ما نقوله عن ثبات الروح القومية يدلنا على ما للنظم التي قامت منذ زمن بعيد من القوة، نعم، يقدر المؤتمرون على خلع الملك، ولكنهم يعجزون عن فعل شيء لا يلائم المبادئ التي يمثلها الملك ، فلما خلع ناپليون لم يخلفه وارثه الممثل لمبادئ غير ثابتة في النفوس، بل ورثه ابن الملوك الممثل لمبدأ قديم.
ومهما يكن الوزير ماهرا بارعا في خدمة بلاده فقد لا يقدر على خلع ملكه، ولو أراد بسمارك ذلك ما استطاع، مع أنه كفى لسقوط بسمارك، وهو الذي صنع الوحدة الألمانية وحده، إشارة صغيرة من سيده.
على أننا إذا فرضنا وجود أسباب مختلفة تلاشي الحكومة والمبدأ الذي تمثله، كما وقع أيام الثورة الفرنسية، فإن العناصر التي يتألف منها نظام المجتمع الحقيقي لا تزول كلها في الوقت نفسه، فلو اقتصر ما نعلمه عن فرنسة على ما وقع فيها من الانقلابات منذ عصر لقلنا إنها فوضى، والواقع أنها تبدو للناظر ذات حياة اقتصادية صناعية سياسية مستمرة بعيدة من الانقلابات والأنظمة.
فبجانب الحوادث العظيمة التي يهتم بها التاريخ أمور صغيرة تخص الحياة اليومية ولا تعبأ الكتب بذكرها، وهي تابعة لعوامل مهيمنة لا تقف أبدا، ويتألف من مجموعها لحمة حياة الأمة.
إذن من قادة الأمة الحقيقيون؟ لا ريب هم الملوك والوزراء في الأحوال العظيمة، ولكن لا شأن لهؤلاء الرجال في الأمور الصغيرة التي تتألف الحياة اليومية منها، فالقوى الحقيقية التي تسير البلاد هي عناصر الإدارة غير الشخصية التي لا يؤثر فيها ما يصيب نظام الحكم من التحولات، ولهذه الإدارة، ذات التقاليد المحافظة المنصفة بالدوام والخفاء، قوة تنحني أمامها القوى الأخرى، وقد بلغ تأثيرها مبلغا أوشك أن يكون لها به دولة خفية أقوى من الدولة الرسمية، وسيأتيك تفصيل ذلك.
الفصل الرابع
شأن الأمة في الثورات
(1) ثبات روح الأمة ومرونتها
يستلزم الاطلاع على أحوال إحدى الأمم الوقوف على بيئة تلك الأمة، ولا سيما ماضيها، فالماضي - وإن أمكن إنكاره نظريا، كما فعل رجال الثورة الفرنسية وكثير من رجال السياسة في الوقت الحاضر - لا يفنى تأثيره.
ففي الماضي الذي هو تعاقب الأجيال تتكون عناصر روح الأمم من أفكار ومشاعر وتقاليد وأوهام، ولولا هذه العناصر التي لا ارتقاء بغيرها لاضطر كل جيل إلى استئناف العمل.
صفحة غير معروفة