كان دسباس يستقبل زائريه في منزله يوم الأحد، فحينئذ تذهب ابنته وأودت لتناول الطعام معه، ثم تهتمان بمجاملة ضيوفه وإكرامه. وفي الأحد التابع لزيارة مدام روجر كان دسباس يلعب مع أودت بالشطرنج، وفي الساعة الرابعة بعد الظهر دخل الدكتور توري، فهتف دسباس: أهلا وسهلا بطبيبنا النطاسي العظيم!
فأجابه مازحا: اجلس من غير قيام؛ فإني لست غريبا هنا. - دعنا نلعب وحدنا ونتحدث مع مدام فارز.
فقالت له: هيا بنا إلى الصالون الصغير؛ لأننا لا نقدر أن نتكلم هنا إلا بصوت منخفض. ثم ذهبا إليه وجعلت تنظر إلى الصور المعلقة على الحائط وقالت: هل رأيت الصور الجديدة التي اشتراها أبي يا حضرة الدكتور؟ - لم أرها بعد. - ها هي تعال وانظرها. فجعل ينظر الواحدة بعد الأخرى إلى أن قالت: تعجبني هذه البنية الصغيرة، وأما رؤية تلك فتحزنني. - ولماذا تحزنك يا سيدة؟ - يظهر أنها تندب حبيبها، فأنا أتاثر من النظر إلى هذه الابنة المسكينة على رغم استخفافي بدموع المحبين. - نعم، واعتقادك بسنة الود غريب حسبما يبدو لي، دعيني أولا أن أهنئك بصداقتك لرجل وامرأة مطلقين، وهل يعرف ألبير أنك تستقبلين زوجته؟ - لا توجد أسرار بهذه الزيارة، وما من سبب يدعوني لإخفاء ذلك. - رأيك في محله.
إن توري كان يشتم من رائحة كلامه علامات الغيرة ظانا بأنها تسر بذلك؛ إذ تتخذه شاهد حب وميل إليها، ولم يعلم أن مداخلته في ما لا يعنيه جعلته ثقيلا غير محتمل، بما أن صداقة مدام فارز له كانت ساذجة مجردة عن كل غاية، وعندما سمعت كلامه هذا غشى الاصفرار وجهها، واستشاطت غيظا وكدرا وقالت له: أرجو منك أن لا تتداخل في أموري لأنها لا تعنيك. - حسنا تقولين يا سيدتي، إنما تعنين أن صداقتي تثقل عليك. - لا أريد أن يتعرض أحد لأمر سيرتي وسلوكي، فإني مطلقة الحرية في سائر شئوني. نعم، إني أزور وأستقبل وأود من أشاء. قالت هذا ودخلت غرفة اللاعبين دون أن تعبأ به، وجلست إزاء والدها وابنتها، وبعد برهة وجيزة نهضت أودت مسرورة وهي تقول: غلبت جدي، فأنا غالبة وهو مغلوب. قال : إنها ابنة تخيف. ثم سأل أمها عن توري، فأجابت: في القاعة ينظر إلى الصور. فتبعه إلى حيث هو، ثم اقتربت أودت من والدتها ولثمتها، فشعرت بارتعاش يديها. - ماذا جرى يا والدتي؟ أرى يدك كقطعة ثلج! - لم يحدث شيء. هل تحبينني يا أودت؟ - وأعبدك عبادة، أخبريني ماذا جرى؟ ثم دخل دسباس وقال: ماذا حدث؟ وأين ذهب توري؟ يظهر لي أنه قد انسل (على الموضة الإنكليزية) ولم يزد على هذا شيئا، إذ لحظ اضطراب ابنته، ففهم أنه جرى لها ما يكدرها من جهة توري.
الفصل الثالث والعشرون
إن الدكتور توري ثاني يوم اجتماعه بمدام روجر ذهب إلى بيتها، وسلم الخادم بطاقة لها، فاستغنمت والدتها هذه الفرصة لإعداد مأدبة بليلة سرور وحظ في بيت ابنتها، وأفهمتها أن تحث زوجها لأن يكون توري من المدعوين، فراق هذا الفكر في عيني روجر؛ مريدا أن يشكره على مدحه إياه أمام زوجته، لكنه لم يفطن بمن يدعوهم معه، فقالت مدام موستل: يمكنك أن تدعو أليس وزوجها وصديقنا القديم - لبران هاليه - الذي صادفته بطريقي في الأسبوع الماضي، وقد سألني عنكما باهتمام، والدكتور توري، ويمكنك أن تجد مدعوا آخر من أعز أصحابك، ونحن ثلاثة، ولا ينقص سوى تعيين اليوم ومرغريت تكتب بطاقة تدعو بها توري، فماذا تقولون؟
فصادق روجر ومرغريت على هذا الرأي، ثم اختلت مدام موستل بابنتها وقالت كظافرة: هل نظرت ما أطيب قلب زوجك؟ سري وابتهجي بعيشتك يا بنيتي، وانزعي عن وجهك هذه الهيئة المحزنة، وماذا ينقصك يا ترى؟
فتنهدت مرغريت قائلة: لا ينقصني شيء.
ثم وصلت أليس وزوجها من فرساي قبل باقي المدعوين، وتركت زوجها في منزل أخيها، وذهبت تقضي بعض الشئون في المدينة. أما زوجها القبطان (تورسي) فكان خفيف الروح، حلو الحديث ، بهي الطلعة، يعجب كثيرا بمرغريت، كما أنها كانت هي أيضا ترتاح إلى مجالسته ومحادثته، وكانت في ذلك اليوم متبرجة ومزدانة بأحسن زينة، لابسة ثوبا رماديا جميلا للغاية، وشعرها الذهبي يلمع فوق وجهها المنير الناصع البياض الممزوج باللون الوردي، فتأملها القبطان تورسي طويلا ثم قال لها: يخال لي اليوم أنك مرغريت الأولى، نعم من حين دخولك بيت روجر هذا تهملين نفسك، ولا تعتنين بملابسك كالأول.
خال لها أن القبطان عرف فكرها وما يختلج في أعماق صدرها، وأنها لم تتبرج إلا لأنها افتكرت بألبير؛ ولهذا احمر وجهها ثم أجابت: لا تذكر الماضي يا هنري. - ولماذا يا مرغريت؟ أنا متأكد كل التأكيد أنك لم تذنبي في الماضي، ولا محل للانتقاد عليك بالحاضر. وكانت حينئذ زوجته داخلة بالباب فسألته: ماذا كنت تقول؟ - كنت أردد على مسامع السيدة مرغريت آيات حبي لها، معربا لها عن عواطفي. وأنت تعلمين عظم مودتي لها. - إن قولك هذا ينافي العقل والصواب على خط الاستقامة.
صفحة غير معروفة