ولذا لا نعجب من تناقض آراء المؤرخين في الثورة الفرنسية، وسيظل بعضهم يعدها حادثة مشؤومة، كما يظل بعضهم الآخر يعدها حادثة مجيدة.
واليوم قد نسي الناس رواة الثورة الفرنسية المتقدمين كتيار وكينه وميشله مع ما اتصف به هذا الأخير من حسن القريحة، ففي آرائهم شيء من الغموض، ويتغلب عليها مبدأ القدر التاريخي، ومن ذلك أن تيار كان يعد الثورة الفرنسية نتيجة طبيعية للنظام الملكي المطلق ويعد الهول نتيجة غارة الأجنبي، وأن كينه كان يعتبر ما حدث سنة 1793 من الاضطهاد نتيجة استبداد قديم، وأن ميشله كان يعتبر الثورة الفرنسية عملا شعبيا جديرا بالإعجاب والتعظيم.
وقد محا تاين كثيرا من نفوذ هؤلاء، فهو مع شدة بيانه أوضح كثيرا من حقائق الثورة الفرنسية، وعما قليل يصبح كتابه مرجعا لا يقوم مقامه كتاب آخر.
ولا يخلو كتابه من عيوب، فهو - وإن أجاد رواية الحوادث ووصفها - فسرها بالمنطق العقلي مع أن العقل لم يملها، وهو بإثباته غطرسة روبسپير الذي قتل كثيرا من رجال العهد في بضعة أشهر لم يكتشف علة سلطانه على هذا المجلس، ولذلك أصاب من قال: إن تاين أحسن الرواية وأساء الفهم.
وكتاب تاين عظيم الشأن على ما فيه من النقص، ولم يؤلف ما يعدله، ويظهر لنا نفوذ هذا الكتاب عند الاطلاع على الغيظ الذي أوجبه في أنصار المذهب اليعقوبي المخلصين الذين يرأسهم الآن أحد أساتذة السوربون، مسيو أولار، فقد وضع مسيو أولار في سنتين رسالة مشبعة من روح الغضب على تاين، وهو مع ما قضاه من الوقت في تصحيح بضع أغاليط مادية في كتاب تاين لم يصن نفسه عن ارتكاب مثلها.
وأحسن نقد لكتاب تاين هو القول إنه ناقص، فهو مع بحثه فيه عن شأن الرعاع وزعمائهم أيام الثورة الفرنسية، ومع إملاء ذلك عليه صفحات سخط تقضي بالعجب غابت عنه وجوه كثيرة من هذه الثورة.
وسيستمر الخلاف بين أنصار تاين وأنصار أولار، وهذا الخلاف يتجلى، على الخصوص، في أن أولار يعتبر الشعب حكيما وتاين يقول إن الشعب لما سار بغريزته وحرر من الزواجر الاجتماعية عاد إلى دور الهمجية الأولى، ولا يزال رأي مسيو أولار المخالف لقواعد روح الجماعات مذهبا دينيا عند اليعاقبة في الوقت الحاضر، فهؤلاء يسلكون فيما يكتبون عن الثورة الفرنسية طرق المعتقدين وينتحلون في المصنفات العلمية أدلة علماء اللاهوت. (2) نظرية القضاء والقدر في تفسير الثورة الفرنسية
أنصار الثورة الفرنسية وأعداؤها يرون في الغالب أن الحوادث الثورية تقع قضاء وقدرا، قال إميل أوليڤيه في كتاب «الثورة الفرنسية»: «لا يقدر أحد أن يقاوم الثورات، فالإنسان عاجز عن تبديل العناصر ومنع وقوع الحوادث الناشئة عن طبيعة الأحوال »، وقال تاين: «كان سير الأفكار والحوادث عند افتتاح مجلس النواب - أي في بدء الثورة الفرنسية - أمرا مقدرا، فكل إنسان يحمل مستقبله وتاريخه من غير أن يعلم»، وقال مسيو سوريل: «إن الثورة الفرنسية التي ظهرت لبعض الناس أنها هادمة ولبعض آخر منهم أنها مجددة هي نظم طبيعي ضروري لأوربة، فقد صدرت عن الماضي، ولا يمكن إيضاحها إلا بنور العهد السابق»، وقال غيزو: «لم تقف الثورة الإنكليزية والثورة الفرنسية سير الحوادث الطبيعي في أوربة ولم تقولا شيئا لم يقل في الماضي ولم تفعلا شيئا لم يفعل مئة مرة قبل انفجارهما، فإذا نظرنا إلى أعمال تينك الثورتين، أي إلى شكل الحكومة والقانون المدني ونظام الأحوال الشخصية والحرية، لم نجد شيئا ابتدعاه.»
فكل هذه الأقوال تذكرنا بالمبدأ المعروف القائل: إن الحادثة نتيجة حادثة سابقة.
بيد أن ذلك المبدأ لا يدلنا على شيء كثير، فلا يجوز إيضاح كثير من الحوادث بمبدأ القدر التاريخي الذي رضي به كثير من المؤرخين، فالتاريخ - وإن قص علينا أمورا وقعت بفعل الضرورة - قص علينا أمورا أخرى وقعت عرضا، ومن ذلك أن ناپليون بوناپارت لم ينج من الموت عندما كان يغتسل في أكسون سنة 1786، إلا بمصادفته كثيبا، فلو مات ناپليون في تلك الساعة وقلنا إن قائدا آخر كان يظهر ليقبض على زمام الحكم المطلق فما عسى أن يكون مذكورا في القصيدة الإمبراطورية الحماسية عوضا من ذلك العبقري الذي قاد جيوش فرنسة ظافرة إلى فتح عواصم أوربة؟
صفحة غير معروفة