لا تلبث العوامل الخارجية المؤثرة في الإنسان - كالعوامل الاقتصادية والتاريخية والجغرافية - أن تتحول إلى عوامل نفسية، ومن يرغب في الحكم فعليه أن يعلمها، وقد جهلتها المجالس الثورية واطلع عليها بوناپارت.
كانت المجالس - ولا سيما مجلس العهد - مؤلفة من أحزاب متطاحنة فأدرك ناپليون أن تغلبه عليها يتطلب ألا ينتسب إلى أحد منها، وهو لعلمه أن قيمة الأمة بما في أحزابها من ذوي العقول السامية سعى في الانتفاع بها كلها، فعين الوزراء والولاة والقضاة من حزب الأحرار والحزب الملكي والحزب اليعقوبي ناظرا إلى أهليتهم وحدها.
ومع أنه لم يرفض مساعدة رجال الدور السابق كان يعرب عن ميله إلى المحافظة على مبادئ الثورة الفرنسية، وهذا لم يمنع الملكيين من الانضمام إلى نظامه الجديد.
وإعادة السلم الدينية من أهم الأعمال التي قامت بها القنصلية، فقد كان انقسام فرنسة من أجل الدين أشد من انقسامها السياسي، وقد شعر بوناپارت بأن أمر طمأنينة النفوس في يد البابا فلم يتأخر ساعة عن مفاوضته، ونعد المعاهدة التي عقدها بوناپارت مع البابا من الأعمال النفسية العظيمة الشأن؛ فالقوى الأدبية لا تقاتل بالعنف، وتؤدي مكافحتها إلى أخطار كبيرة، وقد علم ناپوليون بمداراته الكهنة كيف يملكهم، وهو بجعله أمر تعيينهم وعزلهم من حقوقه ظل سيدهم.
وما لقيه القنصل الأول بوناپارت من المصاعب في العهد القنصلي كان أشد مما لقيه بعد تتويجه، فكان عليه أن يطارد اللصوص الذين ظلوا مثابرين على قطع الطرق، وأن يقضي على العصابات التي كانت تخرب فرنسة الجنوبية، وأن يداري تاليران وفوشه وقوادا آخرين كانوا يحسبون أنفسهم من أمثاله، وقد ذلل ناپليون هذه العقبات قبل جلوسه على العرش.
مضى العهد الذي سخط فيه المؤرخون العمي والشعراء على إسقاط مجلس النواب، وقد بينا أن الحكومة لم تأتمر بهذا المجلس وحدها، بل ائتمرت به فرنسة التي حررها ذلك الإسقاط من الفوضى، وهنا نسأل: لماذا أتى أذكياء العلماء أحكاما غير صحيحة في دور تاريخي واضح مثل ذلك الدور؟ لا ريب في أن علة ذلك هو نظرهم إلى الحوادث من خلال عقائدهم، وإذ إن الحقيقة تتبدل في نفوس المعتقدين فإن أكثر الأمور وضوحا غابت عنهم، ولم يكن تاريخ الحوادث سوى ما أملاه الخيال عليهم.
ولا يستطيع العالم النفسي أن يطلع على سر ذلك الدور الذي وصفناه بإيجاز إلا إذا تحرر من قيود العواطف الحزبية،،حينئذ لا يلوم ماضيا نشأ عن مقتضيات الزمن المهيمنة، وهذا لا يمنعنا من القول إن ناپليون حمل فرنسة عبئا ثقيلا لانتهاء قصته بغارتين أغارهما الأجنبي عليها، ولغارة ثالثة نشأت عن ارتقاء وارث اسمه إلى العرش ولا نزال نقاسي نتائجها.
ولتلك الحوادث ارتباط بمصادرها، وهي تدل على ما ينشأ عن تبديل مثل الأمة الأعلى من النتائج، فالإنسان لا يقدر على الانفصال بغتة عن ماضيه إلا بتخريب مجرى تاريخه تخريبا تاما.
الفصل الثالث
النتائج السياسية التي نشأت في قرن واحد عن تصادم التقاليد والمبادئ
صفحة غير معروفة