وبما أنه لا محل للرحمة في تنازع الخيالات المتباينة، أي المعتقدات التي لا شأن للعقل فيها، لم يلبث الصراع الذي وقع في ڤانده أن اتصف بقسوة لا تحدث إلا في الحروب الدينية، وقد استمر هذا الصراع حتى أواخر سنة 1795، حين وطد أوش دعائم السلام في ڤانده، ولم تخمد الفتنة فيها إلا بإبادة عصاتها، قال مولنياري:
أصبحت ڤانده قاعا صفصفا بعد حرب أهلية استمرت سنتين، وهلك فيها 900000 نفس تقريبا، ولم يبق طعام ولا مأوى للذين ظلوا أحياء فيها بعد تلك المذابح.
وإذا صرفنا النظر عما عند جيوش الثورة الفرنسية من الإيمان الذي يتعذر معه قهرهم رأينا أنهم فاقوا غيرهم بقادتهم النوابغ الذين أنجبت بهم ساحات القتال، فلما هاجر أكثر قادة الجيش الذين هم من طبقة الأشراف إلى البلاد الأجنبية سنحت لأصحاب الأهلية الحربية فرصة أبدوا فيها مواهبهم فتدرجوا في بضعة أشهر إلى جميع المراتب، ومن هؤلاء أوش الذي كان في سنة 1789 عريفا فصار قائد فرقة ثم قائد جيش في الخامسة والعشرين من عمره، وقد كانت بسالة هؤلاء القواد تمنحهم روحا هجومية لا عهد لجيوش الأعداء بها، وهم لعدم تقيدهم بالتقاليد وعدم تطبعهم بالعادات أبدعوا فنا حربيا ملائما لمقتضيات الزمن.
ولا تقدر الجنود غير المجربة على الحركة إزاء كتائب اتخذت الجندية مهنة لها، وتدربت على الطرق المستعملة منذ حرب السنين السبع، إلا أن قيام جموع كثيرة بالهجمات ذلل ذلك، فالعدد الكبير هو الذي كان يمكن القواد من القيادة، وهو الذي كان يسد الفراغ الناشئ عن طريقة الهجوم المذكورة المؤثرة مع ما فيها من قسوة.
وكانت الجموع الكثيفة عند هجومها على العدو بالحراب تهزم كتائبه المتعودة طرقا تدارى بها حياة الجند، وجعل بطء إطلاق الرصاص في ذلك الوقت فن فرنسة الحربي أسهل استعمالا، فبه تم النصر لها، غير أنه أهلك كثيرا من أبنائها، فمنذ سنة 1792 حتى سنة 1800 قتل في ساحة الحرب ما يقرب من ثلثهم (أي 700000 من مليوني مقاتل).
ولنثابر على استخراج النتائج من الحوادث التي بحثنا عنها في هذا الكتاب بحثا نفسيا:
دلنا البحث عن الجماعات الثورية في باريس وفي الجيوش على ما لهذه الجماعات من مختلف الأطوار، ويسهل شرح هذه الأطوار، فقد أثبتنا أن الجماعات إذ كانت عاجزة عن التعقل فإنها تسير كما تحرض، ورأينا أيضا أنها ذات بسالة متناهية وأن مزية محبة الغير تكون نامية عندها في الغالب، وأنه يسهل علينا أن نجد فيها ألوفا من الرجال مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل أحد المعتقدات.
وصفات نفسية مثل هذه تؤدي إلى أعمال متباينة بحسب الأحوال، والدليل على ذلك ما ورد في قصة مجلس العهد وجيوشه، فقد أثبتت هذه القصة أن جماعات مؤلفة من عناصر متقاربة سارت في باريس وفي الثغور سيرا مختلفا اختلافا يجعل الإنسان يظن أنها لم تكن من شعب واحد.
فكانت الجماعات في باريس مضطربة قاسية سفاكة للدماء متقلبة في رغائبها تقلبا يستحيل معه أن يستقيم أمر أية حكومة ، وكانت الجماعات في الجيوش خلاف ذلك، أي لما اختلطت هذه الجماعات بالجنود، أي بفريق الأمة الذي شب على حب النظام من فلاحين وعمال، وتم ترويضها بالتعليم الحربي واجتذابها بالحماسة السارية، أوجب ذلك كله صبرها على ضنك العيش، واستخفافها بالمهالك، وساعد على تأليف فئة عجيبة انتصرت على أشد جيوش أوربة سطوة.
ويستدل بمثل هذه الأمور على تأثير النظام، فهو يحول الرجال، ولا تلبث الأمم التي تتحرر منه أن تصبح قبائل بربرية، ولا تزال هذه الحقيقة تغيب عن بال أولياء الأمور، ويؤدي جهلهم سنن الجماعات إلى العمل بما تضعه هذه الجماعات من الخطط بدلا من قيادتها.
صفحة غير معروفة