عاد ألبير إلى منزله في ذلك المساء منشرح الصدر، خفيف الروح، قرير العين ، ناعم البال، وعندما فتح مكتبه وجد على مائدته علبة خشب، ولما قرأ العنوان تحقق أنه كتابة مرغريت، فاعترته نوبة عصبية زعزعت أركان قواه، ثم رفع الغطاء بسرعة فوجد بطاقة بيضاء على ما هو أشبه بسرير من الورد، فقرأ ما فيها وإذا بها هاتان الكلمتان: «إلى إيڤون» عند ذلك أحس بأن موجة حب غمرت فؤاده، وفتح ذراعيه مناديا زوجته المحبوبة بألطف الأسماء وأعذبها وأرقها، ثم جلس يقبل تلك الورود العطرة.
الفصل السابع عشر
كان روجر جالسا في غرفة بهية مزينة بالأزهار على اختلاف أنواعها وأشكالها، تفوح منها الروائح العطرية التي تملأ الفضاء، وأمامه زوجته مستندة على مقعد، وكانا صامتين لا ينطقان بكلمة، والنهار قد شاخ وشمسه كادت تتوارى عن الأبصار، ثم أخذ الفضاء يظلم شيئا فشيئا إلى أن أقبل الغسق بخيله ورجله، باسطا أجنحة هدوئه وسكينته على جميع الكائنات التي تحت الشمس.
أمام هذا المنظر الذي تتشنج به الأعصاب لا يتمالك القلب الحزين عن سكب العبرات وإصعاد الزفرات.
إنه إذ كانا يسيران على شاطئ البحر في صباح ذلك اليوم فاتحت مرغريت زوجها بالموضوع الذي أتعب فكرها تلك الليلة وحرمها لذة النوم، فطلبت أولا فسخ إكليلها مع ألبير، ثانيا أن تكلل على روجر إكليلا كنسيا شرعيا، ولم يكن روجر يقاطعها في أثناء حديثها هذا، وعندما أتمت قولها هذا بدت على وجهه سمات الرجولية المهيبة وقال لها: لا يا مرغريت؛ فإن هذا لا يمكن. - ولم يا روجر؟ - هذا أمر مستحيل، وأنا أرفض ذلك. (قال بحماسة وقوة مقرونتين بدعة تامة، ووضع يده على ساعدها مداعبا، فتمتمت قائلة: لا أفهم.) - ألا تفهمين اعتقادي بتمام زواجنا وتريدين أن نطلب عتقا وهميا، ومن يعطي هذا؟! لا أسمح لك بالرجوع إلى الماضي، وقد قلت هذا مرارا على مسامعك ، إن الماضي قد انقضى، وقد كان لك تمام الحرية حينما قبلتني زوجا لك، وتلك الحرية محدودة الآن. - أنا غير آسفة على حريتي يا روجر، لكن حبا بمكسيم.
فرفع روجر قبعته وأمر يده على جبهته يمسح عنها عرقا كأنه يقطر من أحشائه ، فظنت أن رضاه قريب؛ لهذا مالت نحوه قائلة بصوت رخيم: أريد ذلك من صميم القلب يا روجر.
فحملق في وجهها طويلا ثم قال بحدة هذا حدها: إنك توجعيني بهذا القول. نعم، لو يوم طلبت أخذ يدك أبيت بداعي أن الشريعة الكنسية تحرم ذلك، لكنت امتثلت لاعتقادك هذا وعدت صامتا، بل لم يخطر ببالك وقتئذ هذا الأمر، والآن بعد أن أصبحت زوجتي وأم ولدي أخذت تتشبثين بأمر الكنيسة؟! لعمري إن في هذا لعجبا عجابا! ألا تعلمين أنك لي حتى الموت، إلى الأبد؟! - لم أقصد أن أجرحك يا روجر، إنما أردت أن أفهمك هذا الفكر الذي يصعب علي. - هذا الفكر! وأي فكر؟ - إن زواجي الأول لا يزال مقيدا في سجل الكنيسة.
وبعد أن غشت وجهه صفرة أشبه بتلك التي على وجوه الموتى، أمسك يديها بعنف وقال: دعينا من هذا الموضوع، فلنعد إلى الفندق أو نذهب إلى حيث هو مكسيم. ثم سارا صامتين منخفضي الرأس إلى أن لمحا مكسيم عن بعد مع مرضعه، فأسرعا في خطاهما ثم ساروا جميعا. أما مرغريت فإنها استشاطت غيظا لأنه رفض طلبها، مع أن ذلك يعرب عن عاطفة شريفة ونفس عزيزة لا تقدر أن تحتمل سمة العار. وفي كل الأيام الماضية كان روجر أطوع لها من بنانها ورهن إشارتها، على أنها كانت متحققة أنه لا يبخل عليها بروحه إذا طلبتها، لكنها لم تعلم أنه كان حليما مطيعا في الأشياء الثانوية فقط، مع أنه في حقيقة الأمر كان صلب الرأي، ثابت الكلمة، قاسي الطبع، لكنه طيب القلب، وعندما يستدعيه عليل ما لمعالجته كان يبذل الطاقة في شفائه إذا أطاعه العليل، وإن لم يعمل بحسب مشوراته بل خالف منها حرفا واحدا تركه وشأنه ولم يعد إليه؛ وذلك لأنه كان يعتقد أن الدعوة نتيجة الثقة التامة، والثقة تقتضي الطاعة الكاملة. ولما رضيت به مرغريت بعلا لها رأى في هذا الرضى برهانا كبيرا على تمام ثقتها به، وعندما عرف نفسه أهلا لهذه الثقة قبل بسرور واجبات الزوجية، وفي كل المعاني الثانوية لم تكن إرادته سوى صدى إرادتها، لكنه لم يسمح لها بارتكاب خطأ فاضح كهذا، بل كيف يدعها تتصور لحظة واحدة أن اقترانها غير تام؟! نعم، إنه جعل حبه وقفا لها، لكن هذا الحب كان صادرا من آمر واجب الطاعة؛ فلا غرو إن كانت ضعيفة، فإنه قوي ثابت، وإذا وقعت على الحضيض فعليه أن يقيل عثرتها ويحمل قلة صبرها، وهو مكلف أن يحمل قلبه سائر همومها وأحزانها؛ لأنه يحبها ويشفق على ضعفها، غير أنه لا يريد أن يدعها تشك دقيقة واحدة في صحة اتحادهما.
لم يكن روجر يعتقد شيئا مما يتعلق بالأديان؛ ولذا كانت الكنائس والمعابد وخدمتها وكل ما له علاقة بهذه الأمور كلا شيء عنده، وهذا كان عيبه الوحيد.
ثم جلس في ذلك المساء وراء مكتبه يقرأ الرسائل الواردة إليه في ذلك اليوم، وغرقت مرغريت في بحر هواجس وتخيلات معذبة، ولم يكن إلا القليل حتى سمعت في قلبها صوت ألبير، ومر بذهنها أن إيڤون تناديها، فانتفضت للحال وقالت لروجر: هأنذا ذاهبة إلى بائع الأزهار، وربما دخلت الكنيسة بعد ذلك. - وأنا باق في مكتبي لانشغالي بكتابة جملة تحارير. فهم من لهجتها أنها تود الخروج وحدها، وبعد أن توارت عنه لأنه كان يراها من نافذة غرفته، تنفس الصعداء، وأقسم بأنه سيدافع عنها حتى الموت. وأما هي فترى قلبها مفعما حبا وغما معا، ذهبت تبتاع أزهارا لترسلها إلى ابنتها الراقدة في الرمس.
صفحة غير معروفة