع والإسعاف.
ومتى رأيت الرجل يمشي في الأرض مرحا، ويختال في مشيته فرحا، ويرفع أبصاره إلى العلاء كبرا، قبل أن يرفعها شكرا، ويدخل إلى حانوته آمرا ناهيا، يسخط على خادم لا يرضيه، أو يتظاهر بالغضب عليه لكي لا يطمع فيه، أو يدعي القلة والخسران لكي لا يزيد في راتبه ما يكفيه، فقل هذا هو المخدوم، أو البعض من أمثاله.
يحاسب على الدرهم ويخزن في الكيس، ويعد مئونة الدهر، ويجمع لآخر الأبد، وقد أنساه الغنى أن في الأرض موتا دائرا، وقضاء محتوما، وأن وراءه خادما عاملا لا أمل له بعد الله إلا به، ولا معول إلا عليه، ولا رجاء إلا عنده، ولا طمع بمستقبل العمر والاستعانة على شدائد الدهر إلا فيه، وفي مكارم أخلاقه، وقد لا يكون من أصحاب تلك الأخلاق كما يكون خادمه من أصحاب تلك الآمال.
أرأيت أي مشكلة يعالج نجيب الحداد في ذلك الزمان، إنها مشكلة اليوم بعينها؛ ولهذا نقول: إن الأدب الحي لا يموت، بل يصلح للقراءة في كل زمان ومكان، أظنك أدركت معي بعدما سمعت تلك الفقرات أن هذا الجيل من الأدباء متأثر بكتاب القرن الرابع؛ أي مدرسة ابن العميد، وقد دلك على ذلك دلالة واضحة تفننه في استخدام حروف الجر كما كانوا يتفننون.
وهناك أيضا نجيب الحداد الشاعر وهو في نظمه الهين اللين متأثر جدا بجده المرحوم ناصيف اليازجي، وهذا ما يؤيد مزعم النقادة الفرنسي «تين» في العرق، انظر إلى ديباجتيهما فتحسب أنهما نسجتا على نول واحد، ففي شعر نجيب سهولة وبساطة كلام جده، تأمل كيف يفتتح رائعة مسرحياته «صلاح الدين الأيوبي»:
إن لم أصن بمهندي ويميني
ملكي، فلست، إذن، صلاح الدين
تحمي الممالك ربها أما أنا
فأريد أحمي الملك لا يحميني
ونجيب الحداد شاعر مطبوع، وله ديوان كنا نقتله مدارسة، نطوف به من الجلد إلى الجلد مرات، وأشهر قصائده قصيدة في وصف القمر، كأنها نظم لمقالة خاله الشيخ إبراهيم التي هي أروع نثر القرن التاسع عشر الشعري، وسترى منها نموذجا.
أما أسير قصائد نجيب وأروعها، فهي التي قالها في وصف القمار فدارت على كل لسان.
لقد غذى نجيب النهضة بما ألف وترجم من مقالات طريفة ومسرحيات رائعة. عاش زهاء ثلث قرن صرفه في خدمة أمته ووطنه، ومرت ذكرى وفاته الخمسينية، كما مرت ذكرى الشدياق من قبل، فلم يأبه لها أحد، فكأن الرجل لم يكن ذلك الرائد العامل.
رواد الصحافة
(1) الشدياق
لم نسم أحمد فارس الشدياق «صقر لبنان» عبثا واعتباطا، ولكنه استحق هذا الاسم؛ لأنه فر كما فر صقر قريش. هذاك شيد دولة عربية غربية، وهذا شاد دولة أدبية وبنى النهضة الحديثة على أسس راسخة. أقرت له بذلك مصر، فوضعت جائزة سنية لمن يكتب عنه - من الكتاب المصريين - كتابا موضوعه: «أحمد فارس الشدياق وأثره في اللغة والأدب، ووضع المصطلحات الحديثة».
كيف لي أن أحدثك عن أحمد فارس في فصل صغير، بعد أن كتبت عنه كتابا، ولم أحط فيه بجميع نواحي تلك الشخصية الجامعة التي يصح فيها قول الشاعر:
وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
فهو امرؤ قيس عصره، وجاحظ زمانه، وفولتير جيله، وخليل القرن التاسع عشر. أبو الجريدة العربية المثلى الجامعة للأدب والسياسة والعلم، وأبو الكتاب في هذه النهضة التي نتحدث عن روادها.
ذهب أحمد رائدا فأصبح مستعمرا وباني دولة أدبية شرقية غربية. وإذا ظل المنهاج اللبناني متنكرا له، فعبثا يحاول اللبنانيون البحث عن مجد أدبي صحيح في صبح عصر الانبعاث، إنهم لن يجدوه.
إن أدبنا ككل آداب الأمم المعاصرة نشأ أولا صحفيا، كما قلنا، والشدياق هو أول من كتب المقالة لجوائبه، فهي الجريدة العربية الأدبية السياسية الأولى، وإن كان نشأ قبلها صحيفتان، فمن الظلم أن نحصيه مع الرواد وهو أبو الكتاب الأدبي في الفارياق وكشف المخبا. وهو أول من وضع لنا المصطلحات الحديثة. فإذا شئت أن تعرف شيخ العربية المعاصر، فاقرأ «صقر لبنان» لتلم بكل نواحيه إلماما، أما هنا فسأريك نموذجا من إنشائه لترى الأسلوب الذي مشى فيه على أثره كتاب زمانه، وكتاب العصر الحاضر.
إن الشدياق من كتاب النضال، وهو نصير المرأة قبل أن يهب شرقي لنصرتها، وهو المطالب بحريتها قبل قاسم أمين.
1
كان الرجل مغرما بالحرية حتى طالب بها للعبيد في زمن الرق والاستعباد، وإذا كنت لا تصدقني فافتح الصفحة الخامسة والثمانين من الجزء الأول من مختارات الجوائب، فلا بدع إذا أن طالب بحرية المرأة في ذلك العصر، أليس هو القائل في مقدمة فارياقه أنه بناه على أساسين: المرأة، واللغة.
وإذا نشرت لك نموذجا فليس قصدي أن أدلك على نزعته الفكرية فقط، بل لأريك بعض ما ابتكر في المقالة التي كان أبا لكتابها جميعا، تأمل كيف أخرج «جملته الأدبية» - هكذا سمى المقالة أولا - فعلم بذلك معاصريه، ومن جاءوا بعدهم. ليس لهذه المقالة عنوان، ولكني أنا عنونتها «حرية المرأة». قال الشدياق بعد مقدمة لا يتسع كتابنا هذا لذكرها:
أما سن الزوجين وقت الزواج، فليس فيه قول فاصل مبني على الاحتجاج، ففي بلاد أوروبا لا تتزوج المرأة رجلا إلا إذا كان تربا لها، وإلا فزيادة بضع سنين، وما زاد على ذلك فهو من الشذوذ الذي يشين؛ وذلك كأن يتزوج شيخ فان، وهو شريف النسب، بفتاة لا أصل لها ولا حسب، فهي إنما تتزوجه لكي ترث منه اللقب، لا لكي ترأمه رأم من أحب. وفي بلاد الشرق قد يتزوج الرجل من لم تبلغ نصف عمره، ولا يرى في هذا الفرق سببا يحملها على تركه وهجره، لأنه يعتقد أن الذكر خير من الأنثى، وأفضل منها قنسا، وأكرم جنثا.
وعلى هذا فله أن يغيرها بضرائر شتى، وأن يألت حقها ألتا، ولا يمحضها الوداد محضا، ولا يعنى بشأنها إذا امتحنت، ولا يرثي لها إذا امتهنت، وما ذلك إلا لأن الذكر خير من الأنثى، وأنه أفضل منها قنسا، وأكرم جنثا.
وإن له أن يسهر الليالي مع أحبابه، وهي مقصورة على حجرتها، ولا ترى إلا وجه ضرتها، وأن يغيب عنها دهرا، ويغادرها مقيدة باسمه كرها وجبرا، ويجعل عليها من ترقبها، فتقصوها وتحجبها، فلا تخرج إلى الشارع، ولا تبرز إلى المصانع، ولا تستنشق الهواء إلا من خروق الشباك، ولا تلمح بشرا إلا على وجل من الهلاك، وإيجاس من الانتهاك. وما ذلك إلا لأن الذكر خير من الأنثى، وأنه أفضل منها قنسا، وأكرم جنثا.
وإن له أن يدعي الولاية والكرامات، والمقام الذي يختص بالصالحين ذوي الرياضات، فيختلي بالنساء ويقرأ عليهن، ليحمل أزواجهن على ودادهن، ويصرفهم عن إبعادهن، فيقبلن عليه زمرا، ويصرف أوقاته معهن مستهترا؛ وزوجته إذ ذاك تتململ من الكمد، وتنقلب في النكد، فليس لها من تشكو إليه، ومن تعول عليه، ولا من ينقذها منه، أو يصرفها عنه، وليس لها أن تماري في ولايته، وتتطلع على حبالته. وما ذلك إلا لأن الذكر خير من الأنثى، وأنه أفضل منها قنسا، وأكرم جنثا.
وإن له أن يدعي العلم فيجمع لديه غلمانا يتلمذون له، فيأتي منازلهم ويأتون منزله، ويتلو عليهم الخزعبلات، والنوادر المستميلات، فيلازمون حضرته، ويكرمون طلعته، ويؤثرون مودته، وينوهون بفضائله، ويعجبون بشمائله، حتى تتمكن محبته في قلوب أهلهم، ومن اتصل بهم، فيودوا أن يصل نسبه إلى نسبهم، ويعرضوا عليه عوانسهم، ويستزيرونه ليوانسهم؛ وزوجته إذ ذاك، تسمع وتتأسف، وتدمع وتتلهف، وما ذلك إلا لأن الذكر خير من الأنثى، وأنه أفضل منها قنسا، وأكرم جنثا.
وإن له أن يصر على ما اكتسبه من المال، ويخفيه عنها كخفائها عن الرجال، فلا ينص لها منه، إلا ما لا محيد عنه، وهو قوت من لا يموت، ولباس من لم يودع بعد في الأرماس، وهو على نفس أكرم الناس. فإن قالت له: إن فلانة ذات حلى، وإني ذات عطل، وما لي غير هذا الثوب من بدل، قام على منبر الوعظ والإنذار، وقال لها: إن المرأة الصالحة تكتفي بالإدام والأطمار، وقد طالما عهدتك من الصالحات، فكيف صرت من المسرفات الطالحات. قال الله تعالى ... قال النبي
صلى الله عليه وسلم ... قال زيد ... قال عمرو ... أنبأنا ... حدثنا ... فيسكنها ويخجلها، وعلى كيده يحملها، إذ هي تعلم أن الشرع الشريف لم يحرم على النساء الزينة، وإنما هو سفاهة من الرجل وسوء كينه. وأقبح من ذلك إذا كان الرجل يحرمها على عرسه ويستحلها لنفسه، وما ذلك إلا لأن الذكر خير من الأنثى، وأفضل منها قنسا، وأكرم جنثا.
ثم إذا قالت له: إن جارتي تخرج إلى المنازه، وبين حالتي وحالتها مشابه، فدعني أخرج معها، وأرتع مرتعها، وأجري مجراها، وأسري مسراها، قال لها: إن شأن الحرة أن تكون ملازمة للزوايا، مداومة على الخبايا، لا تتفرج، ولا تتبرج، ولا تتلوج، ولا تتلعج، ولا تفكر في منتديات النساء، ولا تصبو إلى الكساء. وكل أنثى خرجت من دارها، فقد باءت بأوزارها، وترجمت عن شنارها، ثم اندفع يقول: قال الله ... قال الرسول ... وما ذلك إلا لأن الذكر خير من الأنثى، وأفضل منها قنسا، وأكرم جنثا.
وإذا قالت له تلاطفه، إذ ترى الهم يواكفه، والغم يرادفه، وهو ينفخ متضجرا، ويتلهف متوغرا: ما لي أراك اليوم مهتما، فكدت تذوب أسى وغما، فلا تجيد خطابا ولا تحير جوابا، ولا تهتم بما أهمنا من عوز الطعام، وفقد الائتدام، بله اللباس الفاخر، والحلى والجواهر، فقد أنسانيها عدم القوت، وما بعد ذلك إلا الأجل الموقوت. قال لها: كأنك تنبشين أسراري حتى تبعثريها، وتنبشين أطواري حتى تغوريها، فهل يوم ربقني الاحتياج في ربقة هذا الزواج، اشترطت علي أن أبثك مكتومي، فضلا عن أن أطعمك مأدومي؟ فهلا تنتهين عن هذا اللجاج والخصام المؤدي إلى الثجاج واللكام؛ وما ذلك إلا لأن الذكر خير من الأنثى، وأفضل منها قنسا، وأكرم جنثا .
وهكذا يعيش الرجل والمرأة كالضدين المتعاندين، والقرنين المتناكدين، فيبيت كل منهما والاحتيال شاغله، والاغتيال شاعله، إلى أن يصلح بينهما الطلاق، ونعم المصلح الفراق.
ولكي يبدو لك جليا أثر هذا الأسلوب اقرأ الكثيرين من الكتاب بعده، بل اقرأ بعضا من مقال للدكتور شبلي الشميل نشر في هذا الكتاب. إن مثل هذه الفصول هي التي وجهت كتاب النهضة فيجب أن يذكر صاحبها مع الجاحظ وغيره، وإذا قال واضعو المنهاج اللبناني: إن في كتب أبي النهضة أحماضا، قلنا لهم: وعند الجاحظ وأبي نواس وابن الرومي ما يستحى من ذكره. أفلأجل هذا صار الشدياق لا يستحق الذكر!
قيل: محبة الآباء تتصل مع البنين. ولعل الآية معكوسة عند من يستشارون «سرا» حين تعديل المنهاج، فيطبخونه لنا على نار حسدهم، وبغضهم الموروث، فيجيء مأدوما بما استسمنوه من ذوي الورم. (2) بطرس البستاني وولده
يقول المثل: عاشر القوم أربعين «يوم» فإما أن تصير منهم، أو ترحل عنهم. وأستاذ الجميع المعلم بطرس البستاني عاشر العلماء الأميركان زمنا فصار منهم. وحسب النهضة من هذا المصير أنها غنمت ما غنمت من تآليف علمية ولغوية، ومدرسة وطنية، ومجلات ثقافية، ودائرة معارف، إن لم تكن كالدائرة الإنكليزية فحسبها أنها أول موسوعة عربية، ومحيط المحيط الذي ضم تعريفات حديثة لم تكن في المعاجم القديمة.
يذكرني أسلوب المعلم بطرس بتراجمة العصر العباسي الذين أغنوا النهضة الأولى علما ومعرفة. ليس للمعلم بطرس بلاغة الكتاب الكبار، ولا إبداعهم، ولا صحة عباراتهم ... فهو مترجم وناقل، وقد أصاب فيما فعل، لأن البلاغة، وإن كانت تنقصنا في ذلك العصر، فقد كنا أحوج إلى الفنون الحديثة وعلوم العصر الجديدة؛ فالرواد الأول لم يترجموا إلى العربية إلا ما احتاجوا إليه من الكتب لخدمة الدين. فمن يقرأ آثار المعلم بطرس، جرائده ومجلاته، وتآليفه يجد أن هذا الرجل العظيم القدر، الفذ الهمة، كان يهمه أن ينقل إلى لسان العرب ما ينفع ويفيد، وأن يجدد طريقة التصنيف. وحبه التسهيل في كل ميدان حمله على الكتابة بالأسلوب الذي اعتمده التراجمة النصارى، في عهد هارون والمأمون وغيرهما ، وها أنا أجول وإياك في «جنانه» دون كتبه الأخرى التي يعرفها كل قارئ، فشعار الجنان: حب الوطن من الإيمان، ولعل هذا كان من أسباب تمسك المعلم بزيه اللبناني، فهو وطني صميم، وفرد قام بأعمال تعجز عنها الجماعات، وإن لم نبالغ قلنا كما قالت فيه المقتطف: «وإذا أعملنا النظر في الأعمال التي اصطنعها لوازنت أعماله أو فاقت أعمال ثلاثة رجال من فضلاء الناس بعيدي الهمة، ماضي العزيمة، غزيري العلم والمعارف.»
2
يبدأ الجزء الأول من الجنان - كانون الثاني 1870 - بمقال مترجم لم يوقع، ويختم برواية «الهيام في جنان الشام» كتبها ابنه سليم، ونشرت متسلسلة في أجزاء السنة الأولى فانتهت بانتهائها. أما جميع المقالات الأولى بعد العدد الأول فكتبها كلها سليم، وسليم ذو ملكة إنشائية ليس لأبيه بيانها، فتنقل من موضوع إلى موضوع، وفي السنة الثالثة جعل سليم عنوان مقالته الدائم «جملة سياسية» كما سماها الشدياق في جوائبه من قبل.
وظلت البساطة، بل الركاكة، مرافقة قلم الجنان حتى دخلت سنتها الثانية، وعلت صيحة صاحب الجوائب، فأعلن المعلم بطرس: «إنه لما كان الجنان قد تجنب استعمال الألفاظ اللغوية في السنة الأولي من سنوات نشره، وكان من المفيد أن لا يتجنب ذلك بعد أن يكون جمهور القراء راغبا في توسيع دائرة اللغة باستعمال الألفاظ الكثيرة ... كان لا بد لنا من القيام بحق ذلك الأمر المهم. فنسأل الله التوفيق، ونطلب إلى حضرة قرائه أن يعذرونا، إذا أتعبناهم بتكرار مراجعة القواميس.»
3
أما ولده سليم فودع قراء الجنان في آخر سنتها الأولى بقوله عن روايته المتسلسلة: «وقد اعتنيت بجمعها من صفات الفضلاء والرذلاء والعقلاء والجهلاء، ولم أترجمها عن عجمي ولا نقلتها عن عربي»
4
ووعد أن يقدم للقراء رواية حبية تاريخية في العام المقبل، وقد بر بوعده فألف رواية «زنوبيا ملكة تدمر» ونشرها متسلسلة، ثم استمر على ذلك فنشر في السنين التالية رواية «بدور»، ثم رواية «أسما» التي لم تكف فأنشأ لآخر عدد أقصوصة عنوانها «غانم وأمينة» فسد بها ذلك الفراغ، ثم نشر عام 1874 قصة «الهيام في فتوح الشام»، وقد أكثر في هذه القصة من الترصيع بالشعر القديم، لأنها عربية تاريخية كما يفهم من عنوانها، ولعل سليما هو أول من كتب رواية تاريخية، ولست أقول إنها أوحت الموضوع إلى زيدان بعده؛ لأن زيدان عارف مثله بما عند القوم من هذه البضاعة.
وبقي سليم يمون الجنان بروايته سنة كاملة، أما في نهاية هذه السنة فأعلن عدوله عن التموين الكلي. وفي سنة 1875 كتب للجنان رواية «بنت العصر» فقام بكفايته نصف سنة، وكأنه مل التأليف فشرع يترجم بدلا من أن يؤلف، فنشر بالتتابع روايات: «كاملة»، و«الغرام والاختراع»، و«الصواعق»، و«الحب الدائم»، و«ماذا رأت مس درانكتون»، و«السعد في النحس»، و«جرجينه» التي ختمت بها السنة 1875.
وترجم لسنة 1876 «حلم المصور» و«سم الأفاعي» و«سر الحب» و«حيلة غرامية» و«حكاية الغرام» و«زوجة جون كارفار».
وفي عام 1877 عاد فألف رواية «فاتنة» وملأ العددين 23 و24 بأقصوصتين مترجمتين «لا تنسني» و«قمرية».
أما في السنة 88 و89 فما عرفت ما ألف وما ترجم؛ لأن هذين المجلدين ليسا عندي. وفي سنة 1870 لم يذع روايات له بل لغيره، وكذلك فعل عام 1881 الذي جرى في نهايته «اتحاد الجنان والجنة ولسان الحال»، وبعد هذا انصرف سليم إلى تعريب «تاريخ عام قديم» أحله محل رواياته.
ثم عاد فكتب رواية «سامية» ونشرها في النصف الأخير من مجلد عام 1882 ولكنها لم تنته في هذا المجلد، وفي مجلد 1883 لا أثر للروايات قط، وفي عام 1884 مات سليم لاحقا بأبيه. فأصدر الجنان بستاني آخر اسمه نجيب، ولكن اليتيمة لم تعش بعد أبويها غير عام.
هذا ما كتبه سليم من قصص، ولعله رائد القصة الأول، وإن لم يجل في مضمارها. والذي يدلك على أن سليما كان صحفيا كما يكون الصحافي، هو أنه كان ينشر رواياته مزينة بالصور، وهو في هذا أيضا من السابقين.
ولنعد الآن إلى أسلوب سليم محرر الجنان التي لم يخل عدد من مجلداتها من مقالة أولى له. فإنشاء سليم أسمى درجة من أبيه، وأسلوبه بياني أكثر، وإليك نماذج من تعابيره المحلاه بالاستعارات والتشابيه:
يا أيها الشرقيون، تسابقكم بنات الدهر في ميادين آداب هذه الحقب، فلا تتركوا مركباتها تسبقكم وتترك مركباتكم مرطومة في حمأة التأخر، فإن نور هذا الجهر قد رفع اللثام عن محيا ليل الظلام فبان لكل ذي بصيرة بدر المبادئ الصحيحة فعرفنا بما وقع علينا من الأشعة التي انحدرت إلينا في أحدور القرن التاسع عشر ما يقودنا إلى أرياف النجاح والتقدم.
5
وافتتح مقالا عنوانه الإصلاح بقوله: «هل نقول لقد راهت طوالع سعد الأمة فلا تعود إلى أفقها، وقد لبط بها فلا تنهض؛ لأن صدر الدهر قد وغر عليها وأيادي الزمان قد تخللتها بذوابل النوائب، وقد لشت فلا تقدر أن تأتي بما يمهجها بعد أن خدشت ناعم وجنتيها جيوش الرزايا والآفات.»
6
وقال مفتتحا مقالا سياسيا: «أطال الزمان بلايا فرنسا وحلت عليها أيادي الدهور، وأمست تعتل إلى الشر وتقاد بعنان الويل والهوان من ذمائر إلى ذمائر، فكأن الشر قد أناخ ناقته في وسط مركز التمدن والمعارف.»
7
وقال في صدر مقال «أعجب العجب»: «علام الغنج والدلال، والهرم قد هدم صفوف تلك الأسنان، وقد بيض الشيب سوادا كان أبيض الخصال؟ فليس أقبح في عيني من عجوز تهتز تيها وغنجا إلا عرجاء ترقص وتميد عجبا ودلالا، وأقبح منهما الذي يعاير الأواقي، ولا يعاير الأرطال.»
8
ثم يتكلم بعد هذه المقدمة عن الحسد فالنميمة حتى يقول: «إنه من واجبات الكتاب أن يصلحوا العادات القبيحة، فما أقبحهم إذا سلكوا سبيلها! وأحب إلي أن أخسر ما أقدر أن أخسره من أن أرى بنات أقلامي ترقص في مراسح النميمة والفساد، فإن للقلم عرضا وناموسا، وحكمه حكم الفتاة.»
ويلي هذا المقال «تذييل» رد به على من انتقد أسلوبه الذي أريتك نماذج منه، وما أظنه إلا الشدياق لأن الحرب القلمية كانت قد أعلنت، ودارت رحاها على الجبهتين الغربية والشرقية - الأستانة وبيروت، ولكن الملاحظة النقدية التي أبداها الكاتب الذي لم يذكر اسمه سليم قد حملته على ترك مواضيعه الأدبية واستعاراته، فعاد إلى الأسلوب الطبيعي وصار يصدر الجنان بجملة سياسية، بدلا من تلك المقالات الأدبية.
تلك كانت موضة الكتابة في ذلك الوقت، كما قال سليم في رده على ناقده، فالمراش وإسحاق، ثم الحداد بعدهم، كانوا جميعا يحوكون على ذلك النول.
لم ينح سليم نحو والده؛ لأن نشأته غير نشأة أبيه، أما أسلوب المعلم بطرس فاتبعه زيدان وغيره ممن كتبوا ليقرروا لا ليتخيلوا، وإذا كان المعلم بطرس قد مات ولما يصقل أسلوبه، فقد تم لغيره بعده ما لم يتم له.
لقد كان أحرى بواضع منهاج البكالوريا الأدبي، أن يكلف المدارس تدريس سليم البستاني لا المعلم بطرس، ولكن حكمه «الواضع» شاءت فحشرت المعلم بطرس مع الجاحظ، وغيره من أصحاب الدروس الأخلاقية والاجتماعية، وليس للرجل في «الإنشاء» غير خطابي تعليم النساء وآداب العرب، فإذا كانت حكمة الواضع تعنيهما فقد ضلت، ولم تصب لنقول: قد أصابا كما شاء جرير.
إن للمعلم بطرس في نهضتنا دورا علميا عظيما، وإننا لظالموه إذا حشرناه مع الأدباء والكتاب، وإذا كان لا بد من ذكر بستاني في كل مجال، فلنذكر الابن المؤلف، لا أباه المترجم والناقل. (3) الشيخ إبراهيم اليازجي
هو أحد جنود تلك الكتيبة المناضلة تحت علم الضاد في عصارى القرن التاسع عشر. خاض المعمعة مع قائدها المغوار فارس ميدان الفصحى المستولي على الأمد - فأكسبه ذلك الشوط - وإن لم يجل فيه، شهرة أحلته المحل الأرفع بعدما مضى أولئك الجهابذة وعاش هو بعدهم ليتوغل في المسلك الوعر الذي شقوه ومهدوه.
فالشدياق والأسير والأحدب واليازجي الأب كانوا أبطال تلك الساحة يصولون ويجولون حتى طلع إبراهيم فكان صنو أبيه في الإنشاء، ولكنه فاقه علما وتدقيقا بأسرار اللغة. نزل إلى الميدان، بعد موت والده، وهو ثنيان رخص فدافع عنه في تلك الهبوة التي أثارها كبش الكتيبة العاسي والجواد القارح أحمد فارس.
فاليازجي كاتب عالم صنع نفسه يوم لم تكن طرق التعليم معبدة. جاور أباه وأخذ من علمه ما حضر، ثم تعمق فاكتسب برغبته وجده لغات أجنبية وآدابا وعلوما حتى أحصي بين علماء الهيئة - الفلك - وتطاول إلى مناقشة العلامة فلامريون الفرنسي إمام ذلك العلم، فسمع صوته وأهدى إليك ملك أسوج ونروج نوط العلوم والفنون .
إلى هنا أوصل الجد والكد الشيخ إبراهيم اليازجي الذي لم يعل رأسه سقف مدرسة. كان معولا على نفسه معتمدا عليها فخلقت منه تلك الثقة المقرونة بذكاء حاد رجلا وقف حارسا أمينا على باب لغة العرب زهاء ربع قرن. لقد صدق لما أجاب من سأله عن أستاذه حين قال أستاذي الشدياق. فهذا البحر المحيط بجبال اللغة وسهولها وأوديتها وكهوفها جر اليازجي إلى خوض غمارها وعبابها خوفا من الطوفان الذي طغا من لدن صاحب «سر الليال» و«الجاسوس على القاموس».
كان إبراهيم في طلعته الأدبية يقول الشعر كأبيه، فأكثر من نظم «التواريخ» كما مر بنا. ولسنا نعني أن هذا كل شعره، فلإبراهيم شعر حماسي قومي أهاب فيه ببني العرب يوم كانوا يعملون لاسترداد الملك المفقود. نظم قصيدتين شهيرتين نشرتا غفلا في بيروت، فأقضتا مضجع الوالي فبث جلاوزته، ورجال شرطته؛ لينتزعوهما عن الجدران، وهذا مطلع كل منهما:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب
فقد طما الخطب حتى غاصت الركب •••
دع مجلس الغيد الأوانس
وهوى لواحظها النواعس
وله قصائد أخرى منها واحدة في وصف الزهرة التي وصفها في مقال من النثر الفني المنمق كان خيرا من شعره المنظوم. ويقول من ترجموا لإبراهيم إنه عاف الشعر إذ «وجد أن استمرار تلك الحال سيفضي به إلى الانقطاع للشعر وإهمال ما سواه؛ فترك النظم بتة وعكف على الاشتغال باللغة وسائر فنون الأدب والعلوم العقلية.»
فماذا فعل إذن؟ انصرف إلى الكتابة فكانت جريدة «النجاح» عام 1872 ميدانا لقلمه، بعد أن جربه في مجلة «الجنان» مساورا شيخ العصر صاحب الجوائب، ولكنه لم يحرر جريدة النجاح غير بضعة أشهر؛ لأنها احتجبت «لأن دخلها لم يكف خرجها». فانتدبه الآباء اليسوعيون؛ ليعرب التوراة، فانكب على عمله الجليل تسع سنوات «فجاءت هذه النسخة من أصح ما عرف إلى الآن من نسخ هذا الكتاب، فضلا عما اشتهرت به من فصاحة العبارة وجزالة الأسلوب.»
ثم طلق الآباء اليسوعيين الثلاث وراح يعلم البيان في المدرسة البطريركية بيروت، وله في ذلك الوقت خطاب نفيس عنوانه «آداب الدارس بعد المدارس» أفاض فيه نصحا وتأديبا للنشء وغيرهم من أرباب صناعة القلم ورجال الفكر، فجاء من طراز رسالة عبد الحميد الكاتب إلى زملائه. ولما كان الشيخ من المطبوعين على المناقشة والجدل والمطارحة، ومجال هذا في الصحافة أوسع، أصدر مجلة الطبيب مع الدكتورين زلزل وسعادة، فكتب فيها أبحاثا في اللغة وغيرها، فعادت شهرته إلى الظهور، وطار صيته، ولكن هذه المجلة أيضا كانت قصيرة العمر، فماتت كالنجاح في المهد، وكما انتقلت أخت لها من قبل إلى رحمته تعالى.
ورأى الشيخ ما صادفه الذين نزحوا من الأدباء إلى مصر مثل صروف ونمر وزيدان وغيرهم فتغرب مثلهم، وهناك أنشأ مع زميله زلزل مجلة البيان فلم يطل عمرها أكثر من عام. وأنشأ الشيخ، وحده، مجلة «الضياء» الشهيرة فعاشت ما عاش، وماتت بموته بعد أن أدت للغة أجل خدمة، وفجع اللسان العربي المبين بالاثنين.
وقف الشيخ في الضياء رصدا على الكتاب يتتبع خطواتهم اللغوية في باب «لغة الجرائد»، كان يرشدهم ويسدد خطواتهم، فسلم اللفظ من الأخطاء الفاشية، وصحت عبارة الكتاب، وكان له في ذلك أبيض يد عند حملة الأقلام، كفاهم مئونة التنقير في المعاجم، وأقر الحروف في مواضعها، وهذه التعدية بالحروف قوام الكتابة عند البلغاء، ولهذا كانت قبلة أنظار الشيخ، ومما روي عنه - ولعلها مبالغة - أنه أبرق مرة من الإسكندرية إلى مدير مجلته - الضياء - يطلب منه أن يعيد طبع أحد كراريس عدد المجلة إن لم يستطع إبدال الباء بفي في عبارة ما.
أما شخصية الشيخ فقوامها إباء وعزة نفس، وحرص على الكرامة، وأنفة كأنها الكبرياء، لذاع النقد قارصه، ولكنه «لا يحتمل الرد برحابة صدر، وهذا ما أدى به أحيانا إلى كتابة مقالات كان في غنى عنها، وليته نزه قلمه عن تحبيرها.»
كان نقد اللغة أحب المواضيع إليه، وقليلا ما كان يعالج النقد من نواحيه الأخرى، ولكنه أجاد في الدراسة التي ذيل بها ديوان المتنبي المنسوب شرحه إلى والده. فإبراهيم لم يصحح من تصانيف أبيه شرح ديوان المتنبي فقط، بل أعاد النظر فيها جميعها ؛ لأن اليازجي الكبير لم يكن باللغوي المحقق. أما الفضل في هذا التنقيح والتصحيح فيعود إلى الشدياق الذي اضطر الابن إلى جبر عثرات أبيه، فكان من وراء ذلك خير جزيل.
ليس إنشاء الشيخ إبراهيم بالإنشاء المنمق العالي، إذا استثنينا صدر مقالتي الزهرة والقمر، حيث أظهر لنا الشيخ أنه ناثر فني من الطراز الأول؛ فخياله فيهما طريف، وسجعه أنيق ظريف، كأنه الشعر أو فوق الكثير من الشعر، وسوف نعرض عليك نموذجا منه.
أما في جل نثره الآخر فيكتب بأسلوب العلماء والمؤرخين، والكتاب الاجتماعيين، وهو أكثر ميلا إلى هذه المواضيع، التي تتطلبها المجلة ليكون فيها مرعى لكل مرتاد. فتضلع إبراهيم من اللغة وإدراكه أسرارها أدى به إلى العدول عن المجاز.
فلليازجي فضل على النهضة بتعابيره الصحيحة لا بطلاوة أسلوبه وطرافة شخصيته، فهو على علمه الواسع لم يترك بعده أثرا يخلده، وهذا برهان على أن الشيخ كان لغويا لا يحيد عن الطريق المعبدة مقدار فتر حتى كأنه يمشي على الصراط، فكأنه كان يحب الرفق بالألفاظ فلا يريد أن يحملها أكثر من محمولها؛ ولهذا تأنى وتمنى حتى أصدر كتابه «نجعة الرائد في المترادف والمتوارد»، وما هذا الكتاب غير صورة ثانية عن كتاب «الألفاظ الكتابية» الذي يعلم الناس كيف يعبرون عن أفكارهم وخواطرهم كما نلقن نحن طفلا حديث العهد بالكلام، وما قتل الأدب العربي غير هذه التعابير «الجاهزة» المعدة.
ثم يبدو لنا التقليد أكثر وضوحا وجلاء حين نقرأ رسائله فنراه ينحو فيها نحو الخوارزمي والبديع، وما أعزو ذلك إلا إلى المربى الأدبي والنشأة في ظل الوالد، فهي التي وجهته هذا التوجيه، فنحن لا نرى في آثار اليازجيين ما يدلنا على أنهما عاشا في زماننا، مع أن الشيخ كان بخلاف والده يضيف إلى إدراكه أسرار اللغة اطلاعا على الآداب الأجنبية.
ولم يكن الشيخ كاتبا وشاعرا وعالما فقط، بل كان يضرب في كل فن بسهم، يحسن الرسم والتصوير والحفر، وهذا الأخير هو الذي دفعه إلى خلق هذه الحروف الجميلة التي تطبع بها كتبنا اليوم، فمن نظر إلى الحرف المطبعي القديم وقابله بحرف اليوم يسأل للشيخ حسن الجزاء والأجر، فهو ذو الفضل الأول «في صنع الحروف لعمل الأمهات التي تسبك عليها الحروف المطابع، ناهيك أنه عني باختصار قاعدة الحروف المعروفة إلى يومنا هذا، فرد عدد الأمهات إلى خمس ما هي عليه، بأن حصرها في نحو ستين أما، حال كون عددها في المألوف لا يقل عن ثلاثمائة.»
هذا ما كتبه زعيم الطباعة الأهلية المرحوم خليل سركيس في جريدته لسان الحال البيروتية يوم مات صاحبه إبراهيم اليازجي؛ لأن هذا العمل كان بإرشاد الخليل ومؤازرته، وهو الذي أبرز هذا المشروع إلى حيز الوجود في مسبكه.
وقد اطلعت على رسالة بخط يد الشيخ إبراهيم بتاريخ سنة 1870 وجهها إلى صديقه خليل سركيس في مطلع هذا العام مهنئا، فإذا به يستعمل «رؤياكم» بدلا من «رؤيتكم»، ويستعير «غرة» من الشهر القمري فاستنوق الجمل ... لقد دلني ذلك على ما أصاب من الخير العميم حين انبرى لمناظرة الشدياق، ونشبت بينهما تلك الحرب القلمية في عام 1871، وها نحن ننشر هنا رسم تلك الرسالة لتقرأها:
إن الوفاء لخدام العلم والأدب يقضي علينا أن نذكر للرجل فضله الجزيل على كل من حمل قلما، فهو وإن لم يترك أثرا بديعا فقد كان له أبعد الأثر في توجيه كتاب النهضة نحو الكلام الصحيح السليم. ولئن كان في إنشائه جفاف أساليب العلماء فلا تنس أن فيه صحة وشدة أسر، وهو قبل كل شيء عربي لا غبار عليه، لم يكن يتعمد المحسنات البديعية، أما إذا جاءته عبارة جميلة على الهينة فأهلا ومرحبا، وإلا فهو لا يشد بأذيالها لتجيء صوبه غصبا عنها. يؤخذ على الشيخ ترديده بعض عبارات وكلمات بعينها فيزرعها في كل مقال مثل: لا جرم وغيرها، فتجيء غالبا مثل تلك العبارات التي يكثر الناس من ترديدها في حديثهم، كقولهم بعد كل جملة: نعم، أو فهمت، أو سمعت يا سيدي، إلخ.
ويؤخذ عليه أيضا تشدده وتقعره في معاني المفردات وغيرها حتى عد غلطا ما ليس بالغلط ولا بالخطأ، إذا حكمنا عقلنا في اللغة، فكأنه في أحكامه تلك يريد أن يسد على الكتاب باب المجاز، بل يريد أن يطين النوافذ؛ ليمنع تجدد الهواء في حصن اللغة، مع أن فتح الأبواب والشبابيك ضروري خوفا من الاختناق، فالألفاظ كائنات حية تقدر أن تتوالد وتتكاثر إذا نفسنا عنها ... واللغة كالمخلوقات يجب أن يكون فيها وفيات ومواليد، وإلا صارت مومياءات ومتحجرات ...
وأخيرا هاك من نثره الفني ذاك النموذج الذي وعدناك به. قال في وصف الزهرة:
هي ملك جند الدجى بل قائد معسكر الأنوار، بل إلاهة الجمال قد استوت على عرش من النضار. إذا بردت في ثوب بهائها اكفهرت لها الشمس من الحسد، بل غشيتها حمرة الخجل بعد ما علتها صفرة الكمد، فأقبل الهلال وقد انحنى بين يديها وسجد، وأطافت بها حور الكواكب كأنهن أتراب كواعب، فوقفن لخدمتها متضائلات أمام عظمة جلالها، وقد أرخين شعورهن من حولها فشببن من جمالها، فما كادت تتجلى لهن حينا حتى توارت عنهن بالحجاب، وسرن في أثرها متتابعات حتى برقعهن الصبح بأبيض الجلباب.
إلى أن قال خاتما النثر الفني:
تلك إلاهة الجمال التي عبدها الأوائل، وأقاموا لها المساجد والهياكل، ورفعوا إليها الأبصار والقلوب، في أخريات الليل وقبيل الغروب. فكانت مناط الآمال، ومصعد الابتهال.
أماني تخترق الفضاء، وتسافر بين الأرض والسماء، فتنزل مكانها طمأنينة الاتكال، بين حرارة الرغبة وبرد الآمال.
وقال في وصف القمر:
هو بعد الشمس أبهى الأجرام السماوية على العموم، ونكتة الفلك الأرضي بل أقرب ما يرى الناظر في عالم النجوم. إذا استقل في فلكه يسبح فوق الوهاد والآكام، ورأيته يتراجع مع النجم وهو مجد في وجهه إلى الأمام، فتخطى الأبراج وكأنه واقف لا يحس له الناظرون انتقالا، وظهر بأشكاله من الهلال إلى البدر حتى يعود هلالا، فكان قيد الأبصار تراه أبدا جديدا على تقادم عهده، وتتوهمه على قيد أميال منها وهو الشاسع في بعده، على أنه أدنى العوالم من الأرض مقيلا، وأعقلهن بها حبلا وأقربهن تمثيلا. فهو صورة الأرض في السماء، ورفيق طيتها إلى حيث لا تدري في أجواز الفضاء، وشريك بختها فيما أرصد لها من أحكام القضاء، بل هو وليدها وإن تقضى قبلها شبابه، وشابت دونها أترابه، وقد دفعته عنها منذ فصاله فمر إلى حيث لا مطمع في إيابه، ثم عز عليها إلا أن يكون بحيالها، فأخذت عليه طريق انسيابه. فهو أبدا يدور من حولها مقطع النياط، ويقطع معها أضعاف ما تقطع من الأشواط.
كون جامد، وقفر هامد، وسكوت سائد، وحطام خلق بائد، لا يخلوا هنالك غاد ولا رائح، ولا يسمع صوت باغم ولا صادح، ولا يسبح طائر في السماء، ولا يدب حيوان على العراء، ولا يخضر واد ولا أكمة، ولا تسحب أذيالها نسمة، ولا ينتشر سحاب ولا ضباب، ولا يترقرق ماء ولا سراب، ولكن جملة ما هنالك طلل داثر، وعالم من عوالم الدهر الغابر، بل جنازة يطاف بها حول الأرض، وإن لم تحملها المناكب، وقد صلت عليها السيارات فترحمت عليها الكواكب.
لا بل هو خلف الشمس ومصباح الظلم، ومقياس الأزمان، وموقت الأمم، عنه أخذ حساب الأسابيع والشهور، وبحركته حددت الآجال والتواريخ من أقدم الدهور، فكان السجل الذي يرجع إليه في المعاملات، والإمام الذي ينزل على حكمه في توقيت العبادات، بل طالما عبده المتقدمون؛ لأنهم رأوا في فعله ما يشبه أفعال العاقل، وأنسوا في صورته ما يقرب من هيئة الناطق، وشاهدوا من بقائه ما نزله عندهم منزلة الخالق، فكان له الحكم في السعادة والشقاء، وصلاح الغرس والزرع، وصحة الجنى والقطع. وعلى الجملة فقد كان الحكم في الأحوال والأعمال، والمستشار في العزائم والآمال، بما يبدو عليها من نقص أو تمام، أو يتفق له من اقتران بغيره من أجرام، مع اعتبار ما يقع ذلك فيه من الأيام، شئون ساق إليها ضعف الأحلام، واستيلاء الأوهام، والله وراء ما يفعلون، وهو العزيز العلام ...
ثم يمضي على رسله في بحثه العلمي بنثر مرسل، فلا يعنيه إذ ذاك شيء من الخيال. (4) صروف وزيدان وتقلا وسركيس
أدرك زيدان البستاني وتأثر بأسلوبه، فكان في هلاله من الرواد الأركان. أراد أن يكون طبيب أجساد وشاء القدر أن يكون طبيب أفكار، فنشر رواياته التاريخية التي صادفت رواجا عظيما فطبعت مرات، وترجمت إلى لغات عديدة. لقد سبق إلى مثلها سليم البستاني، ولكنها لم تكن كروايات زيدان فنا، وإن لم تكن هذه في المستوى القصصي الرفيع. ولزيدان كتاب تاريخ الأدب العربي الحديث، فهو أول من فصله على هنداز الكتب الأوروبية، وقسم عصوره على غرار تاريخ الأدب الإنكليزي. وله أيضا كتب عديدة أخرى في التاريخ وغيره، «كتاريخ التمدن الإسلامي»، و«العرب قبل الإسلام»، و«الفلسفة اللغوية»، و«علم الفراسة»، وغير ذلك.
إن لزيدان فضلا جزيلا على النهضة الحديثة، فهو من أركانها الكبار، قد علم الناس تاريخهم، وسلاهم في وقت معا.
أما الدكتور صروف، فأنشأ مجلته المقتطف، بعد صدور الجنان بثلاثة أعوام، فكانت منذ نشأتها علمية، وهي لا تزال حتى اليوم محافظة على صبغتها تلك وزيها الأول. لا تزال لابسة فسطانها الطويل غير متشبهة برصيفتها الهلال التي قص شعرها وقصر فسطانها لتماشي الزمن. فالمقتطف موسوعة تتضمن تاريخ تطور العلم منذ نشأتها عام 1873 حتى الساعة، ومن اجتمعت له جميع مجلداتها فقد وقع على كنز ثمين.
وأهم ما يلفت النظر في المقتطف أن منشئها الدكتور صروف كتب فيها روايات ذات لون محلي - روايتي أمير لبنان وعروسة النيل - ولعل رواياته هذه، وروايات فرح أنطون، أقرب ما كتب، في تلك الحقبة، إلى أصول الرواية الحديثة وفنها.
وفي بدء الربع الأخير من القرن التاسع عشر أنشأ سليم تقلا جريدته الأهرام. وسليم من تلاميذ المدرسة الوطنية التي أنشأها المعلم بطرس، ثم صار فيها معلما. ولما ضاق عنه لبنان قصد مصر حاملا إلى سمو الخديو إسماعيل قصيدة رنانة، فمهدت له سبيل الحصول على امتياز جريدة الأهرام عام 1875.
لا حاجة إلى وصف الأهرام، وإنما يحسن بنا أن نقدم نموذجا من إنشاء تقلا؛ لأن أسلوبه أشبه بأسلوب المنشئين في زمنه، إنه يقول الشعر كما عرفت، وليس البستاني وزيدان وصروف بشعراء ليكتبوا بهذا الأسلوب المنمق، قال سليم تقلا من مقال عنوانه: «الجامعة العثمانية»:
جوزيت يا صروف الزمن خيرا عن الشرق، ولئن بلغ سيلك فيه الربى، وفاض منه الوطاب؛ لأنك أمطت لثام الجهل والغرور عن البصر والبصيرة، فشاهد الصور وأدرك مادتها ... أعدت له ذكرى ماضيه أيام كان يجر ذيل العجب والتيه، ويتعثر بالبسط السندسية، ويرفل بمطارف الإجلال، ويزدان بحلى الفضل، ويعتضد بجامعة الكلمة، ويشنف السمع بنغمات الاتفاق، ثم نقلت به إلى أيام أخذ يجر فيها ذيل الفقر ويتعثر بشوك القتاد، ويرفل بعباءة التحقير، ويزدان بحلى الجهل، ويعتضد بتفريق الكلمة، ويشنف السمع بنغمات الاختلاف، فتبين بالمقابلة ما هنالك، وبضدها تتبين الأشياء.
هذا هو الأسلوب الذي عنف الشدياق سليم البستاني لأجله، ولكنه ساد بعد موت الشدياق ...
أما خليل سركيس فأنشأ مطبعته، أولا، باسم مطبعة المعارف عام 1868 بشراكة حميه المعلم بطرس البستاني، وظلا شريكين مدة سبعة أعوام، ثم كان الانفصال عام 1875، فأنشأ سركيس المطبعة الأدبية، ثم أصدر بعد عامين جريدته «لسان الحال» فعرض بها سليم البستاني بقوله: صدرت في بيروت جريدة آخر زمانها، فرد سركيس على ابن حميه بلسان الحال قائلا:
وإني وإن كنت الأخير زمانه
لآت بما لا تستطعه الأوائل
وثبت خليل سركيس في الميدان وكانت صحيفته مثال الرصانة والاعتدال، فلم ترو قط خبرا لم تستوثق منه، وأقبل على مناصرتها حملة الأقلام فكانت ميدانا للرواد ومنبتا للكتاب والشعراء الذين كان لهم أجل شأن في تاريخ النهضة.
لم يكن خليل سركيس ذلك الكاتب الأنيق العبارة ولكنه كان رجلا واقعي التعبير يسمي الأشياء بأسمائها. وإذا لم يعد من رءوس الكتاب فهو بدون شك، من رءوس الصحافيين الذي عرفوا بالصدق وقول الحق، فلم يسجلوا في صحيفتهم غير الصحيح من أخبار، ولم يحملوا حملات غواشم، بل كان تأنيبه نصحا وتوبيخه مشورة.
كانت أول معرفتي به في آخر عام 1906، عرفني به المرحوم خليل طنوس باخوس صاحب جريدة الروضة وزرناه معا في سوق أياس حيث كانت مطبعته وإدارة جريدته، فرأيت في ذلك الوجه سيماء اللبنانيين العتاق.
وكما كان لجريدته لسان الحال فضل على الأدب والسياسة كذلك كانت لمطبعته يد في نشر الكتب وإخراجها بحلل قشيبة. انتشر حرف سركيس الأنيق في كل قطر ينطق بالضاد، وعرف الناس له وللشيخ إبراهيم اليازجي هذا الفضل على العين والرأس. ومني سركيس باحتراق مطبعته فكان طبيعيا أن يكون الشيخ إبراهيم أشد الناس شعورا بهذا الخطب الجسيم فكتب إلى صديقه يؤاسيه، وهذه صورة تلك الرسالة التي تفضل علينا بها خليل سركيس الثاني:
وإنه يسرني جدا أن يظهر كتابي هذا في الوقت الذي بلغت فيه جريدة لسان الحال يوبيلها الألماسي بجهد الابن والحفيد. (5) رواد الثقافة (5-1) المبشران فان ديك وشيخو
كرنيلوس فان ديك
منذ مائة وعشر سنوات ونيف، جاء بيروت شاب أميركي، ثم قضى هذا الشاب حياته كلها في الربوع الشامية طبيبا للأرواح والأجساد، وعونا للفقراء والمساكين.
وبعد خمسين عاما شعرت نخبة من الرجال بفضل الدكتور فان ديك الغامر فاحتفلوا بيوبيل مجيئه الذهبي، وسجلوا الإقرار بفضله على رق غزال مقدرين ما صنف وألف من كتب مفيدة، أدبية وعلمية وطبية، وبما شيد من مدارس وصروح علم ونوادي خير، وتعليم فقراء ومعالجة مرضى، وما أعد للبلاد من رجال.
احتال - رحمه الله - للعلم فاقتنصه من بين مخالب الفقر وأنياب الفاقة، تعلم رغم فقر أبيه فصار الطبيب النطاسي، والعالم الناطق بعشرة ألسن، ومستشرقا كالأصيل. بل فلنقل مستعربا لأنه يعرف أسرار لغتنا كعلمائنا، وأخيرا عادى قومه وارفض عنهم لأجلها، يوم اقترح أن يكون التعليم باللغة العربية لا باللغة الإنكليزية.
جاءنا مبشرا بالفضيلة والعلم ومعلما مؤلفا المفيد النافع، فكان في سيرته النقية سفرا جليلا حيا، قرأ أسلافنا في سريرته سطور الشرق وجوامع النبل ومكارم الأخلاق، ومتى عرفت من عاشر وأحب أدركت سمو أخلاقه. كان عشيره ورفيق صباه المعلم بطرس البستاني، فوضع وإياه حجارة ضخمة في أساس نهضتنا العلمية، كانا شريكين، كل يعمل لحسابه، أو فرسين كريمين يكران مع الجديدين، بلا كلل ولا ملل.
فأينما تطلب الدكتور فان ديك كنت تجده. إن طلبته في البرية فهو كالسيد مولع بالنبات وزهور الحقل يصنفها وينظمها، فكانت له منبتة شرقية أعجب بها كبار علماء النبات. وإن تطلبه في السماء تجده يسبح بين الكواكب والنجوم في مرصد الكلية الذي أنشأه بماله؛ ليرى ويري الناس محاسن «القبة الزرقاء»، ويعلمهم أصول علم الفلك . وإن طلبته في الجبال كنت تراه بين المسطحات والمثلثات. وإن فتشت عنه بين الناشئة رأيته بينهم أبا ومعلما، يكتب لهم كتابه الشهير «النقش في الحجر»؛ لينور أذهانهم، ويؤسس لهم المدرسة الكبرى ليعلمهم، والمستشفيات ليعالجهم، ويؤدي ثمن الدواء من كيسه. كان جوادا في الإحسان حتى التبذير؛ ولذلك اشترط عليه تلاميذه ألا ينفق هديتهم المالية في سبيل البر كعادته.
وكان حلو الحديث ظريفا، ولكنه لا يتبذل. تمثل بأمثالنا، وعلم أسلافنا الحياة العملية. فكثيرا ما كان يردد: الحلاقة بالفاس ولا جميلة الناس، وكم من نكتة وملحة نادرة وفكاهة تروى عنه، فتملأ المجالس والأفواه طربا ونشاطا.
جاء فان ديك ديارنا لا يملك فلسا، ومات لا يملك إلا المآثر الطيبة، وأروعها تأسيسه الكلية الأميركية، وتأليفه أكثر من عشرين مجلدا كلها نافعة. وفان ديك - بعد البطريركية المارونية - هو أول من اختار الأرزة، فكانت شعارا للجامعة منذ نشأتها، وكان ذلك الفال مليحا، فصارت الجامعة أرزة طارت منها نسور النبوغ.
لست أذكر من قال: الرجل المثقف هو الذي يعرف شيئا عن كل شيء، وكل شيء عن شيء. بيد أني أعرف حقا أن الدكتور فان ديك كان ذلك الرجل، وهو من كبار رواد نهضتنا وأحد بناتها على الطراز الحديث.
الأب لويس شيخو
أذكر أن أول كتاب أقامني وأقعدني سرورا هو الجزء الثالث من مجاني الأدب. استحضره لي والدي من بيروت فعكفت على مطالعته برغبة ولذة، ثم جرت عجلة الأيام مسرعة، فإذا أنا في مدرسة ماريوحنا مارون أتلقى «علم الأدب» في كتاب ألفه الأب شيخو، مصنف «المجاني» في 6 أجزاء وشارحه في ثلاثة أخر.
لم يعلمنا أستاذنا من كتاب علم الأدب، غير علم المعاني والبيان والبديع المنقولة عن القدماء، أما ما بقي من الكتاب فلم يعنه أمره. وسمعنا بكتاب «شعراء النصرانية» فاستقدمناه فإذا هو لهذا العلامة الجليل، وإذا كل ما عرفناهم من شعراء جاهليين قد خرجوا من تحت سن قلمه نصارى. كان «التعميد» بالماء، فإذا به قد صار بالحبر، ولكن هذا ليس يعنينا الآن؛ فكل ما يهمني من الأب شيخو هو خطواته الواسعة الجبارة في طريق النهضة.
ثم ظهرت مجلة اسمها «المشرق» وإذا هي للأب شيخوا أيضا، فكان هذا الرجل يكبر في عيني يوما بعد يوم حتى عرفته في بيروت، أيام علمت في كلية القديس يوسف أقل من ثلاثة أشهر، وأخرجت منها بأمر نيافة القاصد الرسولي؛ لأنني خطر على الطائفة المارونية والدين الكاثوليكي ...
ها أنا ذا في غرفة الأب لويس نتحدث ونتضاحك ... كانت ضحكته كأنها سوداء، وكأنه إنما كان يضحك غصبا عنه. فهو ذو نفس لا تمل، ويد لا تكل. أرسلت إليه من مدرسة الحكمة، يوم كانت تلميذا، قصيدة عنوانها «المرائي» فلم ينشرها، وكان عذره غير مقبول عندي في حينه؛ لأني لم أكن أبحث عن المفردات في معجم لاروس ...
للأب شيخوا أجل فضل على النهضة الحاضرة، فهو الذي عبد لنا الطريق في كتبه التي يضيق المقام عن عدها؛ فكتابه «علم الأدب» تناول كل حديث من ألوان الأدب، وهو يعلم الطالب الأصول من فن القصة والرواية والتاريخ إلى النقد، وكل ما استحدث من ضروب. وفي مجلته المشرق التي تعد حجة في المشرقيات، عرفنا على الروايات الأصولية والأبحاث الدقيقة، ودلنا على ما في بلادنا من آثار، ثم لم يقف عند هذا الحد بل علمنا أيضا تاريخنا، وطبقات أرضنا، وأحيا ذكر نوابغنا على اختلاف الملل والنحل، وهكذا أحسن الرجل إلى الأدب العربي كل الإحسان بما بعث وحفظ من كتب. وغيرته على الكتب الخطية القديمة التي كانت مبعثرة في هذا الدير وذاك البيت، حيث لا يعرف قيمتها أصحابها، أوحت إليه إنشاء المكتبة الشرقية، وهي من أشهر مكتبات الشرق به بل هى أغناها في المخطوطات.
ليس الأب شيخو ذلك المنشئ المنمقة عبارته ولكنه الباحث المدقق، والمناضل العنيف عما تجند للدفاع عنه. بحاثة جريء حمل على الماسونية حملات غواشم، يوم كان اسم «الفرمسون» يخيف ويرعب، ولكن «الماسون الكبار» حملوه على أكتافهم إلى القبر تعظيما لعلمه، وإجلالا لحرية الفكر والقول، فكان ذلك أبلغ رد على كل ما ألصقه بهم من تشنيع وتزييف . وها أنا أحد أولئك أنحني الآن احتراما لآثار شيخو، وأقر أنه كان المجلي في الحقبة الأخيرة من القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، ولولا تعصبه لدينه ذلك التعصب العنيف لأجمع الناس عل تقديره، ولم يختلف في تقديمه أحد، على كل من تقدموه من الأحياء في نشر كل جديد وجه النشء أصدق توجيه فني.
ومن مقدمة «المشرق» التي كتبها شيخو في غرة عام 1898 يتضح لنا أنها لم تنشأ إلا لخدمة الشرق أولا «لئلا يقال أن الغريب أدرى بما في البيت من أهله، لا سيما ولا نزال نرى كثيرين من الأجانب يعكفون على تتبع أخبار بلادنا واستبطان أحوالها وكشف مكنون أسرارها فدعوا لذلك بالمستشرقين.»
وبعد أن وعد القراء بأخبار الاكتشافات والاختراعات الحديثة، قال: ولما كانت غايتنا أن نجمع في هذه المجلة بين الأمور المفيدة والمبهجة معا، أحببنا أن نفرد بعض صفحات لروايات خيالية نتخذها وسيلة لتفكيه المخيلة، وطريقة لتمثيل عوائد الأمم المختلفة في أحوالها وتواريخها، ورسم تخومها ووصف آثارها.
9
وهكذا فعل خادم الآداب الأمين، فجاءت روايات المشرق مؤلفة وفقا للأصول الفنية لأن كتابها عارفون بذلك، وليسوا حديثي العهد كروادنا. كتب الأب لامنس بالفرنسية رواية خريدة لبنان، ورواية حبيس بحيرة قدس، وعربهما نجيب حبيقة ورشيد الشرتوني. وكتب الأب س. ت. اليسوعي يمين العلي، وعربها شيخو، وكتب الأب ليفنكستون زوار الليل، وعربها الخوري إسطفان البشعلاني.
وهكذا ساهم اليسوعيون في نشأة الرواية عندنا، بهمة الأب شيخو الذي يستحق شكرنا الجزيل في العام القادم، بمناسبة ذكرى وفاته الخامسة والعشرين، فعسى أن لا يفوتنا هذا الواجب، كما فاتنا غيره من واجبات أخرى. (6) المعلمون الرواد (6-1) البستاني والحوراني والأزهري
إن أكثر الرواد كانوا معلمين وكتابا وشعراء في وقت معا، وقد أطلقت عليهم جميعا كلمة المعلم، قبل أن «تأستذ» جميع الناس حتى الأميون منا ...
فبطرس البستاني وولده، سليم، والمشايخ الأحدب، والأسير، وناصيف اليازجي وابنه إبراهيم، وجبر ضومط وغيرهم كانوا جميعا ممن علموا، ونفعنا الله بعلمهم.
والشرتونيان الشيخ سعيد صاحب أقرب الموارد، وأخوه رشيد صاحب مبادئ اللغة العربية، التي تعرف، حتى الآن بالشرتونية، ونجيب حبيقه وأنطوان الجميل جلسوا على كرسي التعليم زمانا. وهناك كثيرون من المعلمين الرواد كالخوري يوسف الحداد، وغيره من أصحاب الآثار الأدبية الذين لا محل لذكرهم في هذا الكتاب لحداثة عهدهم، فما يعنينا هنا إلا ثلاثة منهم كانوا أبعدهم وأعمقهم أثرا في رجال النهضة.
فالشيخ عبد الله، كما لقب أخيرا، كان معجما حيا يمشي على الأرض. وهو أبصر أهل زمانه بنحو اللغة العربية وصرفها، وألفاظها. كان شاعرا تفوح رائحة القطران من أردان «بنات أفكاره»، فكأنه عاش في الصحاري مع تأبط شرا والشنفرى، ولهذا يبني قصيدته أعرابية ساعة يشاء.
لقد مر ذكر معجزته «التاريخية»، أما الآن فأريد أن أعرفك بمعجزته الأخرى، وهي «تشطيره» معلقة عنترة وتحويلها مدحا للمطران يوسف الدبس، فهاك شيئا مما قال: «هل غادر الشعراء من متردم»
فتسد ثلمته برأس المرقم
أم هل وددت ظباء منعرج اللوى «أم هل عرفت الدار بعد توهم» «حييت من طلل تقادم عهده»
حتى التوت عنه نهى المترسم
يبكي به غدق الرباب لأنه «أقوى وأقفر بعد أم الهيثم» «إن تغدفي دوني القناع فإنني»
أدع القنوع ومدح يوسف مغنمي
حبر إذا هز اليراع فإنه «طب بأخذ الفارس المستلئم» «وإذا ظلمت فإن ظلمي باسل»
في الجاحدين عطاءه للمعدم
فكم اجتداه المملقون ودهرهم «مر مذاقته كطعم العلقم»
أما في وصف الناقة فانظر كيف التقى البطلان كأنهما جبلان: «وكأن ربا أو كحيلا معقدا»
سالا غداة ذميلها كالحنتم
فأديرها مثل المجس ودفها «حش الوقود به جوانب قمقم» «ينباع من ذفرى غضوب جسرة»
تحكي إذا وخدت زفيف الزهدم
أكرم بها من بازل عيهامة «زيافة مثل الفتيق المكدم»
وأخيرا يقول في التذييل:
وإليكها بدوية عبسية
تسدي إليك ثناء عنترة الكمي
نسجت لها كف الحضارة مطرفا
يزري إذا خطرت بكل مسهم
وأظن أنني أشهد وتشهد أنت معي أن قصيدة شيخنا هذه لم تسمع بالحضارة قط، بل ولم تر لها وجها. كان التشطير والتخميس والتضمين من بضاعة عصر الانحطاط، وقد أكثر «روادنا» من عرض هذه البضاعة في سوق الأدب، وكثيرا ما كان معلمونا حتى الكهنة الأجلاء منهم يقترحون علينا «فروضا» شعرية، وجلها من الغزل الدسم مثل:
لو أن لي في من أحب عواذلا
لسعيت في تشتيتهم وتوصلي
لكن محبوبي تعشق نفسه
وغدا العذول فما يكون تحيلي
ومثل:
وأمر ما لا قيت من ألم الهوى
قرب الحبيب وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمول
ولهذا عد الأدباء تشطير معلقة عنترة فتحا مبينا، وتحديا عنيفا للشعر الجاهلي، فطارت شهرة المعلم فيها وإن كان قد نظم التمثيليات كما مر، والحكايات الروائية مثل قصيدته «الفرصاد» التي مطلعها:
وذات صيانة عقدت يمينا
على حب امرئ عقدا متينا
ففتح باب الشعر القصصي لتلامذته وغيرهم، فقال تلميذاه شبلي الملاط وأمين تقي الدين قصيدتيهما: الجمال والكبرياء، والجمال والتواضع. أما المعلم الشاعر الآخر، فهو إبراهيم الحوراني، وقد كان لغويا أيضا، كما كان معلمو ذلك العصر، وهاك شيئا من قصيدة له عنوانها، حال العالم في الشرق:
ذو العلم بين الطرس والمرقم
كالثبت بين العضب واللهذم
كلاهما يبغي علاء ولا
يناله إلا بسفك الدم
والأول الأولى بغنم لما
في سعيه من شامل المغنم
طورا تراه في جوار السهى
وتارة في جيرة المرزم
وكم جرى في صحصحان الفلا
يشكو الوجى في الغاسق الأهيم
يبحث عن آثار عاد وما
وارى تراب الأرض من جرهم
ثم يتطرق إلى وصف شقاء العالم فيقول:
يجلس في أعراس إخوانه
كثاكل تجلس في مأتم
تستلزم الدينار أبحاثه
وليس في الهميان من درهم
وعرسه الثكلي على جلة
ألقى بها التمار للمعدم
ذي حالة العالم في موطن
يكوى به ذو الفضل بالميسم
يركبه الجاهل من حلمه
والممتطي صنو لذي المحزم
لو أنصف الدهر امتطى كل ذي
علم أخا جهل فلم يظلم
وخير ما تقرأ للحوراني من شعر هو قصيدته التي قالها في رثاء صديقه إبراهيم اليازجي، ولعل الحوراني القوال أشعر منه الحوراني الشاعر الفصيح.
أما الشيخ أحمد عباس الأزهري، فكانت تجلله أبهة الشيوخ المحترمين، ومهابة رجال السمت، فتخال، متى وقعت عينك عليه، أنك أمام رجل من السلف الصالح. نذكره هنا وإن لم نذكر سواه من مؤسسي المدارس الوطنية؛ لأنه كان منشئ مدرسة ومعلما فيها في وقت معا.
وقف بقية عمره على تأدية رسالته فأداها على حقها. كان رجلا فعالا أكثر منه قوالا. لم يترك آثارا أدبية، ولا قصائد كغيره من شيوخ العلم، ولكنه كون وأنشأ رجالا كانوا من أركان النهضتين الأدبية والقومية.
كان الشيخ متمكنا من لغة الضاد عارفا أسرار بلاغتها فأخرج إلى العالم العربي كتابا وشعراء يؤدون أفكارهم بأصح تعبير وأفصح عبارة، ناهيك بما بث فيهم من روح وثابة، وعزة قومية فطارت شهرة كليته العثمانية التي أنشأها وتعهدها بنفسه طول الحياة فأخذ عنها النشء العربي أسمى المبادئ وأنبلها.
كتاب النضال
(1) أديب إسحاق
شامي المولد والمربى، لبناني المنشأ، مصري الهوى، عربي النزعة، كاتب نضال. تعلم العربية والفرنسية في مدرسة الآباء اللعازاريين، واضطر إلى الكدح والسعي لأجل المعاش فبكر في مغادرة المدرسة؛ ليشتغل وظيفة في إدارة الجمرك براتب مائتي غرش، فدرس التركية في أوقات فراغه. قال الشعر صبيا فنظم وكتب، ثم انضم إلى والده في خدمة بريد بيروت، فأطل على دنيا أدبية جديدة استهوته؛ فهام بها وعاف لأجلها الوظيفة، وبرز في ساحة تلك البيئة عارضا قلمه، وهكذا أدركته حرفة الأدب.
تفتقت براعم موهبته الأدبية قبل الأوان، فبشر بها معلمه أباه والغلام لما يبلغ العاشرة، ثم تحققت تلك النبوءة في بيروت، فعهد إلى الفتى وهو في السابعة عشرة بتحرير جريدة «التقدم» فلاح في سماء الأدب كوكب جديد.
كان مع عمله الصحفي يؤلف ويترجم عن الفرنسية، وانتمى إلى جمعية «زهرة الآداب» ثم صار رئيسها فعرف الناس الأديب الخطيب، بعدما عرفوا الأديب الشاعر الناثر فشنها غارة شعواء على العبوديتين: «الطائفية والمدنية». وكان بوقا صارخا في بيداء الخمول يدعو النائمين إلى الهبوب والمطالبة بالحرية والاستقلال. وفي التاسعة عشرة شارك في تأليف «آثار الأدهار»، وعرب أندروماك لراسين، ثم آزر صديقه سليم النقاش في تأليف المسرحيات وتمثيلها وسافر إلى الإسكندرية ملتحقا به، فكانت جوقتهما أول جوقة تمثيلية عربية تخطت الحدود، وتجاوزت تخوم بيروت مهد المسرح العربي. فعرب أديب رواية شارلمان، ونقح أندروماك، وألف رواية «غرائب الاتفاق»، وكان في هذا كله مؤلفا ومخرجا وممثلا.
وراودته الصحافة فسار مشمرا، إلى القاهرة، حيث عرف الإمام الثائر السيد جمال الدين الأفغاني، فالتقت النار بالنار والتهمت الأخضر واليابس، فقاسى الرجلان ما قاسيا من نفي وتشريد. أنشأ أديب جريدته «مصر» فرحب بها محبو الإنشاء العالي، واندفع كاتبها هائجا كالبركان يرسل نورا ونارا؛ فحركت الهمم وأعادت عز دولة اليراع، فرأى الناس البلاغة تمشي في أسواقهم كأنها أهل الكهف. كانت لهجتها غريبة الوقع في النفوس، تدفع وتزجر، وتنهى وتأمر.
ثم أصدر مع صديقه النقاش جريدة «التجارة» يومية، وظلت «مصر» تظهر أسبوعية.
وغاص أديب في السياسة من قدميه إلى قرنيه؛ فاضطرته الأحداث السياسية إلى الفرار فهرول إلى باريس، وكأنه أبى أن تقف المعركة، ويضع أوزار النضال فأصدر في عاصمة الفرنسيين - كهف الأحرار ومعقلهم - جريدة «القاهرة» متوجا أولى نشراتها بهذه العبارة: «ما تغيرت الحقيقة بتغير الاسم، بل هي «مصر» خادمة مصر.»
وكتب مقالات بالفرنسية عن أحوال الشرق وما يعتلج في صدر الزمان من طبخات دولية، فأصغى إليه العالم الغربي، وهناك عرف كثيرين من كبار ساسة فرنسا وعلمائها وشعرائها. روي عن فيكتور هيغو أنه قال لمن كانوا في حضرته - على أثر انصراف أديب منها: «هذا نابغة الشرق.»
وحضر جلسات عديدة في مجلس النواب الفرنسي؛ فثقف السياسة وتفاقم هواه للخطابة وازداد إقداما فيها. ولكن برد باريس أثر فيه؛ فتمكنت منه علة الصدر فقفل إلي وطنه يتداوى بهواء بلاده وشمسها. وعاد يحرر جريدة «التقدم» في بيروت، فكانت بينه وبين الآباء اليسوعيين معركة «التعليم الإلزامي ومجانية التعليم»؛ فبث أفكارا وآراء تشبعت بها نفسه بباريس.
ولما تغيرت الأحوال في مصر دعي إليها، وعين مديرا لقلم الإنشاء والترجمة بوزارة المعارف، ورخص لجريدته «مصر» بالظهور، وقام بأعباء وظيفة أخرى مع وظيفته وهي كتابة سر مجلس النواب، ومنح الرتبة الثالثة، وسلمه عزيز مصر براءتها يدا بيد.
وكانت الثورة العرابية فعاد إلى بيروت، ثم رجع إلى الإسكندرية بعد احتلالها، فأعيدت البضاعة إلى مصدرها، بعد أن زار أديب السجن زيارة قصيرة وقال فيه شعرا. وفي بيروت طبع رواية «الباريسية الحسناء» التي عربها.
وأطبق داء السل كماشته على ذلك الصدر الجياش الواسع؛ فأشار الطب بمناخ مصر، فأذن له بالرجوع إليها، ولكن حلقة العمر كانت قد ضاقت، فانقلب على أعقابه إلى لبنان، ومات في مصيفه بحدث بيروت ولما يكمل تسعة وعشرين عاما.
وانتدب أهله كاهنا؛ ليصلي عليه فامتنع عن مرافقة جثمانه وإدخاله الكنيسة، ما لم يكتب والده، بخطه وتوقيعه: إن ولده عاش كاثوليكيا ومات كاثوليكيا. وتدبر العقلاء القضية بالتي هى أحسن ومشى الدليل أمام أديب إلى بيته الأخير، ورخص له بدخول عالم الأبدية ...
هكذا جمع الموت، أخيرا، بين أديب والشدياق في خراج قرية واحدة. عاشا مهاجرين أعرابيين، ثم ناما تحت السماء التي أوحت لهما ما أوحت من أدب وحرية فكر، وطلاقة لسان وطلاوة بيان. فر نسر لبنان الشدياق ينشد حريته في الآفاق، فكان يستقر أعواما حيث يحل، أما أديب فقضى عمره القصير شريدا طريدا. إن قصر عمر أديب لم يمكنه من الاستقرار فهو لم يتجاوز عمر القمر؛ فما اكتمل حتى امحق، ولكن البقية الضئيلة من تغاريد هذا الطائر الفذ تدلنا عليه دلالة لا لبس فيها ولا إشكال، كما قال في رثائه صديقه الأديب إسكندر العازار:
كان رايتنا في علم اللسان، وآيتنا في صناعة البيان، وغايتنا في حب الإنسان، وكان، والله، فتى ولا كالفتيان، كان زهرة الأدب في الشام، وريحانة العرب في مصر، عاش حر الضمير فكرا وقولا وفعلا، ومات حر الضمير فكرا وقولا وفعلا، فليبكه ضمير الأحرار ولتندبه الحرية. نشأ وطنيا خالصا صحيحا، وعاش جنديا لأشرف الأصول وأسمى الغايات، وأنفق في خدمتها من روحه ما كان ينفخ في القلم من الروح، وجاهد جهادا حسنا فمات شهيدا حميدا.
عصره:
كان أديب في عصر التناحر على المسألة الشرقية، ونشأ في أرض كانت الناس ترزح فيها تحت نير الإقطاعين: الديني والمدني، فكيف تنفست تملأ خياشيمك روائح استبداد تضيق لها الصدور، وتنكمش النفوس. رسالات دينية أجنبية تتناحر على شطنا اللازوردي، يخدمون قيصر معتقدين أنهم يخدمون الله، يقفون أمام مخازنهم كالتجار في أسواق الكساد، كل ينادي على سلعته يجذب هذا ويتمسك بأذيال ذاك، داعيا إياه إلى دكانه زاعما أن عنده البضاعة الصحيحة، وأن بضائع سواه مزجاة، ودرهمه زيف ... وقامت بين هؤلاء وهؤلاء عشيرة الماسونية تشجب الشيعتين وتدعو الناس إلى الإخاء والحرية.
أما المواطنون، فأفادوا من تناحر الفريقين - الكالثوليك والبروتستانت - علما وثقافة، فاستنارت الأفكار واستضاءت الأذهان، وهكذا جنينا من عوسج التعصب تينا، ومن قطربه عنبا ... جنينا ثمار علم يانعة وجهتنا توجيها لم يكن في حسبان من دعونا إلى مآدبهم الجدلية، وكثيرا ما يؤدي بك الجدل إلى حيث لا تريد.
نشأ أديب في زمن بلغ فيه سيل الركاكة الزنار، كان يحاربها «صقر لبنان» في جوائبه، داعيا إلى البلاغة والنسج على نول السلف، فما كاد يسمع - بعد صراعه الطويل في تعليم الجيل - صوت أديب حتى أعجب به وراق له نهجه، فاثنى عليه وترجى خيرا بعد عناء وجهاد طويلين. وكانت تلك الحقبة حقبة إنشاء المعاهد العلمية؛ فمن كلية أميركية إلى كلية يسوعية، إلى مدارس بلدية، كالحكمة والبطركية والمدرسة الوطنية للبستاني، ثم قام إلى جانب هذه جمعيات أدبية تعالج المواضيع العامة، وتهمس ما استطاعت لتحرك الهمم محاربة الاستبداد، ساعية وراء تحرير العقول. كانت هذه الحقبة غنية بالعلماء كالشدياق مالئ الشرق والغرب، والبستانيين واليازجيين، والأسير، والأحدب، والدبس، والشميل، وصروف، وزيدان، كل هذه العناصر كانت تتفاعل في بيروت حين برز أديب للميدان فكان من أمره ما كان. تعرض الشدياق للكثلكة لنكبة أنزلوها بأخيه، أما أديب فتعرض لكل سلطة مستبدة سيان عنده الدينية منها والمدنية، وانتمى إلى الماسونية فازدادت نار ثورته اتقادا ووقودا.
وقد اجتمع الشدياق وإسحاق على حب مصر والشرق، فعاشا ينافحان ويناضلان وظلا كذلك حتى مد الدهر يده وانتزع من بين أصابعهم العلم، فمات الشدياق بعد ما شبع من السنين، وقصف غصن حياة أديب، ولكن نضاله القصير العمر كان سمينا خطبه، وجليلا شأنه، كما قال أبو تمام في قلم ابن الزيات.
وإليك إحدى كلمات أديب في مقال - دولة العرب - التي تحسب أنها كتبت أمس، فبعد أن عدد أمجاد العرب العلمية والسياسية والأدبية قال:
يندهش من يلقاهم مقتصرين من العلم على ما لا يجلب خيرا، ولا يدفع ضيرا يعقدون مذاهبهم فيه بالأوهام، أو بأضغاث أحلام، أو ينيطون أسبابها بالسماء فيخطئون من حيث يريدون الإصابة، ويصيبون من حيث لا يعلمون. وينذهل إذ يجدهم راضين عن الكسلة المتراهبين، والجهلة المتجاذبين، يقبلون منهم أكفا لا تعرف الطهارة، ويستحلبون منهم أبدانا أنفت منها الستارة، حتى صار الكسل عندهم من المعايش، والخمول من المفاخر، والجهل من الملاجئ، والذهول من الكرامات، كأن لم يبق فيهم من عالم عامل يبدد الأوهام، ويبدي الحقيقة للأفهام.
إلى أن قال: «كلا والله ثم كلا: إنهم لا يعدمون عالما ناصحا، ولا نزيها صادقا، ولا نبيها هماما، وإنما أولئك نفر يمنعهم الخوف من الإقدام، ويردعهم اليأس من الاهتمام.»
ثم يصف الدواء فيقول: «ما ضرر زعماء هذه الأمة لو سارت بينهم الرسائل، بتعيين الوسائل، ثم حشدوا إلى مكان يتذاكرون فيه ويتحاورون، ثم ينادون بأصوات متفقة المقاصد كأنها من فم واحد: قد جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، وهبت الحاصبة تليها العاصفة، فذرت حقوقنا فصارت هباء منثورا، وألمت بنا القارعة ووقعت الواقعة، فصرنا كأن لم نغن بالأمس ولم نكن شيئا مذكورا. فهلم ننشد الضالة ونطلب المنهوب، لا تقوم بأمر ذلك فئة دون فئة، ولا نتعصب لمذهب دون مذهب، فنحن في الوطن إخوان، تجمعنا جامعة اللسان، فكلنا وإن تعدد الأفراد إنسان.» «أيحسبون أن ذلك الصوت لا يكون له من صدى، أم يخافون أن يذهب ذلك الاجتهاد سدى، أم لا يعلمون أن مثل هذا الاجتماع منزها عن المقاصد الدينية، منحصرا في العصبية الجنسية والوطنية، مؤلفا من أكثر النحل العربية، يزلزل الدنيا اضطرابا، ويستميل الدول جذبا وإرهابا، فتعود للعرب الضالة التي ينشدون، والحقوق التي يطلبون، ولا خوف على زعمائهم ولا هم يحزنون.»
أعلمت إلى ماذا كان يدعو أمته أديب إسحاق؟ إلى جامعة عربية! هكذا يكون الرجل السابق لزمانه، والثمر الطيب قبل أوانه. وليقم الشدياق وإسحاق والريحاني فيروا ما تحقق من أمانيهم.
خلقه وخلقه:
كان أديب طويل القامة والعنق مع انحناء قليل، عظيم الأنف، عريض الجبهة بارزها، جهوري الصوت، لطيف الحديث، ذكيا، نبيها، حاد الذهن، اشتهر بالخطابة والإنشاء فكان إذا خطب أفصح وأعرب، وإذا كتب سحر الألباب بحسن البيان مع السلاسة والبلاغة، وهو قدوة المنشئين وعمدة الكتاب.
أما الذي يتراءى لي من مخلفاته الكتابية ومن أسلوبه فهو أنه ناري الشعور متقد الخاطر، ثوري من الطراز الأول، كأنه كان في رفقة الحجاج يوم دخل الكوفة، وقد انتشر النهار ... يرسل عباراته الخرقاء فتئز أزير السهم، وقد فارق الوتر، جمل كأنها مقطوعة على نمط واحد، لا هي بالطويلة ولا هي بالقصيرة، يشد بعضها بعضا، فتؤلف مقالته كتيبة جامحة، إذا أخذتها منفردة لا تحس لها أثرا عظيما، ولكنها تؤلف «كلا» تخرج منه النفس وقد ملأها هذا الكلام اندفاعا واستبسالا، وما أظن إبعاده مرات عن مصر في خلال مدة قصيرة إلا ناتجا عن هذا الكلام الحاد الذي يفعل في النفوس فعله العجيب، لصدوره عن نفس منفعلة، متأثرة بكل ما تقول، مخلصة لما تدعو إليه، تنادي بمصر للمصريين، وكلها إيمان ويقين بما تدعو الناس إليه: «ومصر - ولا حياء في الحب - بلد تركت فيه زهرة أيام الشباب، وخلقت باكورة غرس الآداب، وهززت غصن الأماني رطيبا، ولبست ثوب الأمال قشيبا، فما عدلت بي عن حبها النكبة، ولا أنستني عهدها الغربة، ولست أول محب زاده البعد وجدا، ولم ينكث على الصد عهدا، فحذار أهل مصر إن العدو لكم بالمرصاد، وإنكم لمحفوفون بالعيون والأرصاد.»
يسير أديب الهويناء قاذفا نظرات كالتفاتات النسر، ولكنه أبدا في انتظار. يتطلع هنا وهناك على فريسة لقلمه، حتى إذا لاحت له كان قيد الأوابد حقا، وأنشب فيها مخالب قلمه. هجاء يذيب الشحم ويقرض اللحم. اسمعه بأي لهجة ينافح عن بلاده كاتبا أجنبيا اسمه شارم غبريل: «أتقول، وأنت أكذب القائلين، إن السوريين أرباب كذب ونفاق، ودناءة أخلاق، لا مروءة لهم ولا حياء، ولا همة فيهم ولا خلاق؟! كذبت ورب المروءة، وما هي أول فرية منك، فقد رميت من قبل نزالة اليونان في مصر بهذا القول، فجاءك النذر من الصديق جوسيو: «رد ما كذبت أو تكون من الخاسرين»، فأبيت فدعاك للنزال، يحسب أن في عروقك دم الرجال، فتسترت بأذيال فواجر الغدر، فعلم أن مثلك لا يعامل معاملة الشرفاء، فصفعك كما يصفع الأنذال.
وتذكر بعض مخدراتنا بالسوء ابتهارا، وتورد في ذلك حكاية حال من سفر بحر وصحبة فتى، وتزلف والد ... فهلا ذكرت يا ابن الطاهرة، مكارم الكرائم حيث دببت، وحيث شببت، وحيث تأدبت، فلا تحرجنا فتخرجنا من الذود إلى الإقدام، ومن الجواب إلى الخطاب. إنا نعرف منكم ما لا تنكرون، ونعلم ما لا تجهلون.
ثم طبعت هذا القول الهراء يا سقيم الطبع، فأين تركت ماء الحياء، ومن أين جلبت لوجهك جلد خنزير؟!
عفوا سادتي، عما ترون بي من سورة الغضب، ولكن هو الوطن، والعرض والقوم، ومن ذا الذي لا يغضب لقومه أن ينالهم لسان مبتذل ساقط لئيم ... قد عرفت هذا الرجل الذي جاءكم ضيفا نزيلا، وأكرمتموه، فجعل أعراضكم مناديل.
ويا مسيو غبريال شرم هذه أولى رسائلي إليك تنوب عن يد يقصرها بعد المسافة عنك، فطب نفسا. إنك التمست الشهرة بين قومك بما افتريت على السوريين والمصريين من قبلهم، وإني لأجعل لك بين قومي ذكرا، يجدده المستقبحون عصرا فعصرا.»
إنشاؤه:
تعرض أديب لوصف أسلوبه الإنشائي، فقال عندما أصدر جريدته في الإسكندرية:
رأيت أن أصرف العناية والاجتهاد إلى تهذيب العبارة، وتقريب الإشارة؛ لتقرير المعنى في الأفهام، من أقرب وأعذب وجوه الكلام، وانتقاء اللفظ الرشيق، للمعنى الرقيق، متجنبا من الكلام ما كان غريبا وحشيا، أو مبتذلا سوقيا.
ثم قال في تمهيد لمطلب مطول عنوانه «الشرق»: «قد التزمت لهذا المطلب أسلوب التقرير، وعدلت فيه عن منهج الخطابة الشعرية؛ لاعتقادي بأن الأسلوب الخطابي وإن كان أسرع تأثيرا في القلوب، وأحسن وقعا في الأذهان، إلا أنه قد يميل بالكاتب إلى جانب التخيل الوهمي في مكان التقرير العلمي، فيرتفع بيانه عن المدارك التي سبقت إليها الملكات الصناعية الحسية فلم يبق بها من محل لملكة الخيال المسماة شعرا، فيفوت الغرض المقصود من البيان والبلاغة، وهو تقرير المعاني في الأفهام، من أقرب وجوه الكلام؛ ولهذا سأرسل فيه الكلام إرسال مقرر مبين، ولا أتكلفه تكلف منمق مزين، فإن أحكام التقرير منافية لهذا التمويه الذي يسمونه بديعا.»
هذا ما حكاه أديب عما كان يتعمده في إنشائه، وإذا عدنا إلى مطالعة سيرة حياته رأينا أن كل من ترجموا له ذكروا عبارة قالها أستاذه لأبيه: إن ولدك سيكون «قوالا»، أي شاعرا؛ لأن السجع كان يرد في كلامه عفوا. أجل، إن السجع قوام فن أديب، فهو يعتمد على تنميق التعبير وترجيعه وتدبيجه، يحييه بكلمات ترقص بما فيها من جناس وتضاد، وينصب لغرضه شباك الاستعارات والكنايات والتشابيه. نثر كأنه الشعر، يرصعه بأبيات إما من الشعر القديم أو من نظمه هو، فيأتي مقاله عجاجا زاخرا حين يحتد ويشتد كقوله: «هو الظلم حتى تمطر السماء بلاء، فتنبت الأرض عناء، فلا تجد على سطحها إلا جسوما ضاوية، في ديار خاوية، وقلوبا تحترق، في بلاد تحت رق.»
وهو يراعي الموسيقى في نثره أكثر من شعره، فيتعمد ما كانت تتعمده مدرسة ابن العميد من أفعال مختلفة تتحرك لها الجملة فتحرك قارئها توا، وإن ذهب أثرها من عقله بعد حين.
والذي ألاحظه أن الحريري تلا تلو البديع، ونحا ناصيف اليازجي نحو الحريري، أما أديب فأحيا بيان كتاب القرن الرابع. ففي مقالاته حدة البديع، وتنسيق الصاحب، وبلاغة الخوارزمي، وهجوم الحجاج للاستيلاء على المبادرة، عاش أديب مبادرا أبدا؛ ولذلك لم يذق طعم الراحة إلا حين أقعده الداء ...
كل مقالات الأديب خطب تستثير الهمم، ومنبرها صحيفته التي تقيم وتقعد على حد ما قال، وقد كانت تقع في نفوس أولياء الأمر المصريين في ذلك الزمن العصيب؛ أحسن وقع فأجلوا قدر الأديب، وحفظوا له تلك اليد حتى سلمه الخديو بيده براءة الرتبة الثالثة كما مر.
كان الأديب خفيرا للمسألة المصرية، واقفا على سلاحه أبدا، حتى يهيب بالشرق أجمع: «إذا هبت عواصف الفتنة فذرت رماد المداجاة عن جمر ضغائن الدول، وصار الشرق، من أطراف الروم إلى البحر الأحمر، محشرا للعساكر يتنازلون فيه، ويتجاولون على أرض يملكونها، وغنيمة يصيدونها وسطوة يريدونها، وقوم يستعبدون ...
وإذا انقضت صقالبة الشمال على بقايا الأناضول، واندفعت ألمان الوسط على فضالات البلقان، ووقعت حيتان بريطانيا على سواحل مصر، وجزائر بحر الروم، وترامت نسور الفرنسيس على فينيقية وبلاد السوريين، وتداعى أبناء الرومان على تونس الغرب وما يليها، ورجعت عساكر الإسبانيين إلى الغرب الأقصى، فماذا يحل بالشرقيين وكيف يتقون البلاء؟! وهم على ما نرى من شغف القلوب، وقوة الخلاف، وتفرق الكلمة ... فهم في غفلة الساذج، وخدر السكران، وكسل المهموم، لا ينتفعون بما يعلمون، ولا يسألون عما يجهلون.
وإذا جادت الحكمة بماء السلم فأهمدت ذلك الجمر، وعاد الشرق من جهاته الأربع مجتمعا للتجار والصناع من جالية الغرب يتجرون فيه ... وإذا انتشرت جالية الألمان في شبه جزيرة البلقان، تحيي الموات، وتنتحل الصناعات، وانبث تجار الإنكليز والفرنسيين والإيطاليين وسائر الأمم الغربية يجمعون الثروة بما يتجرون، وما يستخرجون من كنوز الأرض ... فأي مكان يكون للشرقيين في عالم الوجود وهم على ما نشهد؟»
لقد نحا الأديب نحو الشدياق في تنبيه الشرق والانتصار له، والشدياق هو أول من دبج مثل هذه الفصول ببلاغة، ولكن لكل منهما روح. فالشدياق بعد عن تقليد القديم، أما إسحاق فأعاد لنثر القرن الرابع عصره اللامع - كما ترى - من تماسك عبارة، وموسيقى راكضة كأنها النهر في مجراه، يمده خياله الرائع، وتعبيره البارع. ويحيي كلامه بما يتقد في أحشائه من حمية، ليس للشدياق حمية إسحاق، كما أن ليس لإسحاق تهكم الشدياق؛ فكلاهما عالج قضية مصر والشرق كما أوحت إليه طباعه.
ومن مرك بعباراته أظنك قد أدركت أسلوبه كل الإدراك، وإذا اطلعت على أثره - الدرر - تبين لك أن حذق الرجل لغة الغرب لم يحول إنشاءه عن أسلوب العرب. ولأديب رسائل مجموعة في الدرر، وهي مطبوعة على غرار رسائل أبي بكر ومعاصريه، فهؤلاء كانوا أساتذته في الفن، وحسبه أنه ضارعهم، ليس في رسائله شأن يعنينا كثيرا إلا رسالة كتبها عام 1882 إلى جبرايل مخلع على أثر استظهار الإنكليز على مصر، ومما جاء فيها:
نحن في زمان لا يشبه الأزمنة، وحال لا تماثل الأحوال، فيومنا مشتبه الخبر، وغدنا مجهول الأثر، ورئيسنا ليس بأعلم من المرءوس بما تؤدي إليه الحوادث؛ ولذلك تلجلجت الألسنة وترجرجت الأقلام، وتهدجت الأصوات، فصار الاعتزال كرامة، والخمول سلامة ... فالخمول هو الراحة لأمثالي في مثل هذه الأيام، ولا سيما إذ لم أر معارضة ولم أجد نفورا، ولكني ما رأيت مساعدة ولا إغراء بالظهور، فأنا على حالة الرضى بالرزق الحاصل، والذكر الخامل، حتى تستقر الحال، وينجلي ليل الأشكال.
وأديب كان أعدى عدو للأجنبي، وما انفك يندد ويصيح حتى قضى.
أديب الشاعر:
قلنا إن أديب إسحاق كاتب سياسي مناضل، ومن دعاة حرية الفكر وأحد رسلها المبكرين في الشرق العربي، وهو ممن يؤمنون بالعقل، وقد ظهرت مواهبه الخطابية في جمعيات بيروت مثل: «زهرة الآداب»، و«شمس البر»، و«زهرة الإحسان»، وإنه كان في عصره من أشهر الخطباء حتى ذكره الزعيم الخالد سعد زغلول في مقدمة الذين تأثر بهم خطابيا. أما أديب الشاعر فهو في نثره أشعر منه في شعره، وإن كان فياض القريحة، يرسل القريض عفو الطبع. الرجل خطيب أولا ولهذا أبدع في نثره، أما شعره فسوف نريك منه نماذج، ونتولى الحكم عليه معا.
قال أديب الشعر في أغراضه المعهودة: غزل وتشبيب، ومدح ورثاء، ووصف وقائع حال في ميدان السياسة والهوى، وقد كان للتراسل بين الأدباء شأن - كما عرفت - فخاض أديب هذه الغمرات أيضا.
وجارى أديب عصره في نظم الألغاز وحلها، ولم يحرم التاريخ الشعري من جهود قريحته، فقال يؤرخ موت شاب من بني الخوري مات بداء الهواء الأصفر «الكوليرا»:
فتلونا فيه بالتاريخ أن
قصف الغصن هواء أصفر [قصف الغصن هواء أصفر = 1875]
وكان يبدأ بعض مقالاته بأبيات من الشعر، وعلى أثره مشى ولي الدين يكن وغيره، وكان يخمس ويشطر على نسق أهل عصره، حقا إن في الأدب أزياء تبطل ثم تعود، وهي كالأنواع فقلما تنقرض انقراضا كليا.
وقد نظم في السجن كأبي نواس ولكن شتان بين السجينين؛ هذا سجين هوى أمة عظيمة كمصر، وذاك سجين جام وغلام. ومما قال في سجنه من قصيدة بعث بها إلى محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب المصري:
أمولاي هذا نظم حر وتلوه
كلام سجين أوثقته المآثر
أتوه بنكر وهو للعرف مرتج
وجازوه بالخذلان وهو مناصر
أيبعد ذو فضل، ويدنى منافق
ويسجن واف، حين يطلق غادر
ويكرم جاسوس عن الصدق حائد
ويظلم همام على الحق سائر
بذا قضت الأيام ما بين أهلها
معايب قوم عند قوم مفاخر
ثم نظم قصيدة تاريخية وصف بها حوادث مصر سنة 1882، وقد نشرت في الجزء الخامس من تاريخ مصر للمصريين، وهي من الطراز الذي سبق.
وللأديب أبيات شعر عائرة منها ما لا يعرف أنه له كقوله:
قتل امرئ في غابة
جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن
مسألة فيها نظر
والحق للقوة لا
يعطاه إلا من ظفر
ومنها ما يعرف أنه له، وهي أبيات يدور أكثرها على ألسن الأدباء:
إنما المرأة مرآة بها
كل ما تنظره منك ولك
فهي شيطان إذا أفسدتها
وإذا أصلحتها فهي ملك
لقد وعدتك أن سنشترك في الحكم بعد عرض النماذج، أما أنا فقد قلت كلمتي فلك أنت أن تقول ما تشاء.
أثره في الذرية:
إن لأديب إسحاق أثرا بينا في أسلوب إنشائنا الأدبي، فهو وإن لم يبدع أسلوبا سهلا جديدا كالشدياق فقد أعاد للنثر رواءه وفخامته. اقتفى أثر الشدياق واضع أسس أدب المقالة في جمله الأدبية والسياسية، وتوغل في الترصيع والتدبيج حتى سمى هو ما يكتبه بالأسلوب الشعري؛ لعمق التخيل فيه والتعمل.
وقد أثر هذا الأسلوب في الأجيال المتعاقبة؛ فاقتفي أثر إسحاق زمنا، فبدت ملامح أسلوبه في جميع من كتبوا «المقالة» بعده، وإذا أطلت النظر في أسلوب جبران في أول عهده، ترى فيه هذا العنصر، إنما بشكل آخر.
وإذا أخذت مثلا نجيب الحداد رأيته نسخة طبق الأصل عن إسحاق، وإن كان دونه سجعا وتخيلا، وشدة أسر. وكذلك إبراهيم اليازجي في صدر مقالتيه: الزهرة والقمر. إن هذا الأسلوب الإنشائي لا تزال آثاره بينة ظاهرة في إنشاء الكثيرين من الكتاب. (2) محمد عبده
ولست أبالي أن يقال محمد
أبل أم اكتظت عليه المآتم
ولكن دينا قد أردت صلاحه
أحاذر أن تقضي عليه العمائم
هذا ما روي عن الإمام أنه قاله عند الاحتضار. ولد محمد عبده في الريف من أبوين فقيرين، ولما كلف طلب العلم أدخل الكتاب، ولكنه خرج منه خروج الشعرة من العجين. ثم عاد بعد حين فقرأ القرآن في أحد الجوامع، وتحول إلى الأزهر على كره منه فحصل العلوم الشرعية والعربية، واتصل بالأفغاني وأخذ عنه علم الفلسفة والكلام فكان أنبغ من تلمذوا له. وقد قال الأفغاني ساعة ودع مصر: «قد تركت لكم محمد عبده.»
عين مدرسا للتاريخ والأدب بدار العلوم، ثم شكروا له خدماته فلزم بيته في بلده ... وعين بعد عام كاتبا في جريدة الوقائع المصرية، فنقد فيها الحكومة ووزارة المعارف ... وكانت ثورة عرابي فاتهم أنه أفتى بعزل الخديوي توفيق باشا، ونفي إلى بر الشام، فأقام سنة ببيروت كان فيها مدرسا، ثم ذهب إلى باريس ليلتقي بأستاذه الأفغاني، فأصدرا معا «العروة الوثقى»، فكان السيد الأفغاني مديرا لها، والإمام محررا.
ولم تكن العروة وثقى فانفصمت بعد عدة أشهر، وعاد عبده إلى بيروت فدرس بالمدرسة السلطانية، وأصلح منهاجها. وفي بيروت ألف رسالة التوحيد وشرح مقامات البديع، ونهج البلاغة، وعرب رسالة الأفغاني في الرد على الدهريين، وعفا عنه الخديوي فعاد إلى مصر وتقلب في مناصب عديدة أهمها عضوية مجلس إدارة الأزهر، فجاهد لإصلاحه. وظل يكتب مناضلا حتى مات تاركا تفسيرا لستة أجزاء من القرآن أطلق لنفسه حريتها فيه، ولم يتقيد بأحد. ورد على هانوتو ورنان، وألف كتاب الإسلام والنصرانية.
وصفه لنا معلمنا الشيخ سعيد الشرتوني الذي اتصل به وصادقه في بيروت. كان ذلك يوم جاء خبره فبكى أستاذنا في الصف، وبعد أن كفكف عبراته قال: «كان الإمام أسمر مربوعا، له عينان يشع منهما نور، وهيبته كالأسد. حليم كريم، محب لبلاده وللناس. كاتب متين، وشاعر رصين، وخطيب. غايته إنقاذ الشرق من الجهل، بتعليمه الدين الصحيح.»
وها نحن ننقل لك شيئا من مقال له عن «الانتقاد»؛ لنعرفك على أسلوبه المرسل لا المسجع:
1
الانتقاد لغة: النظر في الدراهم وغيرها؛ لمعرفة صحيحها من فاسدها، وصحيحها من زائفها. ومنه انتقاد الكلام لتمييز فاسده من صحيحه وغثه من سمينه. على أن الانتقاد طريق من أوسع طرق الارتقاء، وإن أربابه قادة الناس إلى المراتب العليا من مراتب الكمال والجمال، فلا عجب أن يعرف العقلاء قدرهم، ويحيوا ذكرهم ويصدعوا بأمرهم. وحيث كان الانتقاد ميتا كان الفن ساكنا لا حراك له نحو التقدم، ولا حياة لأهله.
وبعدما جعل الإمام الانتقاد أصح دليل على رقي الناس قال: «إن النقد ازدهى عند العرب في عصر نهضتهم، ثم توارى حين تأخروا. وكذلك الفرنجة فإنه لم يكن عندهم انتقاد يوم كانوا في تأخر، ولما تقدموا أنشئوا للنقد الجرائد والمجلات ... حتى أنك لا تكاد تجد مؤلفا يؤلف عند الإفرنج إلا استهدف لسهام الانتقاد والمنتقدين من كل صوب وناحية، بل قد صارت عادتهم أن لا يعرض مؤلف للبيع حتى يعرض على الجرائد لانتقاده فيسمع الناس به ويعرفوا قيمته. والمؤلفون منهم أرغب الناس في توطيد دعائم الانتقاد وتقوية ساعد المنتقدين؛ لعلمهم أن جلب الفائدة منه عائد عليهم، فلذلك تراهم يرضخون لحكم المنتقد أخطأ في اعتقادهم أو أصاب، ويعتبرون نقدهم فضلا عليهم وجميلا معهم. وإذا اقتضت الضرورة أن يردوا عليه صدروا الرد بالاعتذار عن ذلك ... كل ذلك حرصا على الانتقاد أن تخبو ناره.
وأبلغ الكتاب قلما، وأقومهم رأيا، وأجزلهم لفظا، وأرقهم نثرا ونظما، هم أشد الناس عرضة للانتقاد. وقد يميل المنتقدون عليهم كل الميل، ويتحاملون عليهم شديد التحامل، فينتقي الكتاب من انتقاد النقاد ما أصابوا فيه، ويغضون عما أخطئوا، وكثيرا ما ينقلون انتقادهم عليهم إلى كتبهم، إما إقرارا بصحته، أو إظهارا لخطئه، أو لغير ذلك من الأغراض.
والانتقاد بين علماء الإفرنج دليل على رعاية مقام المنتقد عليه والاحتفاء بشأنه. والتدقيق في الانتقاد دليل الاهتمام بما ينتقد. والواسعون في الفهم يعتبرون تشديد المنتقد عليهم مزية لهم، ويفضلون إظهاره لمعايبهم على مجرد مدحه لهم وإطرائه.
وإذا رأوا من المنتقد تساهلا وتسامحا ساءهم ذلك، وحملوه محمل الاستصغار لقيمة تآليفهم، وقوة عقلهم ...»
ثم قال في الناقد:
يلزم أن يكون الناقد بصيرا خبيرا يتحرى الصدق في القول، والإخلاص في النية، منصفا، عادلا، باحثا، منقبا، قاصرا النظر على ما قيل، مغضيا عمن قال. ولا حق للمنتقد عليه أن يحقد على الناقد إذا أبان معايب تأليفه، ولم يسترضه بمدح ذاته وصفاته، أو إذا لم يغض عن نقيصة أتاها سهوا أو عمدا.
هذا وصف وجيز لحال النقد والناقدين عند الأوروبيين. وأما نحن المشارقة فقد خبت عندنا نار النقد، منذ غابت عنا شمس معارف العرب وعلومهم.
وختم الإمام مقاله هذا متمنيا ألا يكون الانتقاد مخاصمة ومشاتمة، ومهاترة ومشاجرة، وتمنى على أصحاب الجرائد إشهار الانتقاد في البلاد.
هذا ما رأينا نقله لك لتعرف أن هذا الرائد المصلح يجول في كل بحث ومطلب، ويناضل على كل جبهة، ثم لنعرفك على هذا الأسلوب الرصين الذي لا غبار صنعة عليه. (3) شبلي الشميل
هو إحدى حلقات تلك السلسلة الذهبية، أدرك الشدياق، وناصيف اليازجي، وإسحاق، ومشى مع صروف وزيدان رفيقي المدرسة، فتوغل زيدان في دياميس التاريخ على ضوء هلاله، وانصرف صروف إلى بساتين العلوم الحديثة يقتطف منها زهورا فواحة وثمارا يانعة، أما الشميل فجعل وكده العلم والفلسفة. جرته دراسته الطبية إلى بحث «الأنواع» فسد ثغرة وملأ فراغا، تحدث عن العلم والفسلفة بأسلوب أدبي رفيع فكان نسيج وحده.
قال صروف: جاء الشميل المدرسة الكلية الإنجليزية - الجامعة الأميركية اليوم - سنة 1867 وله من العمر حوالي سبعة عشر عاما فتجاورنا على مقعد المدرسة سنتين. شاب قصير القامة، أسمر اللون، مرتد الثياب الفرنجية يوم كانت نادرة الاستعمال. هو من كفر شيما ضيعة أستاذنا ناصيف اليازجي، وأنا من ضيعة الشدياق، وكلانا يود أن يحتذي بابن بلده، فكنا نتنافس في اقتفاء أثرهما.
والشميل ابن بيت علم، أخواه ملحم وأمين معلمان، ولهما تآليف في الفلسفة، وأبوهم من أدباء عصره. وفي سنة 1871 ترك شبلي المدرسة إذ صار طبيبا جسمانيا، ثم عالما صريحا، وفيلسوفا جريئا لا يحابي أحدا. كان حاد الذهن، سريع التصور ، نابغة في التعليل، ألمعيا في اكتشاف الحقائق. وكان أشهر الأطباء في التشخيص الطبي فكأنما يوحى إليه. وبلغت منه الفراسة أنه علل حوادث كثيرة بالاستهواء الذاتي قبل شيوع هذا العلم في أوروبا.
وهو - فوق ذلك - ذو ذاكرة ماضية، وقوة استحضار فائقة. أنيس المحضر، حسن المحاضرة، فكه الحديث، طلق المحيا، بشوش، مخلص، منصف، ذو شجاعة أدبية تفوق الحد، متغطرس على الظالمين، متواضع للضعفاء البائسين، كريم لم يستفد من علمه، ولو حرص على ماله حرصه على مقالاته، لكان من الأغنياء ولعاش ميسورا موفورا. كان واسع الرواية، قوي الحجة، متحمسا لمعتقده.
وهذا النابغة العظيم هو زعيم فكرة التطور والنشوء والارتقاء في عالم الضاد. حاز شهادة الطب يوم كانت معركة النشوء والارتقاء حامية الوطيس في الغرب، فنقل رحاها إلى الشرق. قرأ عنها في المدرسة سنة 1871 فهزئ بها، ولكنها شغلت باله، فظلت تعمل في عقله الباطن، حتى خطب عند نيله الشهادة في موضوع: «اختلاف الحيوان والإنسان بالنظر إلى الإقليم والغذاء والتربية»، وكل ذلك عن غير قصد منه. ورحل بعد نيل الشهادة إلى أوروبا والأستانة فاطلع على المذهب في كتب أصحابه، وكأنه يعلل تحوله إلى هذا الموضوع فيقول: «إن تربيتي المدرسية لم تسمني بطابعها، فإن اعتلال صحتي في حداثتي لم يسمح لي بأن أكون من متخرجي المدارس، ما خلا الطب.»
أثار الشميل قضية فلسفة النشوء والارتقاء فقامت حولها القيامة، وإن كنا نقرؤها اليوم كما نقرأ فرضا حسابيا. ولست أبعد بك كثيرا، أيها القارئ العزيز، فقد جئت والدي - بعد عودتي من المدرسة - بخبر أحدث بيني وبينه ما أحدثت فلسفة النشوء والارتقاء بين الشميل ومناظريه. جرني غرور الصبا والعلم فقلت لمن جاءوا للسلام علي وامتحان عبقريتي: الأرض تدور. فزأرني والدي، ولكني لم أعبأ بعارض جفنيه ومضيت في حديثي. فإذا به يعض على شفته السفلى عضة ترعب، فلم أسكت. أما الناس فكانوا يسمعون براهيني على دوران الأرض، وهم يضحكون علي، وأنا أحسبهم يضحكون لي، ولكن المرحوم والدي نزل أخيرا إلى الميدان، فخطأني وخطأ جميع الكتب، وسب ديك العلماء، وحجته الدامغة هو أن بابنا الشمالي يظل على الشمال، والشمس تغيب وراء جبل معاد، وتظل تغيب هناك ... وكان مسك الختام: سد بوزك. فسددناه مؤقتا ...
لسنا ندرس الشميل الدرويني فعلى من يهمه الأمر أن يرجع إلى كتبه التي طبعت سنة 1984 ثم أعيد طبعها في سنة 1909 على حساب الأجاويد والأنصار، وأولهم الأب بولس الكفوري والدكتور أيوب ثابت وغيرهما من أحرار رجال الفكر والقلم، ثم أصحاب الأكياس الوارمة. أما الذي يعنيني هنا فالشميل الأديب النابغة الحر الفكر الذي لا يؤمن بغير العلم، والعلم العملي وحده، وقد قال في ذلك:
إن اليوم الذي ينصرف فيه الإنسان عن تنميق الكلام إلى إتقان العمل هو اليوم الذي تتقوم فيه طباعه، فتقل سخافته، ويكثر جده، ويقل رياؤه، وينشط من الذل، ويرتقي ارتقاء حقيقيا، ويحق له حينئذ أن يعد نفسه إنسانا.
وإذا بحثنا الشميل الأديب فكأنا تناولنا الشميل كله بقضه وقضيضه، فهو لم يفارق عمود فكرته في كل ما كتب، فكأنه استعان ببيانه لإيضاح ما في وجدانه. أسلوب إنشائي؛ تارة ينحو فيه نحو الشدياق معلم الجيل في بساطة العبارة، وخفة الروح، وحينا ينهج نهج أديب إسحاق الخطابي فينقض على الموضوع انقضاضا.
فالشميل كاتب جدلي، مطبوع على الأسلوب الخطابي، ينم أسلوبه على لبنانيته. تقرأ مجموعته من أولها إلى آخرها، فلا تحس أدنى أثر للهجة المصرية، بل بالعكس فإنك ترى لونا صارخا من الأسلوب اللبناني وإليك مثلا هذا التعبير: «كم أنت متمسك بما نشأت عليه؟ فأنا كنت مثلك وأكثر.» ومثل هذه العبارة كثير في مقالاته.
والشميل عاش وله في كل عرس قرص، يكتب باللغة الفرنسية كما يكتب بالعربية، لم يدع مسألة سياسية أو اجتماعية إلا ومد إليها مبضعه. عالج جميع قضايا عصره الاجتماعية، ورمى جميع الأهداف بأسلوب علمي منطقي. ندد بتنميق الكلام ثم تأنق وسجع، فبحث الحقائق العلمية متذرعا بالخيال وسحر البيان.
أما فلسفة الشميل فمعرية؛ نحا نحو أبي العلاء في تفكيره، وحسبك منه «رسالة المعاطس» برهانا، والشميل وجودي بكل ما في هذه الكلمة من معنى وقوة.
قال الشعر ولكن شعره دون نثره، قاله لإثبات نظريته محاولا تقديمها لك على طبق أنيق من الخيال، محلولة في إكسير أترك لك نعته:
هو الحب إكسير الوجود بلا مرا
ولولاه ما كان الوجود كما ترى
فكل الذي تلقاه في الكون سره
وهاديه في أفعاله كيفما نحا
هو الحي مولودا، هو الميت فانيا
هو النجم قد أسرى، هو الصبح والدجى
هو الكل في كل، معيدا ومبدئا
وما نحن إلا فيه من صور الفنا
وليس فناء ما نراه، وإنما
هو العود للأولى، هو البعث للألى
قضوا فحيينا، وانقضينا بعودنا
إليهم، وغير «الكل» ليس له بقا
أظنك توافقني - بعد ما قرأت - على تسميتي هذا الضرب من الأدب بالصوفية العلمية، وعلى عدي الشميل وجوديا، وإن كان الأدب يغلب على ألوانه جميعا. (4) عبد الرحمن الكواكبي
الرجل سبط أسرة حلبية عريقة ذات شهرة وصيت، ويعود نسبه إلى السيد إبراهيم الصفوي أحد أمراء أردبيل العظماء، وهو سليل بيت علم، درس العلوم الشرعية في المدرسة التي أنشأها جدوده وإليهم نسبت، ثم وقف على العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحديثة، وأتقن العربية والفارسية والتركية. أنشأ جريدة الشهباء، ونزع فيها إلى الإصلاح، وحرية القول والفكر؛ فحبس، ففر إلى مصر، وطاف أقطار العالم فزار أقاليم عديدة، ثم عاد إلى المحروسة.
قال زيدان: «كان الكواكبي واسع الصدر، معتدلا في كل شيء، عطوفا على الضعفاء حتى سماه الحلبيون «أبا الضعفاء».»
وجاء في الرائد العصري أنه: «كان له في بلده مكتب للمحاماة يصرف فيه معظم نهاره لرؤية مصالح الناس، ويبعث إلى المحاكم من يأمنهم من أصحابه؛ ليدافعوا عن المظلومين والمستضعفين، ومع تمسكه بالإسلامية والمطالبة بحقوقها والاستهلاك في سبيل نصرتها، كان بعيدا عن التعصب يستأنس بمجلسه المسلم والمسيحي واليهودي على السواء؛ لأنه كان يرى رابطة الوطن فوق كل رابطة.»
اشتهر هذا الكاتب الخطير بكتابين: أم القرى، وطبائع الاستبداد. فأم القرى كتاب تخيل الكواكبي فيه أن مؤتمرا عقد بمكة المكرمة في موسم الحج عام 1316، فاختار لهذا المؤتمر اثنى عشر عضوا، منتدبين عن جمعية أعضاؤها من كل قارة وقطر.
أما شعار الإخوان في هذه الجمعية فهو: لا نعبد إلا الله، وأما مبايعتهم فعلى عهد الله بالجهاد والأمانة.
كان أساس البحث في مؤتمر «أم القرى»، وهو موضوع الكتاب، على هذا السؤال: ما هو سبب تعمم الفتور وملازمته لجامعة هذا الدين - الإسلامي - كملازمة العلة للمعلول، بحيث أينما وجدت الإسلامية وجد هذا الداء، حتى توهم كثير من الحكماء أن الإسلام والنظام لا يجتمعان.
ونوقش هذا الموضوع نقاشا صريحا واضحا، ولما جاء دور السيد الفراتي - أي الكواكبي - بحث أسباب الفتور دينية ومدنية، فتكلم عن 86 سببا منها الديني والمدني والسياسي والأخلاقي إلخ، أما عصارة الرأي فكانت كما قال المتنبي:
وإنما الناس بالملوك وما
تفلح عرب ملوكها عجم
ثم أشار إلى نظرة الأتراك للعرب، وأيد زعمه بعبارات من لسانهم، وبعد أن عدد كثيرا من أقوالهم فينا، قال: إن العرب لا يقابلونهم إلا بهذا المثل: ثلاث خلقن للجور والفساد؛ القمل، والترك، والجراد.
أما كتابه الثاني؛ طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد فنسب إلى الرحالة «ك» أي الكواكبي، وخير ما يوصف به هذا الكتاب هو تلك العبارة التي جاءت بعد العنوان: «كلمات حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح لقد تذهب غدا بالأوتاد»، ثم يقول في المقدمة:
وبعد فأقول وأنا المضطر للاكتتام حسب الزمان، الراجي اكتفاء المطالعين الكرام بالقول عمن قال: إنني في سنة 1318 وجدت زائرا في مصر على عهد عزيزها ومعزها حضرة سمي عم النبي العباس الثاني، الناشر لواء الحرية على أكناف ملكه، فنشرت في بعض الصحف الغراء أبحاثا علمية سياسية في طبائع الاستبداد، ومصارع الاستعباد.
ثم ينتقل إلى مقدمة هذه الفصول التي جمعها في كتاب فيتحدث عن كتاب السياسة في الشرق والغرب حتى إذا تناول العرب بالكلام قال:
وأما العرب منهم فقليلون ومقلون، والذين يستحقون الذكر منهم فيما نعلم: رفاعة بك وخير الدين باشا التونسي، وأحمد فارس والمبعوث المدني، ولكن يظهر لنا الآن أن المحررين السياسيين من العرب قد كثروا بدليل ما يظهر من منشوراتهم في الجرائد والمجلات في مواضيع كثيرة.
لم يتبع الكواكبي خطة معاصريه في السجع، ولم يتنطع في اللغة ولم يتحذلق؛ فهو مناضل ضد كل استبداد حتى استبداد المقلدين، وقد حدد الاستبداد بقوله:
الاستبداد لغة هو اقتصار المرء على رأي نفسه فيما تنبغي الاستشارة فيه، ويراد بالاستبداد عند إطلاقه استبداد الحكومات خاصة لأنها هي أقوى العوامل التي جعلت الإنسان أشقى ذوي الحياة. وأما تحكم رؤساء بعض الأديان وبعض العائلات، وبعض الأصناف فيوصف بالاستبداد مجازا، أو مع الإضافة.
أما في اصطلاح السياسيين فهو تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بلا خوف تبعة، وقد تطرق مزيدات على هذا المعنى فيستعملون في مقام كلمة «استبداد» كلمات استعباد، واعتساف، وتسلط، وتحكم. في مقابلتها كلمات: شرع مصون، وحقوق محترمة، وحس مشترك، وحياة طيبة، ويستعملون في مقام صفة «مستبد» كلمات: حاكم بأمره، وحاكم مطلق، وظالم، وجبار. وفي مقابلة حكومة مستبدة كلمات: عادلة، ومسئولة، ومقيدة، ودستورية ...
هذا تعريف الاستبداد بأسلوب ذكر المترادفات والمقابلات، وأما تعريفه بالوصف، فهو أن الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء، بلا خشية حساب، ولا عقاب محققين.
إلى أن يقول وهو يريد السلطان عبد الحميد - وإن قال في التمهيد إنه «غير قاصد بها - أي مقالاته - ظالما بعينه، ولا حكومة مخصصة»:
المستبد يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس؛ ليسدها عن النطق بالحق.
ثم يقول:
المستبد إنسان والإنسان أكثر ما يألف الغنم والكلاب، فالمستبد يود أن تكون رعيته كالغنم درا وطاعة، وكالكلاب تذللا وتملقا. وعلى الرعية أن تكون كالخيل إن خدمت خدمت، وإن ضربت شرست، بل عليها أن تعرف مقامها هل خلقت خادمة للمستبد، أم هي جاءت به ليخدمها فاستخدمها؟ والرعية العاقلة تقيد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها؛ لتأمن من بطشه. فإن شمخ هزت به الزمام، وإن صال ربطته. وفي هذا المقدار كفاية لمعرفة ما هو الاستبداد بالإجمال والمباحث الآتية كافلة بالتفصيل.
ثم يتكلم عن مرتع الاستبداد، فيقول أجمل قول: «العوام هم قوت المستبد وقوته بهم؛ عليهم يصول، وبهم على غيرهم يطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء الحياة، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته. وإذا أسرف بأموالهم يقولون عنه إنه كريم، وإذا قتل ولم يمثل يعتبرونه رحيما، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التأديب، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلوهم كأنهم بغاة.»
والحاصل أن العوام يذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل، فإذا ارتفع الجهل زال الخوف وانقلب الوضع؛ أي انقلب المستبد رغم طبعه إلى وكيل أمين يهاب الحساب، ورئيس يخشى عادل الحساب، وأب حليم يتلذذ بالتحاب.
ثم قال:
وضع الناس الحكومات لأجل خدمتهم، والاستبداد قلب الموضوع؛ فجعل الرعية خادمة للرعاة كأنها خلقت لأجلهم فقبلوا وقنعوا، كما أن الاستبداد استخدم قوتهم المجتمعة وهي هي قوة الحكومة على مصالحهم لا لمصالحهم فارتضوا ورضخوا.
ولما كان ضبط أخلاق الطبقات العليا من الناس من أهم الأمور أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات مستثنية القذف فقط، ورأت أن تحمل مضرة الفوضى في ذلك خير من التحديد؛ لأنه لا ضامن للحكام أن يجعلوا الشعرة من التقييد سلسلة من حديد، يخنقون بها عدوتهم الطبيعة أي الحرية، وقد حمى القرآن قاعدة الإطلاق بوضعه قاعدة: «لا يضار كاتب ولا شهيد.»
وفي فصل عنوانه: «الاستبداد والترقي» تخطى إلى القول: «وقد يبلغ فعل الاستبداد بالأمة أن يحول ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفل بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت، كما يتألم الأجهر من النور، وإذا ألزمت بالحرية تشقى، وربما تفنى كالبهائم الأهلية إذا أطلق سراحها ... وعندئذ يصير الاستبداد كالعلق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة لا ينفك عنها حتى تموت، ويموت هو بموتها.»
هذه الفكرة قالها أديب إسحاق قبل السيد الكواكبي ولكن هذا لا يضيره.
ثم توغل السيد في هذا البحث، فتصور نفسه يخاطب قومه ليحرك قلوبهم، فنحا في الكلام نحوا جميلا يكاد يكون ابتكارا في أسلوب المقالة فابتدأ هكذا:
يا قوم، ينازعني - والله - الشعور هل موقفي هذا في جمع حي أحييه، أم أنا أخاطب أهل القبور فأحييهم بالرحمة.
يا قوم، لستم أحياء عاملين ولا أمواتا مستريحين، بل أنتم بين بين في برزخ يسمى التنبت ويصح تشبيهه بالنوم.
يا قوم - هداكم الله - ما هذا الشقاء المديد والناس في نعيم مقيم، وعز كريم، أفلا تنظرون إلخ.
يا قوم - وقاكم الله من الشر - أنتم بعيدون عن مفاخر الإبداع، وشرف القدوة، مبتلون بداء التقليد والتبعية في كل فكر وعمل، وبداء الحرص عل كل عتيق، إلخ.
نعم يا قوم، عافاكم الله، ويا قوم، أعيذكم بالله، ويا قوم، شفاكم الله، ويا قوم، رحمكم الله، ويا قوم، حماكم الله، ويا قوم، هون الله مصابكم، ويا قوم، سامحكم الله، وظل يقول يا قوم يا يقوم حتى فرغ جرابه، وهيهات أن يفرغ.
ثم انتقل من يا قوم إلى الشرق فخطابه خطابا يبتدئ كل مقطع منه ب «رعاك الله يا شرق.»
ويختم كتابه بالقول: «إن الله - جلت حكمته - قد جعل الامم مسئولة عن أعمال من حكمته عليها وهذا حق. فإذا لم تحسن أمة سياسة نفسها أذلها الله لأمة أخرى تحكمها، كما تفعل الشرائع بإقامة القيم على القاصر أو السفيه، وهذه حكمة. ومتى بلغت أمة رشدها استرجعت عزها، وهذا مثال. وهكذا لا يظلم الله الناس بل الناس هم أنفسهم يظلمون.»
2
هذا هو الكواكبي أحد الرواد المناضلين في العهد الحميدي، ولعله أمرهم لسانا، وأعنفهم هجوما، وربما كان موقد نار اليقظة القومية العربية، فبينما كان حزب تركيا الفتاة يدعو إلى تجديد دم الحكم التركي كان الكواكبي يهتف: فلنلق عنا نيرهم ... ثم كان الذي كان. (5) مصطفى كامل
تعلم أولا في المدارس المصرية، فحاز جائزة التفوق في الامتحان أمام الخديوي توفيق باشا، ولحق بمدرسة الحقوق المصرية، ثم فصل منها، وسافر إلى فرنسا حيث أتم دروسه، ونال الليسانس من كلية طولوز وهو لم يبلغ العشرين بعد.
وخرج إلى العالم مسلحا بعلومه ليغوص في بحر السياسة ولا يكون له هم إلا المطالبة بالجلاء. فألف لتأييد مطلبه كتاب المسألة الشرقية، وحياة الأمم، والرق عند الرومان، ورواية فتح الأندلس التمثيلية، والشمس المشرقة؛ فحبب الشعب بالحرية والاستقلال، فالتف حوله الشباب، وصار ذلك الزعيم بلا منازع.
كان شعاره السياسي «مصر للمصريين»، فخاطب الدول كتابيا، وكتب فصولا كثيرة في الموضوع، وأصدر أخيرا جريدته اللواء بالعربية أولا، ثم بالفرنسية والإنكليزية؛ ليبلغ صوته دول الأرض.
ورأى الحاجة ماسة إلى تأليف حزب منظم فألف الحزب الوطني الذي انتخب رئيسا له طول الحياة.
وإذا لم يتسع المجال للتحدث عن تطوافه في الشرق والغرب، فلنتحدث ولو قليلا عن صفاته، فقد كان هذا الزعيم المناضل عصبي المزاج، شديد التطرف في آرائه، مخلصا لها، ثابتا عليها. يرجع إليه فضل إيقاظ الشعب المصري، وتمهيد السبيل للزعيم زغلول، ومن جاءوا بعده من الأحياء الذين هم خارج نطاق بحثنا.
كان هذا العظيم من خطباء العالم المعدودين مسلحا بصوت جهوري تستحليه ولا تنفر منه. قوي البديهة متدفق البيان رائعه. يعرف كيف يأسر سامعيه ببراعة استهلاله، وكيف يترك في نفوسهم أثرا بليغا بحسن ختامه، تؤيده في جميع مواقفه محبته العنيفة لوطنه، وإباؤه المملوء كرامة قومية.
كان داعية عنيف الكلام، ولكنه لم يدع إلى استعمال القوة والعنف، بل كان يتذرع دائما بالسلم ليبلغ الغاية والقصد، يشبه في مواقفه الخطابية أديب إسحاق الذي اقتدى كل من جاءوا بعده بأسلوبه ووقفته، كما قال الزعيم الآخر الخالد سعد زغلول. (6) قاسم أمين
جده أمير كردي، تلقى علومه أولا في مدارس وطنه، ثم بعث إلى أوروبا فدرس علم الحقوق، وعاد ليشغل مناصب عديدة في القضاء.
وأشهر كتبه «تحرير المرأة»، ثم كتاب «المرأة الجديدة»، وهو دفاع عما كتبه «تحرير المرأة» الذي أقام الشرق وأقعده، وكأن هذا الكتاب تعديل لما في كتاب تحرير المرأة من تطرف. لقد رد على قاسم كثيرون، أما أبلغ رد كان فهو هذه الحكاية، إن صدق الرواة: قيل إنه جاءه واحد يوما يطلب مقابلة «مدامته»، فقال قاسم أمين: أنت غلطان يا أخي! زوجتي أنا!
فأجابه الرجل: نعم مدام قاسم بك أمين. ألست أنت المطالب برفع الحجاب وإطلاق حرية المرأة، فابدأ بنفسك، اسمح للست أن تقابلنا لنتبعك!
وبعد، فليس قاسم أمين أول من طالب بحرية المرأة المسلمة، فالكتاب الأتراك وأحمد فارس الشدياق الذي أصدر جوائبه في عاصمتهم، كانوا أول الداعين إلى ذلك لكثرة اختلاطهم بالأجانب.
وقد استدرك قاسم أمين فقال: «سيقول قوم إن ما أنشره اليوم بدعة، فأقول: نعم، ولكنها ليست في الإسلام، بل في العوائد، وطرق المعاملة التي يحمد الكمال فيها.»
وقد نشر لقاسم أمين كتاب ثالث سمي «كلمات لقاسم بك أمين»، ومن هذه الكلمات قوله: «إن الذي مدحك بما ليس فيك إنما هو مخاطب غيرك.»
تعصب أهل الدين، وغرور أهل العلم هما منشأ الخلاف الظاهر بين الدين والعلم، لا تكمل أخلاق المرء إلا إذا استوى عنده مدح الناس وذمهم إياه.
ومن كلماته أيضا، وهو رأي له في اللغة:
لا أدري ما هي غاية الكتاب إذا أرادوا التعبير عن اختراع جديد، إنهم يجهدون أنفسهم في البحث عن كلمة عربية تقابل الكلمة الأجنبية المصطلح عليها، كاستعمالهم - مثلا - كلمة السيارة بدلا من كلمة الأوتوموبيل، فإن كان القصد تقريب المعنى إلى الذهن، فالكلمة الأجنبية التي اعتادها الناس تقوم بالوظيفة المطلوبة.
وإن كان قصدهم إثبات أن اللغة العربية لا تحتاج إلى اللغات الأخرى، فقد كلفوا أنفسهم أمرا مستحيلا؛ إذ لم توجد، ولن توجد لغة مستقلة عن غيرها مكتفية بنفسها.
هذا هو أحد روادنا الذين سعوا للتحرر، وإنا لم نضعه هذا الموضع لبلاغته وفصاحته بل لمنزلته الاجتماعية التي كان لها أثر بعيد في النهضة الحديثة، فالغاية من الكتابة الإصلاح، وهذا كان قصد قاسم أمين حين يكتب. (7) فرح أنطون
كانوا يقولون في تحديد الكاتب: فلان يطبق المفصل، وصرنا نقول اليوم: يطبق المنهاج ... كانت المعرفة عيارا للعلم، فصارت الشهادة قبلة يصلى عليها، وكيف يجعلها دبر ظهره من يراها مفتاح قفل الغد ...
أما فرح أنطون فهو كغيره من الرواد - تلاميذ ذلك الزمان - لا تعادل درجته العلمية الشهادة التكميلية من مناهج اليوم، ولكنه أخرج إلى عالم الأدب ما تقصر عنه دكاترة الأدب والفلسفة.
بزغ نجم فرح أنطون الأدبي مع هلال القرن العشرين - 1900 - فحمل إلى العالم العربي وحي رسالته الجامعة الشاملة، فطعم الألباب، ونور العقول. حل هذا البلبل الشادي دوح وادي النيل فحنا عليه حنو المرضعات على الفطيم، وما انفك يعمل حتى صار ثالث اثنين: «المقتطف» للعلم، و«الهلال» للتاريخ، و«الجامعة» للأدب والثقافة العامة، فكان رائد النهضة الفكرية الحرة في الشرق العربي.
حمل فرح على منكبيه رسالة الفكر الإنساني فأدتها «جامعته» في سبع سنوات فقط، ثم انفتل من جهاده يسعى وراء الرغيف؛ لأن الثقافة لا تطعم من جوع ولا تؤمن من خوف.
كان الشدياق يهدر كالجمل الأورق، وأديب إسحاق يزأر في عرين المنابر ويطاعن خيلا من فوارسها التعصب، ويحمل على أعداء الحرية حملات حجاجية، فما تواريا حتى أمدت البلاد بعثتها الأولى بغطريف جديد نازل القديم المسيطر بصمصامة الحق، فانجلى الغبار عن نصر من الله وفتح قريب. ففرح أنطون ابن تاجر طرابلسي زوى عينيه عن صندوق أبيه فأدركته حرفة الأدب ... سفح على المهارق ريق شبابه، فما اكتهل حتى شب في صدره الأمل، فحمل «جامعته» إلى أميركا يوسع لها في مجالس تلك الدنيا العريضة، ولكنه رجع من بلاد الدولار على الريق، فاحترف الأدب الرائج يلتمس به قوت من لا يموت، وظل يتحرق على حياة الفن للفن حتى قضى سنة 1922 في الثالث من تموز، وليس له إلا كفاف يومه.
ماذا عمل الرجل في الخمسين إلا عامين، وأية رسالة أدى؟
الجواب: وأية رسالة لم يؤد؟ فهو الذي عرف سواد الشرق الأدنى ببوذا وكنفوشيوس، وأطلعهم على شرائع حمورابي، وهو أول من أذاع فلسفة تولستوي، وكان له مع الإمام محمد عبده جولات موفقة حول ابن رشيد وفلسفته شغلت العالم العربي حصة من الزمن. وهو من أرانا وجه جون روسكين النبيل، ونشر تعاليم روسو وبرنردين دي سان بيار، وترجم قسما كبيرا من رائعة نيتشه، زاراتوسترا، وأخيرا اهتدى إلى مكسيم غوركي، فترجم أشهر رواياته «ملفا»، وهو الذي اكتشف تعاليم كارل ماركس قبل أن تحمر روسيا البيضاء.
وفرح هو الذي عرفنا ب «رينان» وإذا كان عرفه جدي شخصيا حين وقف على أطلال الهيكل الروماني القائمة كنيسة عين كفاع على أسسه الضخمة الحجارة، أجل عرفه ولكنه ما عرف منه إلا رجلا فرنجيا حل عمشيت وغزير، وكان يعرف السريانية، ويأخذ بعض الحجارة الأثرية من الكنائس العتيقة.
قام فرح بكل هذا يوم لم يكن يحلم الشرق إلا بقديمه، ويرى كل الخير فيه. فهو القصصي الاجتماعى الأول في قصصه: الدين، والعلم، والمال، والوحش الوحش الوحش، وأورشليم الجديدة، ومريم قبل التوبة وغيرها. وصاحب المسرحيات كابن الشعب، وصلاح الدين وغيرهما، كتبها للمعاش فعاش بها المسرح العربي حينا، وتركت في وفتها دويا اجتماعيا.
عشقت نفس فرح الحرية في كل ميدان، ونظر إلى أهمية التربية، فترجم آراء جول سيمون، وظاهر قاسم بك أمين في معركة «تحرير المرأة»، وهو لم ينس أعاظم رجال الغرب العصاميين، فترجم لهم؛ ليحث الشرق على النهوض، وما أحلى ما ابتدأ به كلامه متحدثا عن باكون وشكسبير: مشاهير الناس آلهة للناس في هذه الحياة، ولكنهم آلهة لا تعبد إلا بعد الممات. وقد ابتدأ حين تكلم عن هيغو، وذكرى ميلاده المئوية بكلمة لكاتب دنمركي شهير: إن ظهور أعاظم الرجال منحة من السماء.
ولا يهمل فرح الفلاسفة؛ فيعرفنا بأوغست كونت وفلسفته الحسية، كما أذاع سيرة فيليكس فور تحت هذا العنوان: «من معمل الدباغة إلى رئاسة الجمهورية»، ثم لم ينس العلم؛ فترجم لبرتلو هاتفا: «المجد للعلماء.»
وعلى قلة بضاعته من الشعر نراه يحدد حافظ إبراهيم وأحمد شوقي تحديد بصير، ويدل على مقامهما العتيد في صرح نهضتنا الحديثة.
هذا هو تلميذ الصف الثالث. ما كان ثانويا ولا جامعيا، فليتعلم شبابنا ليعرفوا لا ليحوزوا مجموعة شهادات كأنها من طوابع البريد ... فالشهادات لا تشرف إلا من يشرفها بعلم واسع عميق.
شخصيته:
أتخيل فرح أنطون كالموسوسين، وكأني أراه حائرا، هادئا، يفكر أبدا، ويحلل القضايا التي تثقل ظهر أمته، لا يدري بما ينفس عنها، ولا كيف يعالج أدواءها، فلجأ إلى كهوف الدهور ينشر على قومه تعاليم أهلها، فترك لنا هذا الميراث الخالد. لم يكن فرح أنطون من أصحاب العبارات الملساء الجوفاء، ولا الكلمات التي تملأ الماضغين. لم يكن يعنيه من الفصاحة إلا الإبانة والظهور. أسلوبه ساذج، يهمه أن يؤدي ما يعتلج في خاطره؛ ولهذا فاض أسلوبه رقة وحنانا، وعبر عن نفسه التي تجرحها النظرة الثابتة. ومن نظر إلى الأزاهر التي قبلتها هذه النحلة الدائبة يدرك ما في جرتها من عسل.
لم تهمه البلاغة كما أهمت أديب إسحاق، ولا القوالب كما نجدها عند نجيب الحداد. كان للرجل هدف يرمي إليه، فهو كاتب أدبي عملي لم يبرز إلى السياسة كالشدياق وإسحاق. كان فرح يحرث كرم الفكر، وينقيه عن العليق والقندول؛ لينمو ويثمر. وما أرى الثائرين والمتمردين بعده إلا تلاميذ له، فهو الذي شق لهم الطريق، وأضرم في النفوس نار الثورة الوجدانية.
في فرح أنطون شخصيتان: المؤلف والمترجم، ولكن الاثنتين واحدة؛ يترجم رواية الثورة الإفرنسية لديماس، كما يؤلف ثورة العرب في «أورشليم الجديدة» روايته الخالدة. لم يكتب الرواية إلا لغرض، ولم يخط كلمة إلا دفاعا عن مبدأ سام، أو سعيا وراء مثل أعلى. ومن يقرأ تحيته لتمثال الحرية يعلم كيف مزج صوفية الشرق بعملية الغرب، حتى إذا آب بالفشل، ودع العالم الجديد بخطبته الخالدة أمام شلال نياغرا. ففرح هو الفكر المحرر حديثا من عبوديته، فلا يكاد يرى أخا معتوقا مثله حتى يصافحه مهنئا، ويتمنى الفرج للمسجونين الآخرين.
أما آثاره في طور الفن للفن فأربعة وعشرون مجلدا، وتآليفه في طور المعاش خمسة عشر، وهو في كل ما ألف وترجم لم يتحول عن خطته إلا بمقدار.
كان اسم رنان يفزع المتدينين في الغرب، وكان هذا الاسم في الشرق مرادفا للكفر والإلحاد، ألم يقل حافظ إبراهيم راثيا الإمام محمد عبده، ذاكرا ما له من فضل:
وقفت لهانوتو ورينان وقفة
أمدك فيها الروح بالنفثات
ولكن فرح ترجم أخطر كتبه - يسوع - فحملق الشرق به، ونظر إليه الكثيرون، ولكنه لم ينثن. وعندما احتفلت فرنسا بإزاحة الستار عن تمثال رينان عمد فرح إلى آثاره، وترجم «صلاة رينان عند الأكروبول»، ثم علق عليها، وهاكم نموذجا من ذلك التعليق:
يا أثينا العظيمة، اسمحي لنا بعد صديقك العظيم - رينان - أن نوجه إليك رجاءنا، وسؤالنا نحن الشرقيين، ليس لك أن تتكبري علينا كثيرا فبيننا وبينك قرابة قديمة: أتذكرين أيتها الإلهة أولئك الأسرى الذين كان يخطفهم بحارة جزائرك في لارخبيل، من شواطئ صور وصيدا، ويسوقونهم إلى بلادك؟
إن هؤلاء الأسرى كانوا من مساعديك على تمدين قومك، وتعليمهم الفنون الجميلة، وهم قواعد نهضتك، ففي عروقك إذن أيتها العذراء الجميلة شيء من دماء شرقية، فبحرمة هذا النسب نناشدك: ابعثي إلى الشرق - جدك القديم - شيئا من سنا نورك العظيم، علمينا أن ننسى أهواءنا ومصالحنا الخصوصية، علمينا أن نجهر بمعتقدنا، ولا نخاف فيه قوات الأرض والسماء، أفهمينا معنى الحق والواجب والعدل والعقل؛ لنتخذها نجوما نهتدي بها في ظلمات الحياة، افتحي عيوننا فنكون مخلصين في طلب الإصلاح، مهتمين بالجميع على السواء، وأن نبدأ بأنفسنا.
بثي فينا روح التساهل المطلق، وبهذا كمال النهضة الشرقية.
وإذا كنا لا نشاهدها في زماننا، فحسبنا أن يشاهدها أحفاد أحفادنا ولو بعد عشرين عقبا.
ولما حمل فرح «جامعته» إلى أميركا طامعا بالرزق قال الشاعر أحمد محرم يخاطبه:
إن كنت لا تبغي لنفسك راحة
فأرح مطيك والدنى وبنيها
وتعب فرح الشرقي في ميدان الدولار؛ لأن صوفيته الشرقية حالت دون ذلك، وهاك مقطعا من خطابه أمام شلال نياغرا، فهو يدلك بعض الدلالة على روحية أديبنا، وسبب إخفاقه:
قد غيروا أرضك ومن عليها أيها الشيخ، وهم يظنون أنهم جملوها، وما جمالهم إلا كجمال المرأة الدميمة؛ زخرف خارجي، وطلاء سطحي، حك هذا الطلاء قليلا تجد تحته جيفة منتنة. كنت أجمل منك اليوم حين كان شاطئاك ملجأ للمتوحشين، ومعتركا للنمور والأسود، وملعبا للذئاب والتماسيح، ومرقصا للدببة والقردة.
كان يومئذ جمالك وحشيا طبيعيا، يقشعر له جلد التصور، ويرتد عنه طرف الخيال مذعورا.
كان يومئذ جمالك جمالا حقيقيا، أما اليوم فقد أسروك كما تؤسر الأسود في الأقفاص، وتجعل فرجة للناس، قد أصبح شاطئاك مرتعا لذئاب ونمورة ودببة وقردة من جنس جديد، لها طباع تلك، ولكنها تمشي على قائمتين: إن روحا مادية هائلة هبت على العالمين فضعضعت المبادئ، وزعزعت الشرائع، وسحقت الأديان والآداب، وساقت الناس بعصا الحاجة الحديدية إلى مبادئ هائلة، جعلتهم ذئابا هائلة، تتعادى وتتسلح تأهبا لاقتتال أفظع من اقتتال الذئاب، والشعوب يأكل في داخلها كبيرها صغيرها، وقويها ضعيفها، كما تفعل أسماكك، والكمال للدولار وحده.
صفحة غير معروفة