ويقتضى، لإدراك سير الثورة الفرنسية، أن يبحث عن الفرق بين المجلس المتخالف والنادي المتجانس، فالأندية هي التي سيطرت على الثورة الفرنسية حتى عهد الديركتوار، وقد كانت هذه السيطرة شديدة في دور العهد كما هو معلوم.
وتخضع الأندية لنواميس روح الجماعات على رغم وحدة عزائمها الناشئة عن فقدان الأحزاب فيها، فهي تستكين للزعماء كما شوهد في النادي اليعقوبي الذي كان يقوده روبسپير.
ويكون تأثير الزعيم في النادي - أي في الجماعة المتجانسة - أصعب مما في الجماعة المتباينة، فلكي تسير الجماعة المتخالفة يكفي أن يهتز عدد قليل من أوتارها، وأما الجماعة المتجانسة - كالنادي مثلا - حيث تكون المشاعر والمنافع واحدة فيجب لسوقها مداراة هذه المشاعر والمنافع، وبهذا قد يصبح الزعيم مرؤوسا.
وللجماعات المتجانسة قوة عظيمة في خفائها، فقد كفى أيام الكومون أي سنة 1871، بضعة أوامر خفية لإحراق أجمل أبنية باريس كدار البلدية وقصر التويلري وديوان المحاسبة وبيت جوقة الشرف، والمصادفة هي التي أنقذت وقتئذ قصر اللوڤر وما فيه من الآثار الفنية، والآن يصغى باحترام إلى الأوامر التي يصدرها زعماء العمال المستترون على رغم مخالفتها للصواب، ولم يكن الانقياد لأندية باريس وللجمعية الثورية المتمردة أقل من ذلك أيام الثورة الفرنسية، فكانت - بأمر واحد منها - تسوق رعاعا مسلحين إلى المجلس الاشتراعي لإملاء مطالبها عليه، وسنرى، عند بحثنا في تاريخ مجلس العهد، وقوع مثل هذه الغارات كثيرا وانقياد هذا المجلس، الذي وصفته الأقاصيص بشدة البأس، لأوامر عصابة من الغوغاء.
تدلنا الملاحظات السابقة على ما لروح الجماعة من التأثير في إدارة أعضائها، فإذا كانت الجماعة متجانسة كان هذا التأثير عظيما، وإلا كان أقل من ذلك، وقد يصبح عظيما لتغلب الجماعات النافذة في المجلس المتخالف على الجماعات الضعيفة الالتحام أو لانتشار بعض المشاعر بالعدوى بين أعضاء هذا المجلس.
وأحسن مثال نورده على تأثير الجماعات هو القرار الذي تنزل فيه الأشراف عن امتيازاتهم الإقطاعية في الليلة الرابعة من شهر أغسطس (أيام الثورة الفرنسية)، وسبب ذلك أن الناس وهم في الجماعة غيرهم وهم منفردون، فلو سئل كل شريف عن رأيه وهو منفرد لأجاب أنه لا يتنزل عن حقوقه أبدا.
وقد أورد ناپليون، وهو في جزيرة القديسة هيلانة، أمثلة عجيبة على تأثير المجالس في أعضائها فقال: «كنا نصادف في ذلك الوقت أشخاصا كانوا يسيرون على غير ما سمع عنهم، خذ مونج مثلا تر أنه صعد في منبر اليعاقبة لما اختيرت الحرب وصرح بأنه يهب ابنتيه مقدما للجنديين الأولين اللذين يجرحهما العدو، وكان يود أن يقتل جميع الأشراف، مع أنه كان من أكثر الناس دماثة وأشدهم ضعفا، ولو اضطر إلى ذبح فروجة ما فعل ذلك وما سمح لأحد أن يفعله أمامه». (3) اشتداد المشاعر التدريجي في المجالس
لو أمكننا أن نقيس بعض مشاعر الجماعات ببعض قياسا رياضيا لاستطعنا أن نرسمها على خط منحن يصعد من طرفه الأول ببطء ثم بسرعة ثم يهبط إلى طرفه الثاني عموديا، ويمكن أن تسمى هذه المعادلة معادلة تحول مشاعر الجماعات المحرضة تحريضا مستمرا.
ولو كانت سنن علم النفس مشابهة لسنن الميكانيكا لجاز لنا أن نعتبر أن علة ثابتة المقدار مستمرة التأثير تزيد المشاعر سرعة، فمن المعلوم أن قوة ذات مقدار ثابت واتجاه مستمر كالجاذبية المؤثرة في أحد الأجرام تحدث في الجرم حركة زائدة السرعة فتكون سرعة الجرم الساقط في الفضاء بتأثير الجاذبية عشرة أمتار في الثانية الأولى وعشرين مترا في الثانية التالية وثلاثين مترا في الثانية الثالثة.
غير أن هذا المقياس الذي قد تقاس به سرعة المشاعر التابعة لمؤثرات مستمرة لا يوضح لنا سبب توقف هذه المؤثرات بغتة عن التأثير، ويمكن إدراك هذا التوقف بقياسه على سنن وظائف الأعضاء، فمن قواعد علم وظائف الأعضاء أن للذة والألم حدودا لا يمكن تعديها، وأنه ينشأ عن كل تشديد على الأعضاء شلل في الحس، وأن أعضاءنا لا تحتمل غير مقدار محدود من الفرح والألم والمجهود، وأن اليد التي تشدد على مقياس القوة لا تلبث أن تستنفد قوتها فتضطر فجأة إلى الكف عن إمساكه.
صفحة غير معروفة