وآثر المؤمنون في سورية ولبنان وفلسطين الترهب الفردي على الجماعي، فتركوا المدن والقرى وانتثروا في السهول والوديان وعلى قمم التلال يتأملون ويبتهلون ويعملون، وكان من أشهر هؤلاء في القرن الرابع مار مارون، ولا نعرف بالضبط سنة ولادته ولا المكان الذي ولد فيه ولا محل تنسكه، ولكننا نعلم علم اليقين أنه عاش وعمل في سورية الشمالية في النصف الثاني من القرن الرابع.
ويرى الأب لامنس اليسوعي أن مار مارون عاش ومات في القورسية، وقورس عاصمة منطقة القورسية كانت تقع على مسيرة يومين من أنطاكية وعلى نحو سبعين كيلومترا من حلب إلى شماليها الغربي، ويميل المطران بطرس ديب إلى القول بأن مار مارون تنسك على جبل في منطقة أبامية «قلعة المضيق» من سورية الثانية.
وأقدم ما نعود إليه في تاريخ مار مارون رسالة وجهها إليه يوحنا الذهبي الفم من منفاه في مدينة كوكيسوس في جبال طوروس في السنة 404 أو 405، وهي الرسالة السادسة والثلاثون من رسائل هذا القديس،
6
وفيها مودة ومحبة واستفسار عن الصحة والسلامة ورجاء إلى مار مارون أن يصلي من أجل الذهبي الفم، فلا شائبة إذن تشوب عقيدة مار مارون، وهو بالتالي أرثوذكسي كاثوليكي نيقاوي.
وأنفع المراجع الأولية ما جاء عن مار مارون في تاريخ التنسك والنساك لثيودوريطس أسقف قورس (423-458) الذي ولد في أنطاكية قبل وفاة مار مارون بسبع عشرة سنة (393) وعرف يعقوب الناسك أشهر تلاميذ مار مارون.
7
ويستدل من كلام ثيودوريطس وغيره أن مار مارون قصد في النصف الثاني من القرن الرابع إلى قمة أحد المرتفعات في القورسية؛ يرتاد الخلوة والطمأنينة، فكرس هيكلا وثنيا كان قد «خصص للأبالسة منذ القديم» واستعمله في عبادة الإله الواحد، وأنه كان يقضي أيامه ولياليه تحت قبة السماء متعبدا، وأنه كان يلجأ إلى خيمة صغيرة اصطنعها من جلود الماعز؛ ليتقي فيها شر العواصف والبرد. ولم يكن مار مارون يكتفي في تقشفه «بالأصوام والصلوات المستطيلة، والليالي الساهرة في ذكر الله وإطالة الركوع والسجود، والتأملات في كمالات الله ومناجاته، وحبس الجسد في منطقة محدودة، وقهره باللباس الخشن والمسوح الشعرية، وتحريم الجلوس أحيانا، ومنع النوم ليالي بكاملها والانصراف إلى وعظ الزوار وإرشادهم»؛ بل كان يزيد عليها ما ابتكرته حكمته فيوازن بين النعمة والأعمال، ويؤكد ثيودوريطس أن الله منح مارون موهبة الشفاء وأن الناس تقاطرت إليه أفواجا وأنه لم يكتف بشفاء أمراض الجسد بل كان يشفي بعضا من البخل وآخرين من الغضب ويعلم غيرهم العدل، وينهى عن استباحة المحرمات ويوقظ من غفلة التواني.
ومما يجدر ذكره لهذه المناسبة أن مار مارون اجتذب تلامذة عديدين رجالا ونساء، وأن هؤلاء التفوا حوله في صوامع قريبة، يهتدون بإرشاداته في مجاهل حياتهم النسكية، فلما توفاه الله في السنة 410 نشأت أخوية مارونية تعمل بما علم به هذا الناسك المجاهد.
8
صفحة غير معروفة