الفصل الحادي والثلاثون
ثم خرج الدكتور روجر وهو مشغول البال، مضطرب الخاطر، سائلا نفسه: ترى ماذا جرى لها نهار أمس؟ وما هو سبب غضبها؟ وأي شيء منعها عن أن تصحبني إلى فرساي حسب العادة؟ لعمري إني لم أقدر أن أعرف حتى الآن شيئا ولو يسيرا بهذا الخصوص.
وفي إبان الساعة العاشرة، رأى روجر أنه مضطر لرؤية زوجته، فعاد إلى بيته محتجا بأنه قد نسي شيئا، فدخل توا إلى حجرته وأخذ بيده رزمة صغيرة مارا أمام غرفة زوجته التي لم ير فيها أحدا سوى الخادمة، فسألها عن مرغريت فأجابته بأنها خرجت. - متى خرجت؟ - باكرا يا سيدي. - مع المرضع؟ - كلا، فإن هذه ذهبت بصحبة مكسيم منذ نصف ساعة تقريبا، وأما سيدتي مرغريت فإنها ذهبت وحدها. وكان الجو صافيا جميلا جدا في ذلك الصباح، وهي معتادة على الذهاب في صباح كل يوم كهذا اليوم وروجر يعلم ذلك، ومع هذا اضطرب على رغمه عند سماع كلام الخادمة، فانقلب راجعا إلى حجرته، وجلس يفكر سائلا نفسه عن سبب هذا القلق والاضطراب، ثم أخذ يشجع نفسه ويسكن فكره، ووقف وهو ينظر إلى ساعته، فرأى أن الوقت يسمح له بعيادة بعض المرضى فخرج لشئونه، ولكن اضطرابه لم يفارقه، وخال له أن كل ساعة يكون بها بعيدا عن امرأته توازي الدهر كله.
وبعد ساعة من ظهر ذلك اليوم عاد ودخل حجرة المائدة، حيث كانت مرغريت بانتظاره كل يوم في مثل هذه الساعة، ولكن لسوء الحظ لم يجد أحدا فقرع الجرس، ولما حضر الخادم سأله: أين سيدتك مرغريت؟ - إنها لم تعد حتى الآن! إن الطعام مهيأ إن كنت تريد. - يلزم أن ننتظر مرغريت!
خرج الخادم عابس الوجه مقطب الحاجبين نظرا لتغيير أوقات الطعام، وهذا يهمه أكثر من سائر الأمور التي لا يبالي بها. أما روجر فإنه فتح نافذة مطلة على الشارع وجلس أمامها وهو ينظر كل عابري الطريق وقد ضاق صدره وعيل صبره، فظهر له عن بعد شبح امرأة فظنها زوجته ولكن لم تكن إياها. وبعد هنيهة نظر مركبة آتية فقال: إن مرغريت فيها لا شك. فنهض لاستقبالها وقد عاد إليه بعض الرمق، غير أن ظنه لم يصب أيضا فقال: ويلاه! خاب الأمل وكيف العمل؟ وهو قد مل الاصطبار وسئم من طول الانتظار، وجعلت أفكاره تتلاطم كأمواج البحر، والهواجس تتجاذبه، والتخيلات تتقاذفه، والظنون تذهب به في كل شعب وواد.
وعندما رأى أنه أضحى هدفا لهيجان أفكاره واضطرابها المتواصل؛ مما كاد يخرجه عن دائرة الرشد ويجعله أشبه بالبهائم، انحدر بسرعة البرق من أعلى السلم إلى حيث تسكن أمها مدام موستل وهو كمن مسه خبل، ثم سأل الخادمة عنها فأجابته: إن مدام موستل تلبس ثيابها تفضل إلى الداخل وانتظر قليلا. فزاده هذا الجواب ضغثا على إبالة، فالتزم أن ينتظر مهدئا روعه وهو يضرب أخماسا لأسداس، غير أنه سئم الانتظار فهجم على باب حجرتها وقرعه بشدة وهو يدعوها، ولم تكد تخرج حتى صاح بها بصوت دوت منه كل المساكن: أين هي؟ وكيف لا تعلمين؟ وهل هي في عالم الأحياء أو عالم الأموات؟ قولي لي الصحيح، ولماذا تخفين عني؟ - تمهل يا روجر، لا تخف ولا تزعج نفسك ولا تلح علي بكثرة الأسئلة، بل دعني أفعل ما بدا لي، فإن سمعت كلامي تتم الأمور على أحسن ما يكون. - لكن ماذا جرى؟ وأي شيء يوجد من جديد؟ اصدقيني الخبر، لقد قتلني الاصطبار، ترى إلى متى تدوم معاركة هذه الشئون؟
فتحت يدها اليمنى فرأى فيها ورقة صغيرة قد كتبت فيها مرغريت بعض كلمات، فتناولها بيد مرتجفة وإذا بها: يا أماه، إن ألبير في حالة النزاع ولا أقدر أفارقه. ثم أعاد القراءة ثانية وهو يفرك عينيه، وارتبط لسانه وشخص نظره بوالدتها التي قالت: هأنذا ذاهبة إلى حيث هي لأرى هذا الخطب الذي حل بنا على حين غفلة، غير أني أستحلفك باسم ولدك بأن لا تحرك ساكنا، اترك الأمر على مسئوليتي. قال ولسانه يتلعثم: هي عنده؟ - نعم، هي عنده! - زوجتي مرغريت ... عنده ... - لا أفهم ... كيف ... - لا بد لي أن أذهب لإحضارها! - قلت لك دع ذلك في عهدتي، أنا أعرفها حق المعرفة، ذهابك لا يوافق البتة.
إنه في حالة النزاع وهي لا تكذب، يلزم أن تشفق اليوم لتسعد غدا، يقتضي أن تكون حليما لتعود إليك. - إنها تكرهني الآن بدون شك، آه مرغريت ... مرغريت! قال ذلك وهو يبكي بكاء مرا، ودموعه تنهل بكثرة على خديه، وأضحى منظره بهيئة يرثى لها.
الفصل الثاني والثلاثون
حدث بعد أن خرج روجر أن نهضت مرغريت وهي تقصد الذهاب إلى ألبير بعزم ثابت أكيد؛ إذ لم يكن أن يشغلها عنه أعظم شاغل في هذه الحياة، كما أنه لم يبق أن يهمها عذاب روجر وقلقه واضطرابه؛ لأن قلبها قسا عليه حتى أضحى صخريا صلدا. كيف لا، وقد كان اقترن بها طلبا لسعادته لا لسعادتها وراحتها؛ إذ لو كان حبه مجردا عن الميل الذاتي لكان طيب خاطرها وساعدها على احتمال المصائب، دافعا عنها جيوش الهموم من غير أن يقترن بها على هذه الصورة؛ لأنه ابن عمها، فهو - والحالة هذه - ملتزم بتفريج كروبها وتعزيتها في أحزانها، لا أن يطلب زواجها به كما جرى حال كونها مقترنة برجل حي.
صفحة غير معروفة