فالرأي الأول: يعد الثورة الفرنسية معتقدا يجب قبوله أو رفضه بأسره، والرأي الثاني: يعتبرها سرا غامضا، والرأي الثالث: يعدها حادثة لا يجوز الحكم فيها قبل نشر كثير من الوثائق الرسمية التي لم تطبع بعد، ولا يخلو البحث بإيجاز عن قيمة هذه الآراء الثلاثة من فائدة.
تعتبر الأكثرية في فرنسة تلك الثورة من المعتقدات، ولذلك تظهر لهذه الأكثرية حادثا ميمونا قد أخرجها من طور الهمجية وحررها من ظلم الأشراف، ولا يزال يعتقد كثير من رجال السياسة أنه لولا نشوب الثورة الفرنسية لكانوا الآن أجراء عند الأمراء الإقطاعيين.
وقد ظهرت هذه الحالة النفسية في بحث مهم خصصه السياسي الشهير، مسيو إميل أوليڤيه لمناهضة كتابي، فبعد أن ذكر هذا العضو الفاضل في المجمع العلمي النظرية التي تعد الثورة الفرنسية حادثة غير نافعة قال:
تناول غوستاڤ لوبون هذا الموضوع فجاء في كتاب حديث بحث فيه عن روح الثورة الفرنسية، وتجلت فيه قوة تأليفه وبيانه «أن الثمرة التي اقتطفت بعد القيام بكثير من أعمال التخريب لا بد من نيلها في نهاية الأمر مع سير الحضارة بلا عناء.
لم يرض أوليڤيه بهذا الرأي، فالثورة الفرنسية عنده ضربة لازب، وقد ختم كلامه بما يأتي:
هل يأسف على وقوع الثورة الفرنسية من لا يريد أن يكون مسخرا لصيد الضفادع في الغدران لكيلا تقلق الأمير الإقطاعي في نومه؟ وهل ينوح على حدوثها من لا يريد أن يري كلاب شاب عات تخرب حقله؟ وهل يحزن على نشوبها من لا يريد أن يسجن في البستيل لولع رجل من بطانة الملك بزوجته أو لانتقاده أحد الوجوه؟ وهل يأسى على اشتعالها من لا يريد أن يبغي عليه وزير أو موظف وأن يكون تحت رحمة أحد من الناس، وأن يؤخذ منه أكثر مما يفرض عليه، وأن يهينه ويشتمه من يدعي أنه فاتح؟ - لذلك أشكر، وأنا من الطبقة الوسطى، أولئك الذين أنقذوني، بعد عناء شديد، من هذه القيود التي لولاهم لظلت تقيدني، وأهنئهم على الرغم من زلاتهم.
فالمعتقد الذي تجلى في مثل هذه الكلمات قد ساعد - مع قصة ناپليون - على جعل الثورة مرضيا عنها في فرنسة، ومصدر هذا الوهم الشائع، حتى بين كثير من أقطاب السياسة، هو المبدأ القائل: إن طرق الحياة عند الأمة تكون وفق نظمها، والواقع أن تلك الطرق تابعة للمبتكرات العلمية والاقتصادية، فتأثير القاطرة في مساواة الناس غير تأثير المقصلة، ولا ريب في نيلنا، منذ زمن طول، ما بلغناه وبلغته أمم كثيرة من المساواة والحرية سواء علينا أشتعلت هذه الثورة أم لم تشتعل.
ويؤدي الرأي الثاني، القائل إن الثورة الفرنسية سر غامض، إلى محافظة هذه الثورة على نفوذها أيضا، فإليك ما جاء في مقالة خصصها مدير إحدى الجرائد الكبيرة في باريس، مسيو دورمون، للبحث في كتابي:
لم تزل الحوادث المدهشة التي زعزعت أركان العالم لغزا من الألغاز، ولم تكتشف مباحث علم النفس سر تلك الأزمة العجيبة التي ستبقى معدودة من حوادث التاريخ الخارقة.
وينشأ عن تلقي الثورة الفرنسية على هذا الوجه ظن الناس أنها سلسلة وقائع نشأت عن عوامل خفية، وتدل الكلمات التي أوردناها على درجة الشكوك والريب التي تزيد البحث في الثورة المذكورة إبهاما وتسوغ حكمة العلماء الذين يقتصرون على نشر الوثائق.
صفحة غير معروفة