أما اعتياد البساطة في العيش، وتكبد المشاق لاعتيادها، والمرنة على الأعمال للتشدد وتقوية الجسم، فإنها من أعظم الوسائل المؤدية إلى نجاح المرء في المعترك الحيوي، وفوزه على المصائب إن صادفته في طريق الحياة، وإن نتيجة التدرب على شظف العيش واحتمال الأتعاب لخير من ألفة الملاهي وكرع كئوس النعيم والراحة. وقد يخرج من اعتاد هذا في صغره إلى مضمار التزاحم العالمي حرا مستقلا قويا شديدا يمكن الاعتداد به والاعتماد عليه، فلا يبيع ضميره ولا حريته بأي ثمن، ويكون أكثر استعدادا للحصول على السعادة والتمتع بها من كل مدلل مترف.
والمشاهد المعروف من التجارب الكثيرة أن وفرة أسباب العيش والرخاء مدعاة إلى الكسل وضعف الإرادة وإخماد الحواس، وإلى كثرة الأوهام وانقباض الصدر لغير سبب، وقد تظهر الشاب متعوبا منهوكا، وفي شكل من طحنته الأيام. وليس أشق على الهيئة الاجتماعية من وجود فريق كبير من هذا النوع الإنساني الساقط بينها، فإن عليهم وحدهم ظهرت في شكل الأوباء كل آثار الضعف والعادات المرذولة التي مارسوها في الحياة، وفي منظر ذلك الفريق التعس عبرة للناظر ودرس للمبتدئ، فإن العين تقرأ بين سطور التجاعيد المطبوعة على جباههم أحكم المواعظ التي تزجر وتردع العاقل.
إن هذه الحال من الشقاء تنطق بأفصح عبارة مشيرة إلى أن السعادة كل السعادة في أن يكون الإنسان عاملا حيا في الاجتماع، نشيطا مقداما غير خاضع لسلطان الشهوات الفاسدة، وتأثير الغواية الضالة، مالكا عواطفه وإرادته؛ لينعم بطيبات الحياة، ويكون لقلبه الخلو من المشاغل قوة على التعلق بالكمالات وحب كل جليل وجميل. •••
الحياة المرتبكة تولد سخف الأفكار وهراء القول، أما العادات الحسنة والانفعالات النفسية القويمة والبحث الدائم عن الحقائق، فإنها تنتج الحرية في القول والفكر.
والكذب خصلة مرذولة من خصائص المستعبد الرقيق، وهي ملجأ الجبان والبليد وقليل الهمة. أما من كان حرا صحيح الحرية ورزينا ثابتا فإنه لا يخضع إلا لسلطان الحق والعقل، ولا يخشى في نشر الحقيقة لومة لائم، ولا جبروت المعتسف. والتربية الصحيحة تقضي على المربي بتعويد الأطفال الصدق وقول الحق بلا تمشدق ولا تحوير، ولا تلعثم في كل الظروف والأحوال.
إن فريقا كبيرا من الجمهور يعد من الفظاعة وعدم اللياقة اعتماد الشخص على فكره عند التفكير، وترك القلب لتأثير الوجدان والعواطف عند التأثر. ويستاء الناس من استعمال الإنسان مواهبه الذاتية، ومن اعتماده على قوته ونفسه، مع أنه لا يوجد أفظع ولا أسفل من التربية التي تميت في الآدمي مواهب الإنسان ومزايا تلك المواهب.
يا للناس من سوء ما فعلوا! ويا لله مما جنوه على النفوس وعلى الهيئة الاجتماعية بالضغط الشديد على الفكر والقول، وبإزهاق روح الحرية والاستقلال الذاتي بكل وسائل الاعتساف والإرهاق! كأنما يحلو لهم أن يروا الأطفال صورا وألاعيب، والرجال تماثيل متحركة بإرادة الغير وآلات تعمل ولا تدرك!
هذا هو السبب الرئيسي في ضياع الإقدام ودلائل الحياة الحقيقية، وتسلط السماجة والضعف، وبقاء الإنسانية بلا ارتقاء صحيح، ولا تكمل صالح.
الحقيقة مرة وجارحة ولكنها الحقيقة، فليعلم الحكيم أبناءه احترام أنفسهم والتمسك بحقوقهم وحريتهم الشخصية، وليعودهم قول الحق صراحا بلا تشنيع فيه ولا تلطيف من مرارته، وليحبب إليهم الاستقامة والاحتفاظ بالكرامة حتى في حالات العسر وأخطر مزالق البؤس والشقاء، فإن بذل ماء الوجه أصعب على الشريف من هدر دمه وإزهاق روحه. •••
ليس في الصفات خير من السذاجة وسلامة الضمير وصفاء القلب، وهذه فطرة الأطفال قبل أن تفسد قلوبهم شرور المجتمع الإنساني، وقبل أن تنقل إليها عدوى الأخلاق عوامل الفساد. وليست السذاجة أختا للحقيقة فقط، وإنما هي قوة أخلاقية لا خبث معها ولا نفاق ولا إضمار. ومن الأسف الشديد أن كثيرا من الناس يعملون على بتر هذه الصفة الحميدة وملاشاتها من الوجود بما استطاعوا من قوة وحول، ويجهدون أنفسهم لاستئصالها من الحياة والفكر والتربية، ويتعقبونها حتى في عالم الخيالات والأوهام، ولتعجلهم في جعل أبنائهم رجالا قبل الاكتمال يسلبونهم كل صفات الأطفال ومميزات الطفولة. وشأنهم في ذلك شأن البستاني الجاهل الذي ينزع عن الأشجار أوراقها الخضراء فلا تزهر ولا تثمر.
صفحة غير معروفة